فـي مصطلح: الفجوة مسافة التوتر

جولة فـي شعرية كمال أبو ديب

د. عبيد لبروزيين



تعتبر شعرية كمال أبو ديب شعرية لسانية بنيوية، تقوم على رفض المفاضلة بين الشعر والنثر؛ لأنها تلغي مفهوم الشعرية، إذ يكون النثر أصلاً والشعر انحرافاً، بينما يقعان معاً تحت مظلة الأدب، لذلك فهو يدعو إلى شعرية تعنى بالأدب بصفة عامة، حيث يقارن بين الشعر واللاشعر، والنثر واللانثر.


ينطلق أبو ديب من إلغاء فكرة الثنائية الضدية بين الشعر والنثر، لكونهما أصلان متوازيان، وهذا الإلغاء جعل شعريته تقوم على رصد تحول مكونات أولية من نص في سياق معين إلى خلق جمالية النص، وهذا ما يدعوه بالشعرية. نافياً أن تكون نظريته مقتبسة من الغرب، بالرغم من تأثره برومان ياكوبسون وجون كوهين، بيد أن هذا لم يمنعه من التصريح أن شعريته إنما هي شعرية بنيوية، وقد أشار في كتابه "جدلية الخفاء والتجلي" إلى أنه يسعى "إلى تحقيق غرضين: الأول متابعة تطوير منهج بنيوي في تحليل الشعر، كان قد بدأه في دراستين مطولتين للشعر الجاهلي وفي دراسة لقصيدة أدونيس، والثاني إضاءة ملامح من بنية القصيدة عند أبي نواس... لبرهنة إمكانيات المنهج"1.

ولكي يوضح اختلافه مع التنظيرات الغربية، وخصوصاً طروحات جون كوهين كما سبقت الإشارة، شرع في بسط تصوره من خلال اقتراح مصطلح الفجوة: مسافة التوتر، وهو شبيه بمصطلح الانزياح، ويقدمه على أنه "الفضاء الذي ينشأ من إقحام مكونات للوجود، أو للغة أو لأي عناصر تنتمي إلى ما يسميه ياكبسون (نظام الترميز) code في سياق تقوم فيه بينها علاقات ذات بعدين متميزين، فهي:
‣ علاقات تقدم باعتبارها طبيعية نابعة من الخصائص والوظائف العادية للمكونات المذكورة، ومنظمة في بنية لغوية تمتلك صفة الطبيعة والألفة.
‣ علاقات تمتلك خصيصة اللاتجانس أو اللاطبيعية، أي أن العلاقات هي -تحديداً- لا متجانسة لكنها في السياق الذي يقدم فيه تطرح في صيغة المتجانس"2.

إنها علاقات يحددها السياق بين المكونات اللغوية التي تخلق انحرافاً لغوياً، أي لغة شعرية غير مألوفة، تتأطر في مفهومين مركزيين الشمولية والكلية، غير أنه لا يكتفي بهذه العناصر، بل تتضمن شعريته عناصر خارج نصية تتعلق بالفكر والثقافة بصفة عامة. غير أن المتأمل لشعريته يدرك أنه استفاد من تطور الدرس النقدي الغربي، وكذا الدرس النقدي العربي القديم.

إن إدراك طبيعة العلاقات بين نظام الترميز، تسمح للفجوة أو مسافة التوتر بالظهور والكمون، وتميز النصوص الشعرية عن غيرها من أنواع النصوص الأخرى، بل وتستطيع أن تقيم تفاضلاً بينها للتمييز بين الجيد والرديء بالرغم من أن "الفجوة تميز الشعرية تمييزاً موضوعياً لا قيمياً، وإن خلو اللغة من فاعلية مبدأ التنظيم لا يعني سقوطها أو أصوليتها، أو انحطاطها بالنسبة للغة التي تتجسد فيها فاعلية مبدأ التنظيم"3.

يكشف حديثه عن هذه العلاقات على أن الشعرية التي دعا إليها تأثرت بالمنهج البنيوي، فكانت تستحضر المنطلقات العامة لهذا المنهج، وتتفاعل مع بعض النظريات الغربية كنظرية الانزياح، وبالتالي فشعريته امتداد للشعرية البنيوية في تصورها لمقاربة النص الأدبي، وإن كان الاختلاف في بعض المبادئ المحورية.

إنه يدرس البنية في علاقاتها المتعددة، العلاقة التي يستطيع بواسطتها النفاذ إلى البنية العميقة، فهو يرى أن "ما يؤَسَّس هنا هو منهج في الاكتناه، يرى البنية بما هي آلية للدلالة وديناميكية لتجسيد الدلالة في سلسلة من المكونات الجذرية والعمليات المتصلة، وفي شبكة من التفاعلات التي تتكامل لتحول اللغة –بمعناها الأوسع- إلى بنية معقدة تجسد البنية الدلالية تجسيداً مطلقاً في اكتماله"4.

ترتكز الشعرية عند كمال أبو ديب على علاقات داخل -نصية وخارج- نصية، حيث يشكل النص بؤرة لتقاطعات مختلفة، والشعرية بهذا المعنى "تجسد في النص شبكة من العلاقات التي تنمو بين مكونات أولية سماتها الأساسية أن كلاً منهما يمكن أن يقع في سياق آخر دون أن يكون شعرياً، في السياق الذي تنشأ فيه هذه العلاقات وفي حركته المتواشجة مع مكونات أخرى لها السمة الأساسية ذاتها يتحول إلى فاعلية خلق الشعرية، ومؤشر على وجودها"5، وذلك من خلال مفهوم جوهري يرصد الشعرية في النصوص، وهو مفهوم الفجوة أو مسافة التوتر، الذي يهتم بالكلمة في ذاتها، من حيث معناها الحقيقي والمجازي، ومن حيث علاقاتها مع المكونات الأخرى التي تشكل عوالم النص، وهو ما يتأطر عند الناقد تحت مفهوم السياق، فالرؤية البنيوية لكمال أبو ديب تصر على وعي الظاهرة بما هي تبلور لحركات ديناميكية ضمن بنية الإيقاع، ولفاعليات ذات بعد تاريخي في بنية ذات وجود تزامني6.

يحدد مفهوم الفجوة مسافة التوتر شعرية كمال أبو ديب أكثر من أي مفهوم آخر، وإن كنا نعتقد أنه استوحاه من مفهوم الانزياح، نظراً لتقاربهما الدلالي، والإطار المرجعي الذي يؤطرهما، فالشعرية عنده "وظيفة من وظائف ما يسميه (الفجوة أو مسافة التوتر)؛ لأن لغة الشعر –دلالياً- لغة تتجسد فيها فاعلية التنظيم على مستويات متعددة، وهذا التنظيم حين ينشأ يخلق (فجوة- مسافة التوتر) على درجات مختلفة من السعة والحدة بين اللغة الشعرية وبين اللغة اللاشعرية"7. وقد اقترح أبو ديب هذا المفهوم الأخير عوضاً عن النثر؛ لأنه يرى أن الشعرية لا ترتبط فقط بالشعر، بل بالنثر الفني أيضاً، ولذلك يمكننا أن نصف شعريته بأنها شعرية عامة للأدب.

ولما كانت شعرية الفجوة شعرية عامة، فقد كانت مقارنتها بشعرية الانزياح، الشعرية الجزئية، مقارنة ناقصة لأنها تهتم بالشعر دون الأجناس الأدبية الأخرى، فهي مقارنة الكل بالجزء، بالرغم من كون طروحاتهما تتأطر تحت الشعرية اللسانية البنيوية، لكن أبا ديب انفتح بشعريته على رؤى فكرية، وآفاق شعرية تتجاوز المنجز النصي، ذلك أن كوهين "يعمل ضمن إطار بنيوي محدد بصرامة، يتجاوزه أبو ديب إلى إطار بنيوي-رؤيوي وهذا ما يميز مفهوم الأخير بالحركة والانفعال"8.

إنها شعرية تتأسس على رصد العلاقة بين مكونات النص في المستويات التالية: المستوى الصوتي، والمستوى الإيقاعي، والمستوى التركيبي، والمستوى الدلالي، والمستوى التشكيلي، وجل هذه المستويات تتعلق ببنية النص؛ لأن كمال أبو ديب يسعى "إلى تأسيس كل ما يطرحه على تحليل متقص دقيق للنص الشعري، باعتباره بالدرجة الأولى، جسداً لغوياً ذا آلية متميزة للدلالة، ومرهوناً بشروط التشكيل اللغوي التي تفرضها قواعد الأداء في اللغة وبآلية التكوين التي يؤسسها التراث الشعري نفسه، أي باعتباره، أولاً وأخيراً بنية دالة من خلال وجودها التشكيلي، والعلاقات العميقة التي تسود بين مكوناتها البنيوية لا من خلال مجموعة التقريرات والصياغات الذهنية المباشرة التي تتكون على مستوى البنية السطحية"9.

إن هذه البنى التي يتحدث عنها أبو ديب، لا تشكل شعرية إلا من خلال نظام من العلاقات المطردة، والتي تتسم باللاتجانس واللانسجام، وهذه السمات هي التي تخلق الفجوة مسافة التوتر، ولكن، هذه الشعرية أيضاً، لا ينظر إليها بشكل مجتزَإ، بل في إطار كلي وشمولي، مرتبط بالمجتمع والثقافة، غير أنه يدعو إلى البدء بتحليل الوحدات أو العناصر الصغرى ثم الانتقال إلى ما هو أكبر بشكل متدرج، لأنه "إذا لم نكن قادرين على فهم البنية في وجودها الكلي وإدراك خصائصها الجوهرية، فسيكون من العبث أن نحاول فهم العلاقات التي تنشأ بينهما، وبين أي من الشروط التي تقع خارجها على محوري التزامن والتوالد، ضمن البنية الاجتماعية"10.

وهكذا أصبحت الشعرية عند كمال أبو ديب تتجاوز النص إلى السياق الذي يجعلها تتسم بخصائص انزياحية تجعلها مخالفة للمألوف، فيصبح معيار قياس شعرية النصوص عنده هو "الانحراف الذي يمكن تقبله باعتباره مصدراً للشعرية، هو انحراف داخلي: أي الانحراف الحاصل في بنية النص فعلاً: دلالياً، أو تصويرياً، أو فكرياً، أو تركيبياً"11، وتكون الشعرية بهذا المعنى، إحدى وظائف الفجوة: مسافة التوتر؛ لأنها أهم ما يميز الخطاب الأدبي، وتتجسد من خلال اللغة في المستويات السالفة.

ودراسة الفجوة: مسافة التوتر في المستويات السابقة، لا يعني أن يدرس كل واحد منها مستقلاً عن المستويات الأخرى، فالشعرية "خصيصة علائقية، أي أنها تجسد في النص شبكة من العلاقات التي تنمو بين مكونات أولية سماتها الأساسية أن كلاً منهما يمكن أن يقع في سياق آخر دون أن يكون شعرياً، لكنه في السياق الذي تنشأ فيه هذه العلاقات، وفي حركته المتواشجة مع مكونات أخرى لها السمة الأساسية ذاتها يتحول إلى فاعلية خلق الشعرية ومؤشر على وجودها"12.

ويرى أبو ديب أنه يجب الانفتاح على ما يوجد خارج النص، مثل المنظور النفسي والاجتماعي والإيديولوجي في الأدب، رغم أنه أهمل هذا الجانب في دراساته التطبيقية. ومن هنا يمكننا القول إن الفجوة: مسافة التوتر تتحقق من خلال مستويين13:
1. المستوى الرؤيوي الذي يتناول البنيات الشعرية أو التصويرية أو الإيديولوجية، إنه يتناول اختصاراً كل ما يشكل رؤية العالم.
2. المستوى اللساني الصرف الذي يتناول البنيات اللغوية.

وبناء على ما سبق؛ نخلص إلى أن الفجوة: مسافة التوتر هي: نص أدبيّ .. وهي لا تتحقق إلا من خلال الانحراف أو الانزياح عن درجة الصفر في الكتابة؛ إنها مصدر الشعرية في كل نص إيحائي، وهي لا تتحقق إلا حين تخرج اللغة عن المعيار اللغوي والثقافي.


1. كمال أبو ديب، جدلية الخفاء والتجلي، دراسات بنيوية في الشعر، دار العلم للملايين، ط 3، 1984، ص: 168. ┆ 2. كمال أبو ديب، في الشعرية، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت، ط1، 1991، ص: 21. ┆ 3. كمال أبو ديب، في الشعرية، م س، ص: 35. ┆ 4. كمال أبو ديب، جدلية الخفاء والتجلي، دراسات بنيوية في الشعر، م س، ص: 9. ┆ 5. كمال أبو ديب، في الشعرية، م س، ص: 14. ┆ 6. كمال أبو ديب، جدلية الخفاء والتجلي، دراسات بنيوية في الشعر، م س، ص: 14. ┆7. كمال أبو ديب، في الشعرية، م س، ص: 58. ┆ 8. حسن ناظم، مفاهيم الشعرية، م س، ص: 131. ┆ 9. كمال أبو ديب، دراسات أدبية، الرؤى المقنعة، نحو منهج بنيوي في دراسة الشعر الجاهلي، الهيئة المصرية العامة، ط 1986، ص: 12. ┆10. نفسه، ص: 12. ┆11. نازك الملائكة، قضايا الشعر المعاصر، منشورات مكتبة النهضة، ط 3، 1967، ص: 141. ┆12. كمال أبو ديب، في الشعرية، م س، ص: 14. ┆ 13. نازك الملائكة، قضايا الشعر المعاص، ص: 130.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها