لماذا ماتت اللغة اللاتينية ولن تموت اللغة العربية؟

صابر الحباشة

 

قد يكون من النافل القول إنّ للغات أعمارًا، وأن حياة اللغات تُقاس بهمّة الناطقين بها وبتصدّرها في نقل المعارف وربط الصلات بين الناس. غير أن الحديث عن موت اللغات أو انقراضها، أو وقوعها في حيّز الخطر، ولئن تعالى وعرفنا أن العقود الأخيرة شهدت إعادة ترتيب منازل اللغات العالمية، وفقدان بعض الألسن وخفوت البعض الآخر وتراجعها؛ فإننا مع ذلك لا نكاد نتفق على أدلّة ضرورية تؤكد مرور لغة من اللغات من الحياة إلى الموت أو من الحضور على الغياب.
 

ولذلك؛ فإن العودة إلى التاريخ قد تكون مفيدة لتلقّف مؤشرات دالّة على أوضاع لغات وألسن، فإن قوانين الظواهر لا تتخلّف وسُنن التاريخ لا تحيد عن مساراتها في معظم الأحيان. ولعلّ الحديث عن اللغة اللاتينية يجرّ إلى الحديث عن اللغة العربية لما بين اللسانين من مشابه لعلّ أظهرها سيطرة اللسانين على التأليف العلمي والأدبي والطقوس الدينية خلال فترات زمنية طويلة، بالإضافة إلى ما بين اللسانين من تشابه سمة تغيّر الأحوال الإعرابية، وما شهدته اللهجات/ اللغات المنحدرة عنهما من انفراط عقد الإعراب، على النحو الذي نجده في بنات العربية الفصحى (العامّيّات واللهجات المحكية)، واللغات المنشقة عن اللاتينية كالفرنسية والإسبانية وغيرهما.

غير أنه من غير العلمي إسقاط تاريخ اللاتينية على العربية، فنقاط التشابه المذكورة، ليست بكافية للجزم بأن مصير العربية سيكون نظيرًا لمصير اللاتينية، فهذا رجم بالغيب وتجاهل فادح لمظاهر الاختلاف الجوهرية والنوعية بين اللسانين.

إن الحديث عن اللغة اللاتينية بصفتها لغة ميتة، أمر تختلف دلالته. ثمة من يرى أن اللاتينية لم تمت، بل هي تعيش في لغات جارية على ألسن مليارات من البشر في مختلف أرجاء العالم. ومن الناس من يرى أن هذه اللغة ما تزال تخضع للتحديث في ما تنشره الكنيسة الكاثوليكية الرومانية، فهذه علامة حياتها وأنها تتطور.

ومع ذلك ما عادت اللاتينية مستعملة على نطاق واسع بشكل يومي، من معظم الناس خارج الأوساط الدينية المخصوصة، حيث تريد التقاليد الكنسية استعمالها. وما عادت اللاتينية لغةً أمًّا لأحد. وعلى الرغم من أن استعمالها ما زال يُدرَّس؛ فإنها ما عادت تُعدُّ لغة متطورة كسائر اللغات المعاصرة.

 خلال الحقبة الرومانية، كانت هذه اللغة معيارية على صعيد كبير. مثلما أن تعلم اللغة الإنجليزية ضروري لكل من يعيش في أوروبا اليوم، فقد كان لزامًا على الشخص لكي ينجح في تلك الحقبة الرومانية، أن يتعلم اللغة اللاتينية.

في القرن الثامن للميلاد كانت اللغة اللاتينية تُعدُّ لغة واحدة على الرغم من تنويعاتها الاجتماعية والجغرافية. وفي نهاية القرن الثالث عشر الميلادي، انقسمت إلى لغات شتى: الفرنسية، والكاتالونية، والقشتالية، والبرتغالية، والإيطالية، وغيرها.

ليس التمييز بين لغة حية ولغة ميتة أمرًا شديد الوضوح، وليس خصيصة "موضوعية" للغات؛ إنها وضعية يضفيها على اللغة سياق اجتماعي. ثمة وضعيات أخرى: لغات منقرضة، ولغات في خطر. ويمكن للوضعية أن تتغير: فاللغة العبرية بُعثت من جديد، من لغة ميتة، بيد أن ثمة لغات انقرضت دون أن تُكتب بل دون أن نقف على مفاتيح فك شفرتها.

ويرى الباحث اللساني الفرنسي سيلفان أورو (Sylvain Auroux) أن موت اللغة اللاتينية قد شهد أطوارًا ثلاثة:
المعنى الأول: اللغة التي لا نتكلمها في الحياة اليومية، تتوقف عن أن تكون لغة عامّية.
المعنى الثاني: اللغة التي لا نستعملها في أي نشاط مخصوص في مجتمع معيّن.
المعنى الثالث: اللغة التي لا تُفهم في مجتمع معيّن.

فبالمعنى الأول ماتت اللاتينية منذ القرن السابع والعاشر الميلاديين: إنها فترة نهاية اللاتينية العامية.

وبالمعنى الثاني ماتت اللاتينية في القرن السادس عشر الذي شهد النهضة والعلوم الإنسانية، ولكن بالعودة إلى اللاتينية الكلاسيكية توقفت هذه اللغة عن أن تكون لغة حية. وثمة نقاط استدلال مهمة: كتاب ديكارت "مقالة الطريقة" الذي صدر عام 1637، باللغة الفرنسية (وكانت وقتها لهجة عامية). لقد بدأت الكتابات الفلسفية باللغة العامية، ولكن تأخر ذلك في ألمانيا، وكذلك برغسون كتب أطروحته باللاتينية.

وبالمعنى الثالث توقف التعامل السلبي مع اللاتينية (فهم النصوص القديمة وقراءتها والتوقف عن إنتاج نصوص جديدة بها). لقد انتهت بصفتها لغة مرجعية ثقافية مفهومة على العموم.

عدم ثبات اللغة وأسبقية اللهجات. ليست اللغة فصيلة طبيعية. لا يوجد لغة في حد ذاتها: إنها كيان مصنوع.

الكتابة تسبق كل علم ومن ثم علم النحو، ومن ثم تبدو هيمنة النصوص: الكتابة والنص يجعلان اللغة موضوعا.

الأدوات اللسانية: المعجم والنحو: هي أدوات معيارية شديدة الأهمية: من دونهما لا توجد لغة.

ما جدوى النحو؟

هل هدف النحو تعليم اللغة، أم إتقان ضرب من ضروب الخطاب أم القدرة على النفاذ إلى النصوص؟

لقد كانت الأنحاء الأولى أنحاء أحادية اللسان ومتوجهة إلى جمهور يتكلم تلك اللغة، ولم تكن الوظيفة التعليمية (تعليم اللسان) ذات أولوية: نحو اللغة السنسكريتية (الهندية القديمة الذي يُنسب إلى العالم النحوي بانيني: القرنان الرابع والخامس الميلاديان)، والنحو الإغريقي (دينيس لي تراس: القرن الرابع الميلادي، وأبولونيوس ديكول: القرن الثاني الميلادي)، والنحو العربي (سيبويه: ت.180 هـ/ 796م).

وتشير بحوث تاريخ اللسانيات إلى ظهور مؤلفات النحو اللاتيني منذ القرن الأول للميلاد مع فارون (Varron)، ثم مع دونات (Donat) في القرن الرابع، وبريسيان (Priscien) في القرنين الخامس والسادس.

لقد بدأ تعليم نحو اللغة اللاتينية بلا ريب نتيجة انتقال تكنولوجي، ولم يكن له سابق وجود في المصنفات الكلاسيكية؛ إنه نحو أحادي، ولكن في الوقت الذي لم تعد فيه اللغة اللاتينية لغة عاميّة، يستعملها عامة الناس، ظل تعليم نحوها موجودًا وصلبًا، ومن هنا جاء الدور التعليمي للنحو.

الالتفاف التعليمي للنحو

لقد شهدت القرون الوسطى ثنائية لسانية: فاللغات الأمهات كانت متنوعة، بيد أن اللاتينية لم تعد لغة أمًّا (ما دامت تُتعلَّم في المدارس). ولقد كان لزامًا على الأوروبيين تعلُّم اللغة اللاتينية بصفتها لغة ثانية: إنها لغة المعرفة. والنحو الرسمي التي يُتعلَّم ويُستعمل كان نحو اللاتينية. لقد أصبح النحو أداة اكتساب اللغة العامية: إذا كان تعلم اللغة اللاتينية (القواعد والأمثلة) تمهيدًا وتوطئة ضرورية لتعلم أنحاء كل لسان يُراد تعلمه، ههنا يصحّح سيلفان أورو الصورة النمطية التي التصقت باللاتينية بصفتها لغة نخبوية (لغة الصفوة)، فيرى أن الحق أنها لغة أقل نخبوية من متطلبات الثقافة العامة.

النهضة واللاتينية الكلاسيكية

لقد ظلت اللغة اللاتينية طوال قرون عدّة لغة العلم. وهذه اللغة بقيت تُتكلّم في بعض الأماكن، كالأدْيِرة على سبيل المثال، بصفتها لسانًا حيًّا، وهي كذلك لغة التبادل العلمي. وقد بقي هذا الوضع قائمًا منذ توما الأكويني (ت: 1274م) إلى إمانويل كانط (ت: 1804م)، في نهاية القرن التاسع عشر: قد يكون من العسير بمكان تبيُّن المنطق الذي احتكمت إليه أوروبا؛ إذ بإقصائها اللاتينية تكون قد حرمت نفسها من جزء ثري من ماضيها (فلسفة لسانية، نحو تنظيري).

وإن نمط الإحالة المعياري يتغيّر وفقًا لنمط استعمال اللغة (وظيفتها الاجتماعية). ولقد غيّر عصر النهضة الإحالة إلى اللاتينية، بأن ألحقها بالمدونة المغلقة للكتّاب الكلاسيكيين (بعبارة أخرى بشيشرون (ت: 43 ق م) لا بتوما الإكويني). ويُعدّ هذا التغيير في أغلب الأحيان تقدّمًا كبيرًا لعصر النهضة، إنه انتقال جذري يعطي للاتينية منزلة جديدة، منزلة اللغة الميتة.
 

لماذا ماتت اللاتينية ولن تموت العربية؟

يمكن القول إن اللاتينية والعربية تتشابهان في البدايات وتختلفان في النهايات، فلقد بدأت اللاتينية والعربية بداية متشابهة، فاللاتينية كانت لهجة محكية في بدايتها يُتكلَّم بها في بعض مناطق إيطاليا الحالية، ثم أضحت لغة رسمية وانتشرت في أماكن كثيرة من أوروبا بفتح اتساع رقعة الإمبراطورية الرومانية. أمّا اللغة العربية فتعود إلى لهجات قبائل شبه الجزيرة العربية، وسواء انحدرت اللغة العربية الفصحى من لهجة كندة أو لهجة قريش، فإنها شهدت انتشارها العالمي الواسع بفضل اعتمادها لغة شعائر الدين الإسلامي، حتى أضحت اللغة الرابعة عالميًّا. فالاستعمال الديني للاتينية والعربية وحّدهما لكن العربية لغة النص القرآني التي نزل بها، أمّا الكتاب المقدّس فليست اللاتينية لغته الأصلية ولكنها لغة المؤسسة الدينية الرسمية. وهذا الاختلاف جوهري، لأن المناطق التي انتشرت فيها اللاتينية لم يكن الداعي إلى تعلّم اللغة دينيًّا بالدرجة الأولى، أمّا الشعوب غير العربية فمن تعلّم العربية منهم، إنما كان ذلك موجّهًا بالأساس بدافع عقائدي (دون أن نغفل دوافع أخرى ومنافع أخرى، لكنها كانت ثانوية، لأن السلطة السياسية قد خرجت من أيدي العرب منذ سقوط الدولة الأموية والعباسية: سقوط بغداد 656 ه).

ولعل من بين الأسباب الجوهرية التي أدّت إلى سحب البساط من اللاتينية وإلحاقها بمخزن القدامة التحالف العضوي بين أنظمة السلطتين الدينية والدنيوية، في أوروبا، فكانت النهضة وبعدها الحداثة في صراع مرير مع هاتين السلطتين، وبسقوط تينك السلطتين حُكم بالانقراض على اللغة اللاتينية. لقد كانت اللغة الرسمية التي تحمي مصالح الوضع القائم آنذاك.

فلمّا ظهرت الدعوات التحررية من السلطة الكنسية الكلاسيكية، تجسّدت في ترجمة الكتاب المقدس إلى اللغات العامية، وظهرت الكتابات الفلسفية بتلك اللهجات، وصاحب ذلك بروز الدعوات القومية واتحاد الدول القومية التي كانت ألسنتها بديلًا من اللاتينية، وبذلك توافرت عوامل سياسية وأيديولوجية قضت على اللاتينية بالزوال.

وبالنظر إلى اللغة العربية، فإنها وإن اقترنت بالنص الديني وبشعائر الإسلام، فإنها لم تكن لغة السلطة القاهرة، والدليل على ذلك أن اللغة العربية لم تكن مهيمنة خلال قرون الخلافة العثمانية، صحيح أن لغات كثير من الشعوب الإسلامية كانت تُكتب بالحروف العربية (العثمانية، الفارسية، الحبشية)، لكن هذا مظهر تقني ولا يمكن اعتباره معطى تسلّطيًّا مارسته اللغة العربية الفصحى على لغات الشعوب الإسلامية، بل كان نوعًا من التقارب والتجاور نتيجة الاحتكاك الحضاري، لم يبلغ حدّ الإلغاء أو التنافي، ولعل ذلك ممّا يشفع عمليًّا للغة العربية الفصحى أن تظل قائمة بين نهوض وخمول، ولكنه من المستبعد أن توأد على الرغم من عمليات التجفيف القائمة على قدم وساق، ولعل أخطرها، في تقديري خروج اللغة العربية من حساب المدارس الأجنبية "الراقية" التي تحتضنها البلاد العربية بكل ترحاب، والتي ستخرّج النُّخَب التي ستتولى مقاليد الأمور في المستقبل، وهي مدارس تغلّب كفّة الإنجليزية، ولا تحضر فيها اللغة العربية إلا حضورًا باهتًا شاحبًا.

إن عدم تعليم اللغة العربية تعليمًا جيّدًا وطوال وقت كافٍ قبل الانفتاح على تعلّم الإنجليزية، من شأنه أن يقرّب مصير العربية من مصير اللاتينية، لا قدّر الله، ولكن لأسباب موضوعية مختلفة؛ قد يكون من المرارة أن نعترف أن جوهر تلك الأسباب سوء تقدير أهلها لها وإهمالهم لها، والحال أنها أسّ الهوية ونُسغ الأصالة.
 

***
 

إذا كان ابن خلدون قد أكّد أنّ همّة أصحاب اللسان أو تقاعسهم ينعكسان على ذلك اللسان، فإن موت لسان وحياته لا تُطابق بالضرورة موت مستعمليه وحياتهم.

ولعلّ الاستقراء يوقفنا على أنّ أحادية اللسان وضعية نادرة في تاريخ البشرية، وقد تركز مع ولادة اللغات الوطنية وموت اللاتينية.

من دون الدور التي اضطلعت بأدائه اللغة اللاتينية ونحوها في عائلة اللغات الرومانية، كان من العسير ظهور تخصص اللسانيات العامّة مع فرديناند دي سوسير (ت: 1913م) في بداية القرن العشرين.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها