رجال العلم والأخلاق

بقلم: ريمون كاربانتيير

ترجمة: د. منذر عياشي

 


 

يدافع جاك مونو العظيم، والمقدر تقديراً عالياً من منظورات عديدة، عن فكرة أن رجال العلم يمتلكون نوعاً من الحق في النظر إلى الأخلاق (مذهب سعادة البشر المفضي لهذه الغاية)؛ وذلك لأن نظامهم العلمي يمثل نموذجاً لدقة الفكر والعمل.
إنه يقول: "العلم يجهل القيم.. وإن متصور الكون المفروض علينا اليوم فارغ من الأخلاق كلها، ولكن البحث يكوِّن بذاته عالماً من التقشف. ولذا؛ فهو يستلزم بالضرورة نسقاً من القيم، وأخلاقاً للمعرفة". ولنعرف بأن مونو يتابع العبارة فيقول: "التي لا تستطيع -مع ذلك- أن تبين أهليتها موضوعياً".
ولقد جاء من خلال حماسته إلى القول: "ما هو غير علمي، هو غير أخلاقي". وللأسف، فإن الجملة تعير جانبها للتأويل. ويمكن لها أن تعني –والمعلقون لم يتوانوا عن جعلها تقول-: "إن العلم وحده إذ يقول الحقيقة؛ فإنه يستطيع أن يقول ما هو جيد".

وهنا تبدأ الالتباسات، والالتباس الأخطر من بينها يقضي بخلط الحقيقي والجيد.

ثمة رأي من المقاربة الأولى يظن أن الحقيقة جيدة في ذاتها.. وربما سيكون من السهولة قبول -باستثناءٍ متسامح- أن الكذب فعل سيء. والقضية التي تهمنا هي تبادل الإجراء: "إذا كانت الحقيقة جيدة، فيجب علينا أن نستخلص بأن الجيد سيكون حقيقياً".

وسيكون جوابنا: لا.

في كوة الانتخاب في قاعة مبنى البلدية حيث سأنتخب؛ فإني أختار بيان المرشح الذي أحكم أنه الجيد. فهل من الملائم القول إنني كائن فيما هو حقيقي؟ هنا يقوم التساؤل المؤسّس على الأخلاق.

تتعلق حقيقة التأكيد (مثل عبارة القانون العلمي المكتشف. ولكي نثبت الأفكار فلنقل لدينا قانون "أوهيم"، بخصوص الحرارة المستخلصة بوساطة المقاومة)، بإجراءات التحقق التجريبية، وبالشيوع، وبإعادة الإنتاج. وهذه أمور تمثل اقتضاءات العلم ولوازمه.

ولكن ماذا عن التأكيد الأخلاقي؟ هل هو أن أقول: "إني أرى أنه لأمر جيد ضمان الحد الأدنى من الأجر للمواطن الذي يعيش في البلاد"، أو أن أؤكد: "يجب إعادة الأجانب إلى بلدانهم". يمكن للتأكيد في الحالتين أن يكون جيداً أو سيئاً، ولكنه لا يمكن أن يكون موضوعاً لأي تحقيق عن الأحقية.

هكذا يكون رسوخ (القوة والاستقرار) بنية الأيدولوجيا المهيمنة، والتي لا يكف أي من مؤلفي التأكيدات الأخلاقية المذكورة في الأعلى عن إثبات أنه على حق. فماذا يعني القول: "إننا على حق"؟ إن الأطروحة التي سيتم الدفاع عنها هنا، والتي ليس لها في العقلية القائمة في المكان "بنية استقبال"، هي: إذا ثبت أننا على حق، فقد ثبت أننا في الحق. ألا وإن تأكيد حكم القيمة، إنما يمثل قضية أخرى.

كيف يمكن تبرير هذه الأحكام بتجنب الوقوع –تحديداً- في الفخ الذي تندد به؟ هنا؛ يجب على المرء أن يقتلع نفسه من البدهيات المستقرة.

تنسب الحقيقة (في الواقع "الصحة"، أي نوعية حقيقة التأكيد) إلى مرجع خارجي غير هذا الذي تنطق به. فالحقيقة يجب أن يكون بإمكانها أن تكون مؤكدة أو غير مؤكدة، بوضع التأكيد في اختبار الوقائع. وستتكلم اللغة اليومية عن "موضوعية" الحقيقة.

لا يوجد لقيمة التأكيد الأخلاقي مرجع، إلا إذا اختلطت الأجناس، سوى ضمير ذلك الذي يؤكدها. فأنا أؤكد بأن هذا جيد. وأنا أكون من يؤكد. وأنا المؤلف. وأنا من يحمل المسؤولية. وإننا لنتكلم في ثقافتنا عن "ذاتية" القيم.

تكمن الصعوبة في أن كلمة "ذاتية" لها وقع رديء في ثقافتنا، فكيف وصلنا إلى هذا؟

إننا نقول: إلى العلم تعود موضوعية الوقائع. ونقول: إلى الأخلاق تعود حرية الاختيار بالنسبة إلى الذات.

يكمن دور العلم، في ميدان صلاحيته، بتزويد توقعات على الأشياء قابلة عملياً للاستثمار. ولقد نجح على نحو جيد جداً إلى درجة أنه خلب العقول، وأنه رسخ الانطباع في الأحكام بأنه قادر أن يقول كل شيء عن كل شيء. وكذلك، فإنه قد عودنا على الفكرة التي تقول إن كل وجودنا قد وضع في شبكة من الحتميات التي لا مفر منها. وبكل تأكيد، فإننا بالنسبة إليه نجهل معظم هذه الحتميات. ولكن العلم، إذا اعتقدنا ببعض رجال العلم، يأخذ على عاتقه اكتشافها شيئاً فشيئاً. وهو يميل إلى استنفاذ حقل المجهولات. وبالنسبة إلى العلم، فإن الفكر يختصر نفسه في المعرفة، أي فيما نعرف وفيما نجهل. وهكذا أيضاً، فإنه اختزل الفلسفة في أن لا تكون شيئاً آخر غير نظرية المعرقة (الابيستمولوجيا). ولقد غطى رسوخ بنية العلم على كل تفكيرنا، الميادينَ التي يتكلم فيها، ليس على ما هو كائن، ولكن على ما نريد أن يحدث. ولهذا، فإن الفكر المنشأ قادر على ضبط الفعل. ويبقى الفعل الذي يمثل تحول الأشياء بوساطة الذات لغزاً بالنسبة إلى الفكر العلمي، الذي لا يستطيع إلا أن يدرك الأشياء في وجوب وجودها بالذات (واقعة وجود الشيء بذاته بالنسبة إلى الكائن).

ولقد تضعنا قضية دور العلم في النشاط الأخلاقي إذن في قلب قضية فلسفية. إنها تتعلق بتصورنا الجذري للعالم، كما تتعلق بعيشنا الجوهري. وهذا يخص الكيفية التي نعطي بها معنى لوجوداتنا، ولما نحكم عليه بأنه كائنُ كائننا أو بالأحرى مصيرنا. ويمكن لهذه القضية أن تصاغ على النحو الآتي: "هل ليس المقصود بالنسبة إلينا، نحن الموجوين، إلا أن نتنبأ بما سيحدث، وليس إلا هذا فقط، أو ينفتح بالنسبة إلينا حقل الفعل، أي الحقل الذي نستطيع فيه أن نقوم بما يجعله يحدث، أو يحدث قليلاً على الأقل، وما نرغب أن يصبحه"؟ أو تبعاً لكلمات إبيقراط يحدث على الأقل في متراس الواقع، حيث "الأشياء تتعلق بنا".

وهكذا؛ فإن الالتباسات التي بذرها الرائع مونو تستطيع -على الأقل جزئياً- أن تنهض إذا اهتممنا بفصل ميدان إثبات الأشياء، الذي هو من مهمة العلم عن ميدان تحويل الأشياء، الذي هو من مهمة الفعل. ومهمة الفعل تعني إذن مهمة الأخلاق. وليكن محدداً جيداً أننا نعطي اسم الفعل لهيمنة الذات القصدية على الأشياء وعلى الكينونات.

الأخلاق هي ميدان الفعل. وإنها لتقول ما نريد أن نفعله. ويمكن للعلم أن يخدم الفعل الأخلاقي بإبداء رأيه "لممكن الفعل" في مشاريع أخلاقية. ويمكن للعلم عند الاقتضاء أن يقول: إذا فعلتم هذا، فمن المحتمل أن يحدث هذا، وستواجهون باحتمال دائم مثل هذه الصعوبات. وإذا فعلتم شيئاً آخر؛ فإن المصاعب وإمكانات النجاح ستكون هكذا وهكذا. وأمام تنوع هذه المخططات الممكنة؛ فإن العلم يستطيع أن يدلي برأي عن ممكن فعلها. وإننا لنلح على الممكن مفهوماً، فهو يضع منظور الفعل في حقلٍ خارج العلم.

وكذلك يجب على العلم ألّا يقول شيئاً بخصوص المخططات. كما يجب عليه أن يكون أخرسَ عندما يختار العاملُ (أي ذلك الذي يتصرف) مخططاً صعباً، مخططاً تكون حظوظ نجاحه ضعيفة. ولذا؛ لا يجب على الاختيار الأخلاقي أن يخضع لتوقع النجاح الذي يصوغه العلم (إنه يصنعه وفق مبدأ الاحتمالات). ألا وإنه ليعود إلى الفاعل أن يحكم على الجهد الواجب اتخاذه تبعاً لرهانات الغايات التي يراد اتباعها. (وننبه بأن الإعلان عن الصعوبات قادر بأن يحشد طاقة الممثلين، وأن يغير حظوظ النجاح).

إننا نستهدف خصوصاً هنا ادعاءات الاقتصاديين في فرض حلول تبعاً لسهولتها المعلنة. ذلك لأن تبني الحل يجب أن يكون تبعاً لقيمة النتيجة المنتظرة، وأما درجة ممكن الفعل، فلا تؤخذ إلا على نحو ثانوي.

وهكذا يجب أن نفصل دائماً بين التوقع والاختيار.

بيد أن هذا لا يعني أن الاختيارات الأخلاقية ستكون ممنوعة على رجال العلم. فهؤلاء لهم الحق أيضاً، وعليهم الواجب كذلك، في أن يشاركوا في العمل الأخلاقي الذي يخص كل أعضاء الجماعة الإنسانية. ولكن ما هو مهم أن نؤكده –ويصعب إفهامه في الغالب– هو أنه إذا كان على رجال العلم أن يقوموا باختيارات أخلاقية؛ فإنه يجب عليهم أن يقوموا بذلك بوصفهم رجال علم، وكذلك بوصفهم أعضاء في الجماعة الإنسانية. ولقد نعلم أن علميتهم لا تمنحهم أي سلطة، وذلك على العكس من الأفكار المستقرة والمتكررة حد إرهاق السامعين. وإنه لمن المستحسن أن ينسوا -وهم يطلقون الأحكام "جيد / سيء"- شكل الإجراءات العقلية التي يستخدمونها، عندما يصنعون العلم. ويجب عليهم أيضاً أن يبينوا أنهم قادرون على أن يفهموا طرائق في التفكير أخرى، غير تلك الاستدلالات التي اعتادوا عليها. وهذا لا يعني على الإطلاق أن الإجراء الأخلاقي يمشي خبط عشواء، ومن دون اهتمام. ولكن الدقة ليست أقل ضرورة للأخلاق من ضرورتها للعلم، غير أنها تستعير طرقاً أخرى.

كتب الفيزيائي شارل نوردمان عندما قدم للمرة الأولى للجمهور الفرنسي، نظرية النسبية في إشهار 1919: "يشبه العلم حيزاً في غابة المجهول.. وإنه كلما اتسع هذا الحيز وَضعنا أكثر في علاقة مع المجهول".

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها