الذّاتُ وصوّر سقوطها

في رواية ''نقطة الانحدار'' لفاتحة مرشيد

سعيد بوعيطة



تعد رواية ''نقطة الانحدار'' للشاعرة والروائية المغربية فاتحة مرشيد، الصادرة في طبعتها الأولى عن المركز الثقافي للكتاب بالدار البيضاء/ المغرب 2022، في 192 صفحة من القطع المتوسط، العمل الروائي السابع للكاتبة، بعد رواياتها: ''لحظات لا غير'' (2010)، ''الملهمات'' (2011)، ''الحق في الرحيل'' (2013)، ''التوأم'' (2016)، ''مخالب المتعة'' (2018)، و''انعتاق الرغبة'' (2019).. إلا أن اللافت للنظر في تجربة فاتحة مرشيد الروائية أن هذه الرواية لا تخرج عن نمط الكتابة السردية عند الروائية التي عودت القارئ على توزيع أحداث رواياتها ما بين المحلي/ المغرب وخارج المحلي/ أمريكا/ (الغرب عامة).



تركز الرواية على تيمة أساسية (محورية) تتجلى في السقوط/الانحدار الذي تجعله شخصيات الرواية مدار تفكيرها. ذلك أن ما يثير المتلقي في هذا النص الروائي منذ القراءة الأولى، هو صور السقوط / الانحدار المرتبطة بالذات/ الشخصيات. سواء على المستوى المادي/ الاجتماعي، أو النفسي. فكيف تتمثل الذات صور سقوطها/ انحدارها في هذا النص الروائي؟ وكيف يقيمها السارد المهيمن على عملية السرد (شخصية حميد)؟ وما الاختيار السردي الملائم الذي انتهجه السارد/ الروائية الضمنية (فاتحة مرشيد) لتجاوز هذا السقوط على المستوى النفسي على الأقل؟


الذات بين الرقي الممكن والسقوط المحتمل

يقدم سارد رواية ''نقطة الانحدار'' نظرة عامة عن واقع المجتمعات المتقدمة (أمريكا) انطلاقاً من نظرة عامة حول الذات وتمثلا لها، على مستوى الوعي بالهوية والكينونة وبالقدرات والإنجازات والأفعال. يجعل هذه الذات/ الذوات (الشخصية/ الشخصيات) تقدم تقييماً عاماً وكلياً لنفسها، قد يكون إيجاباً أو سلبياً، بحسب نظرة الذات لذاتها، وبحسب علاقتها بالغير وموقعها الاجتماعي وأدوارها. والرواية باعتبارها نصاً سردياً إشكالياً يكون محوره هو الذات، تشيد الكثير من الصور الروائية التي تعبر في الكثير من الأحيان عن عدم رضا شخصياتها عن ذواتهم وأفعالهم وأدوارهم.

 لهذا، يكشف سارد نص ''نقطة الانحدار'' عن درجة عالية من الحساسية تجاه السقوط/ الانحدار بكل أشكاله. إذ تبني نموذجها الإنساني على قانون أساسي وهو السقوط/ الانحدار باعتباره بانيا للعالم الروائي ومحفزاً على السرد/ البوح، وعلى الكشف عن أسباب ودوافع السقوط. يقول السارد في الصفحة 75: ''كنت أعلم أن الولايات المتحدة الأمريكية لها الصدارة في الرفع بالإنسان إلى أعلى، ولم أكن أشك في أن لها الصدارة في الرمي به إلى الأسفل كذلك''. ويقول في الصفحة 120: ''لا يا حبيبي، أنا آخر من يحكم عليك... كل واحد منا له انحداره الخاص ولا أحد سيرمي الآخر بحجر''. حيث ترد مؤشرات هذا السقوط/ الانحدار على طول المسار السردي للرواية. سواء بشكل مباشر أو ضمني. خاصة في الصفحات التالية: (ص: 27، ص: 31، ص: 48، ص: 49، ص: 51، ص: 53، ص: 95، ص: 115، ص: 132، ص: 157).

إذ نجد أن الباعث على السرد هو صورة الذات ومآلها وتقييمها سلبياً، ويتمثل في صورة السقوط/ الانحدار، التي تغدو بنية تسبغ شروطها على عالم رواية ''نقطة الانحدار''، ومكوناتها من شخصيات وأحداث وأماكن. فالسقوط/ الانحدار يطول كل الشخصيات التي لها علاقة بالشخصية المحورية للرواية/ شخصية الغالي البردعي، أو تدور في فلكها (شخصية الغالي (الشخصية المحورية)، شخصية مورين/ ص: 31، شخصية جوردن/ ص: 36، شخصية ميريل جونسن/ ص: 80، شخصية ماما أوليفيا/ ص: 107). ذلك أن الشخصيات التي تزخر بها الرواية، تؤكد أمراً واحداً وهو السقوط/ الانحدار من خلال الجري وراء المال/ المادة والغنى وما يقود إليه من سقوط وانهيار. حيث تتحول هذه الشخصيات إلى مرايا تشخص شيئاً واحداً وهو السقوط بوجوهه المتعددة. لتبدو الشخصيات في حالة سقوط متماثلة، وتلتقي في مصير واحد، على الرغم من اختلاف انتمائها العرقي والاجتماعي. مما يحولها إلى هوملس. يقول السارد في الصفحة 48: (ما أدهشني بسان فرانسيسكو هو عدد المشردين في الشوارع... ــــ أتعلم؟ ليل الهوملس كابوس لا ينتهي... هو لا يستطيع النوم إلا بعين واحدة لأنه معرض لأسوء الاحتمالات). مما يؤكد بطريقة ضمنية السقوط القيمي للمجتمع ليغدو السقوط حالة عامة. تشمل الجميع بكل طبقاته. فلا أحد يسلم من السقوط/ الانحدار. مما يجعل الرواية تعبر عن مأزق يهيمن عليه الجانب المادي، ومحكوم بسقوط قيمي وأخلاقي واجتماعي. يؤكد وعي الشخصية المحورية في الرواية (شخصية الغالي البردعي) بسقوطها، عن عدم الرضى بارتباطها بالدرجة الأولى بالجانب المادي/ المال. فيقض مضجعها ويقلق راحتها، باعتبارها بطلاً إشكالياً مأزوماً يثور على ذاته ويجعلها موضع اتهام وإدانة، كما كان يثور فيما سبق على سلطة شخصية الأب (أذكر جلياً، علاقته المتوترة بوالده.. وصرامة الحاج البردعي الأسطورية معه. وكيف كان يدفعه إلى أقصى إمكاناته... لكن هذا الأخير كان كلما كبر في السن ازداد رفضه لسلطة الأب. كانت علاقتهما تحمل الكثير من التوتر وسوء الفهم) ص: 16. لذا، فكلما حاولت شخصية الغالي الهروب إلى الماضي (عبر مجموعة من الاسترجاعات التي تقوم بها أو تقوم بها شخصية حميد)، تجد نفسها أكثر تأزماً من الحاضر، خصوصاً في علاقتها بشخصية الأب بموطنه الأصلي (مدينة ابن جرير/ المغرب) التي تزيد من حدة تأزمها وقلقها.

الذات وصور السقوط/ الانحدار

ترتبط صور السقوط/ الانحدار، وتتعدد من خلال التحول في حياة شخصيات الرواية. تتحول من شخصيات تركض وراء المال/ المادة، لتجد نفسها في لمح البصر في قاع المجتمع (الهوملس). نلمس الوعي بهذا السقوط من قبل الشخصية الساردة الرئيسية/ شخصية الغالي التي من خلالها نطل على العالم الروائي لنص ''نقطة الانحدار'' الغارق في السقوط. يقول السارد: ''كيف أن نظام هذا البلد الذي يمنحك فرصاً لا تعوض هو الذي لا يرحمك، وأن لا أحد محصن ضد السقوط. أخبرني جوردن أن لكل منا نقطة انحدار دون أن يخبرني عن نقطة انحدارك أنت ''ص: 115. والحالة التي عرفتها شخصية الغالي، تعرفها كذلك باقي شخصيات الرواية. شخصية مورين (مورين امرأة أمريكية الأصل، في الخمسين، وجدت نفسها في الشارع... فحكمت عليها المحكمة بالإفراغ) ص: 33، شخصية جوردن (أجاب بتلقائية من يحتاج أن يفضفض لغريب: أنا مهندس كمبيوتر، كانت لي شركة وبيت وزوجة. أفلست الشركة وتراكمت الديون، وبين ليلة وضحاها سلبت مني بيتي وطلبت زوجتي الطلاق) ص: 100، شخصية ماما أوليفيا (أضافت كمن يقفل باب حزن يكاد يجرفه في أي حين: وجدت في هذا الشغل ما يخفف عني قليلاً، ويعطي معنى لاستمراري في هذه الحياة... إنها مشيئة الرب) ص: 108. وهكذا دواليك بالنسبة لباقي شخصيات الرواية.

البوح وتجاوز السقوط النفسي

نتيجة هذا السقوط/ الانحدار، تجد شخصية السارد/ الغالي وباقي شخصيات هذا النص الروائي التي زجت بالقارئ في عوالم السقوط (الهوملس)، وملابساته وعوالمه الغريبة، في البوح والاعتراف طريقة للتخفيف من حالتها النفسية والتطهر من سقوطها، وتشخيصه وتفسير دواعيه وأسبابه. لكن هذا البوح هنا، لا يعني تجاوز السقوط؛ لأن هذا الأخير يقود إلى الموت في أغلب الأحيان. شأن شخصية الغالي التي يقول عنها السارد في الصفحة 185: ''أبعد أن تنوء الحياة بوطأتها عليه، تسلمه إلى الموت يوم نجح في ارتقاء المنحدر''؟ مما يجعل السرد في هذا النص الروائي ينهض بوظائف عدة. تتجلى الأولى في البوح والاعتراف بالسقوط/ الانحدار وإدانة الذات، أما الثانية، فتتجلى في التطهير من مخلفات هذا السقوط/ الانحدار من جهة أخرى. وذلك من خلال الكشف عن دواعي وأسباب سقوطها/ انحدارها. لهذا، راهنت الروائية فاتحة مرشيد على أسلوب الاعتراف والبوح باعتباره وسيلة لفضح وتعرية المستور داخل المجتمعات المتقدمة تقنياً (أمريكا)، والمنحطة على مستوى القيم. لتؤكد على أن الإفراط في الاستهلاك المبني على المال، يساهم في سقوط الإنسان وانحدار قيمه الإنسانية. ففي بوح الشخصية المحورية/ شخصية الغالي البردعي، تعرية للنفس البشرية، وإبراز لبشاعة رغباتها وتهافتها وراء المال.

هكذا تشكل صور سقوط الذات/ انحدارها، الصور المهيمنة في رواية ''نقطة الانحدار'' للروائية فاتحة مرشيد بكل عوالمها وشخصياتها وأمكنتها. تطل صور السقوط/ الانحدار من خلال بوح الذات الساردة (شخصية الغالي) التي تعترف وتبوح بسقوطها/ انحدارها بقالب سردي دائري على مستوى الزمن. يجعل السقوط/ الانحدار ضرورة حتمية لا خلاص منها في المجتمعات المتقدمة على المستوى التقني (أمريكا). من خلال نبرة قوامها الندم والتطهير، يبرز مسعى الذات من خلال سرد الشخصيات لأسباب هذا السقوط والانحدار بنوع من التناوب السردي. على الرغم من أن شخصية حميد (صديق شخصية الغالي) تقوم بتوزيع الأدوار السردية بين الشخصيات، وتعمل على تنظيم خيوطه ومساراته المتشابكة. لكن السؤال الذي يطرح نفسه: لماذا شكل البوح جانباً مهماً تقوم شخصيات الرواية من خلاله على تجاوز أزماتها النفسية؟ هل جاء ذلك بوعي من الروائية فاتحة مرشيد باعتبارها روائية وطبيبة نفسية في الوقت نفسه، لها دراية عميقة بعلم النفس وتجربة متميزة في الكتابة السردية؟

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها