الفنان التشكيلي.. عبد الوهاب عبد المحسن

"علاقتي بالفن بدأت في المدرسة"

حاوره: ‬أحمد‭ ‬اللاوندي

عبد الوهاب فنان تشكيلي مصري، ولد بمحافظة الدقهلية عام (1951)، حصل على بكالوريوس الفنون الجميلة قسم جرافيك من جامعة الإسكندرية (1976)، ودبلوم الدراسات العليا جرافيك (1986)، والماجستير في الجرافيك من كلية الفنون الجميلة جامعة حلوان (1993) "فن الجرافيك المعاصر بالإسكندرية". نال دكتوراه الفلسفة في الفنون الجميلة من جامعة حلوان (1998) تحت عنوان: "رؤية تشكيلية معاصرة لرسالة الغفران لأبي العلاء المعري من خلال فن الحفر".
 

هو –أيضاً- عضو في لجنة الفنون الشعبية بالمجلس الأعلى للثقافة، ونقابة الفنانين التشكيليين، وجماعة الفنانين والكتاب بأتيلية القاهرة، وجمعية الحفر الدولية SMTG كراكوف ببولندا. أيضاً؛ أستاذ التصميم بالمعهد العالي للفنون التطبيقية. كما أسس وقام بالتدريس في قسم الجرافيك في جامعة الزيتونة عمان- الأردن من (2002-2004). أقام الكثير من الورش الفنية في فن الجرافيك، وله العديد من المعارض الخاصة والجماعية في بلدان العالم المختلفة مثل: سوريا، لبنان، تونس، السعودية، الكويت، فرنسا، إسبانيا، الهند، إيطاليا، يوغسلافيا، النرويج، اليابان، هولندا، الصين، أورجواي، روسيا، سويسرا، كرواتيا، وبنجلاديش.
 

ذلكم هو د. عبد الوهاب عبد المحسن؛ الذي يتحدث في هذا الحوار لمجلة "الرافد الإلكتروني".
 

◆ بداية؛ حدثنا عن نشأتك الريفية التي تعتز بها، ولماذا وضعتَ التراب في عينيك كي تصبح كفيفاً؟

ولدت في بيئة بدائية معزولة عن مظاهر المدنية الحديثة، كانت وسيلة الاتصال هي راديو موجود في بيتنا. عندما التحقت بالصف الأول الابتدائي؛ تذكرتْ والدتي أنها نذرتني لأن أكون رجل دين. أخرجوني من المدرسة وذهبت لكتَّاب الشيخ شاهين، كنت أعتقد أن (الشيخ شاهين) كلمة واحدة. وجدت نفسي أجلس على مصطبة مبنية بالطوب اللَّبِن، وألبس جلباباً له فتحة طويلة، أضع فيها خبزاً ناشفاً مفتتاً مع جبنة قديمة، ذلك؛ هو زادي طوال اليوم بالكتاب الذي كان في قرية (قراش) القريبة منا. اكتشفت أنني أجلس أهز جسدي للأمام وللخلف، كل أصحابي من ذوي العاهات. وكان من السهل أن تحمل لقب شيخ إذا كنت صاحب عاهة. بعد أربع سنوات قضيتها بالكتاب في إيقاع ممل وقاتل؛ توقفت عن الهز، ولا أعرف إلى الآن كيف كان الشيخ يعرف أنني أتوقف وهو أعمى. المهم؛ حدث بالبيت مشكلة بين أبي وأمي فغضبتْ عند أخيها، وبالتأكيد؛ عدم وجودها يجعل البيت جحيماً. لك أن تتخيل لمبة الجاز وهي تضاء بدون غسيل زجاجتها، كانت تعطي ضوءاً شحيحاً ومقتولاً. ضاقت الدنيا؛ ملل وضجر بالكتاب، وحزن وكآبة بالبيت. فقررت إما أن أستمر في الكتاب بعاهة مثل من معي من أصحاب العاهات وأكون شيخاً على مسمى، وإما أن أرجع إلى المدرسة.

ثمة مساحة من الأرض كنا حين نلعب فيها ندرك مدى ملوحتها، جاءتني فكرة؛ فلو فركت عيني بهذا الملح سينتهي كل شيء، وقد حدث. بعد خطوات قليلة أظلمت الدنيا وسحبوني للبيت. كانت لنا جارة مرضعة، فأحضرت محارة اسمها لسان البحر، وحلبت فيها قطرات من لبن صدرها الدافئ، وبحَجَرَة صغيرة حكَّت اللبن في المحار لتقطر في عيني.. عادت أمي، ونجحتُ في ترك الكتاب.

 متى بدأت علاقتك بالفن التشكيلي؟

في المدرسة؛ هذا العالم كان ساحراً ومختلفاً. فصل فيه باب وشبابيك وسبورة وطباشير ملونة، ولوحات على الحوائط وطابور صباح، وطبل وتغذية، وحصة رسم وألعاب وهوايات. هو عالم كله حياة؛ مدرس الرسم كان صديقي بكل مرحلة، ولقد وجدت بالبيت كراسة رسم لأخي أحمد، كان يرسم فيها بأقلام الفحم رواد الحركة الوطنية المصرية؛ مصطفى كامل ومحمد فريد، ومحمود سامي البارودي وأحمد عرابي.

◆ أنت عاشق للقراءة؛ فمَنْ صاحب الفضل عليك في أن تصبح قارئاً؟

أبي؛ لقد كان رجلاً مستنيراً. يكتب الشعر، وعنده مكتبة بها مخطوطات قديمة. عرف أنني مولع بالقراءة، فكان يحضر لي الكتب من المدينة، فقرأت لتوفيق الحكيم وطه حسين، والمنفلوطي وكامل الكيلاني، وآخرين.

 لديك فوبيا مِنَ الغربة. لِمَ؟

في نهاية المرحلة الابتدائية، وامتحان القبول للإعدادي، تفوقت في القبول وحصلت على الترتيب الثالث على المحافظة، وكان عليَّ أن أترك القرية وأسكن بمفردي في المدينة وعمري 12 عاماً. ذهبت ومعي أغراضي، مملوءاً بحكايات الذئاب والعفاريت وأمنا الغولة، وقدري أن أغلق عليَّ باب الغرفة وأحضن خوفي. كان الخوف يكور جسدي الصغير. من هنا؛ كرهت الغربة، وأبكي مثل طفل كلما تذكرت هذه الليالي.

◆ قلتَ إن الرؤى البصرية للأشياء غير صحيحة؛ تلك مقولة تحتاج إلى توضيح. أليس كذلك؟

عندما دخلت كلية الفنون الجميلة بالإسكندرية، درسنا الفن بالمنهج الأكاديمي المعروف، دراسة الموديل والخروج للطبيعة والطبيعة الصامتة والمنظور، وفي السنة النهائية جاء الأستاذ "ماهر رائف" ليسفه هذا المنهج، ويلغي كل النظريات المعتمدة على المنظور، بل لا يعترف بوجوده في مفهومه للفن، وأن الفن يستلهم من الحرف العربي وقانونه الهندسي ويكون مصدر التشكيل، ولهذا؛ تكون الرؤية البصرية للأشكال غير صحيحة، بمعنى؛ أنك لو رأيت ورقة شجر بالعين المجردة، سترى شيئاً مختلفاً خلاف لو رأيتها بعدسة، وترى شيئاً آخر لو رأيتها بميكروسكوب.

◇ نستنتج مِنْ هذا أن المسافة مهمة بالنسبة للفنان؟

نعم؛ فعندما أرسم أحدد المسافة التي أرسم منها عالمي. خاصة أنني مدرك أهمية وجود الكاميرا، وأعرف أن المسافة تعطيني فرصة أعمق بتفعيل إحساسي، ونمو مشاعري بالأشياء التي أنوي تناولها، والتعبير عنها.

◆ رسالتك للدكتوراه (رؤية تشكيلية معاصرة لرسالة الغفران لأبي العلاء المعري من خلال الحفر). لماذا هذا الشاعر بالتحديد، وإلى أي مدى ساهم اقترابك من الشاعر الراحل محمد عفيفي مطر في ثراء فنك؟

جئت للاستقرار بمحافظة كفر الشيخ مع والدي ووالدتي، وأنا بالجامعة؛ كنت أتابع الحركة الثقافية هناك من خلال مجلة (سنابل)، حيث كان يرأس تحريرها الشاعر الراحل محمد عفيفي مطر؛ الذي كنت أقرأ شعره. في (1982) ذهبت إلى قصر الثقافة. مرسمي كان ملتقىً لشعراء وأدباء مصر الذين كانوا يأتون في مهرجان علي قنديل وأنور المعداوي، والسيد شحاته شاعر البراري. الشعر بالنسبة لي كان إثراء لتجربتي الفنية. حواراتي مع عفيفي مطر كانت تستمر حتى الساعات الأولى من الصباح، فأسمعه وكأني أقرأ أكثر من كتاب بالليلة الواحدة، إنه مثقف موسوعي، وحكاء ساحر، يحلق بك في سماوات المعرفة والحلم والخيال.

رسالة الغفران لأبي العلاء المعري؛ كنت قد قرأتها في نسختها المبسطة لكامل الكيلاني في المرحلة الثانوية، فقررت عمل رسالة الدكتوراه في موضوع له علاقة بالأدب والشعر، وأبو العلاء تحديداً؛ بحكم أنه أعمى، وذلك له علاقة بتجربتي التي منهجها التجريد، فأردت أن تكون الرسالة دراسة موازية للرسالة، وليست ترجمة بصرية لها.

 أنت مفتون للغاية ببحيرة البرلس؟

إنها تشكل لي براحاً للخيال والتأمل، ومساحة مسكونة بالأسرار، سطحها مرآتي التي أرى فيها نفسي، فإيقاع الريح على سطح الماء يحرك كل قوى التمرد على المألوف بداخلي. كل ما أتخيله أجده فيها، اللون والإيقاع والأناقة والانسجام والبهجة والعمق والغموض. البحيرة تناديني وتعطيني أسرارها وأجدها على مسطحات لوحاتي البيضاء. أنا فقط أكشف عنها في مرسمي.

◆ دكتور عبد الوهاب؛ ما قضيتك الكبرى؟

لقد مُنحتُ فرصة الوجود بهذه الحياة، لذا؛ عليَّ أن أعيشها، وأترك ما يثبت أنني تواجدت فيها بهويتي وتاريخي وموروثي، وبيئتي وزمني وناسي.
 




الصور ◂ من صفحة الفنان على "فيسبوك Facebook"©

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها