تزويرُ الحقيقة في سينما "الحقيقة"

حسام نور الدين


في عز الأحداث المحتدمة، والمجادلات التاريخية حول القدس العربية، يتعين علينا أن نتوقف وقفة قد لا تفي بكل الغرض، لكنها تمنحنا ضوءاً كاشفاً عن رسالة الإعلام الغربي التي يبثها بمكر عن مدينتنا المحتلة، ومن أهم أدوات هذا الإعلام هو فن الفيلم الوثائقي، وأكبر شركات العالم في هذا المجال شركة (ناشيونال جيوجرافيك) الأمريكية الشهيرة بإمكانياتها الفنية المهُولة، لتشكيل وعي المتفرج عبر تجوالها بالكاميرا في كل أصقاع العالم، وقد قدمت الشركة فيلماً مهماً، لاقى قبولاً واسعاً من الميديا العالمية...الفيلم بعنوان (أورشاليم -Jerusalem) عام 2013، للمخرج/ دانيل فرجسون، والتعليق للممثل الإنجليزي/ بينديكت كامبرباتش، ونوعية التصوير هي الآيماكس التي اشتهرت بها أفلام (ناشيونال جيوجرافيك)، فالكادر في الفيلم الخام لنيجاتيف الآيماكس يعادل 4 كادرات في نيجاتيف الفيلم العادي من نوعية 35 مم، والقصد أولاً وثانياً هو إعطاء أكبر جرعة من الإبهار، والفخامة في الصورة السينمائية، بتفصيلاتها الجمالية.

 

بدايات.. ومدخل الفيلم

مقدمة موسيقية بالوتريات تصاحب أول صور ولقطات العمل، من خريطة مصنوعة بتقنية (الجرافيك)، ثم حركة للكاميرا (بالكمبيوتر) من البحر الميت على الخريطة الإلكترونية، ترتفع بعدها، لنرى سلسلة جبلية، حيث مهد المدينة، قبل تعميرها، وأسلوب الفيلم عموماً هو شحن إحساس المتفرج بالصورة الأخاذة، والموسيقى بطابعها الإيحائي الجذاب، لاستلاب وعيه، فيصدق –المتفرج- المعلومات التي يقدمها له الفيلم، وأولها تعريف معنى وأصل اسم المدينة (أورشالم أو جيروزاليم)، حيث كان يسكنها في البدء اليبوسيون Jebusites))، وأن اسمها أتى من التعبد للشمس فوق صخرتها البكر؛ أي أور شاليم! وبدءاً من هنا تسقط على عقولنا أول مغالطات الفيلم في إخفاء الحقيقة، حيث إن اليبوسيين الذين سكنوا المدينة، لم يذكر لنا الفيلم كلمة واحدة عن هويتهم، ومن أين جاءوا كأول مواطنين ليعمروا أرضها، والإجابة يعرفها كل باحث نزيه، فقد جاءوا من جزيرة العرب مباشرة نحو الشمال، فأصل المدينة وأول أهلها عرب في عرب، أما تسميتها بهذا الاسم، فترجع غالباً لأحد ملوك اليبوسيين أو الكنعانيين، واسمه مليك صادق الذي عرف بحبه للسلام، فسميت أرض سالم أو مدينة سالم أو شالم (أور شالم)، فاسم أورشليم عربي، وليس عبرياً، كما فسرها العالم التوراتي اليهودي/ ويليام فاكسويل، وأول إشارة وردت عن هذه المدينة ترجع إلى الحفريات التي جرت في "تل مرديك" بشمال سوريا، والتي أسفرت عن اكتشاف آثار لمملكة قديمة تسمى مملكة إيبلا (أو عبلة).

وقد وجد بين آثار هذه المدينة ألواح كتب عليها اسم مدينة سالم (أورشليم)، وهو أول اسم عرف للمدينة. وكان ذلك حوالى سنة 2500 قبل الميلاد؛ أي قبل ظهور بني إسرائيل بعدة قرون. وأيضاً عُرفت بهذا الاسم العربي في أصله (أور سالم أو معبد الإلة سالم) بحسب ما ورد بكل وضوح في نقوش رسائل تل العمارنة - الرسالة (287)- باللغة الكنعانية، منذ نحو 1400 عام قبل الميلاد، وقامت بترجمتها/ إليزابيث وميندهول1، وأورشليم الكلمة الكنعانية التي وردت في رسائل تل العمارنة تعني مدينة السلام، وهي نفسها (يبوس) التي ورد اسمها في الكتابات المصرية الهيروغليفية. فقد أُطلق إذن هذا الاسم (أورسالم/ أورشليم) على المدينة المقدسة، وحرّفه الصهاينة إلى (يرو شالايم)، ومنها اشتق الاسم (جيروزاليم Jerusalem)، ونسبوا هذه التسمية إليهم، وهكذا يطل علينا الفيلم ببداية متحيزة المضمون!

ثم تمضي مشاهد العمل، بلقطات عامة جداً متحركة فوق (الرافعة – الكرين) لمناظر المدينة من عدة زوايا لافتة، وتستعرض طبوغرافيتها، مع لحن الفيلم الأساسي من الوتريات، التي تكرر لحنها القصير، بما يطلق عليه أسلوب (الأوستيناتو)، ليخلق إحساساً متراكماً بأهمية ما سيراه المُشاهد من صور، وصدق دلالاتها التاريخية المهيبة.

الأسلوب السردي

يعتمد الفيلم في تتابعه السردي على تقديم 3 فتيات، كل واحدة تمثل ديانة من ديانات المدينة الثلاث، فالفتاة المسلمة (فرح عموري) نتعرف عليها وهي تسير في السوق العربي بالمدينة، مع صوت القرآن الكريم، وحركة (كاميرا/ كرين) طويلة، تتطاول عبر الدروب الضيقة للسوق، كرقبة ثعبان تمتد، وتتلوى، حتى تقتحم دكاناً ضيقاً للتحف النحاسية العربية، وتظل تمتد لنكتشف في النهاية، وجود صاحب المحل يلعب الزهر مع صديقه، فتشعر أن حركة الكاميرا التي سحبت انتباهنا نحوها، كانت محض عبث تقني، وهو أسلوب تصويري قد يناسب موضوعاً عن الغرائب، وعجائب الطبيعة، أو أدغال الغابات مثلاً، مثلما قدم نفس المخرج -لاحقاً- فيلماً بارعاً عن الأفيال، في أحراش كمبوديا.

ونعود للفتاة المسلمة التي تتحدث عن ارتباطها بمدينتها فهي لا تعني لها فقط دينها، بل تعني لها ما هو أهم –على حد قولها- وهو: عائلتها، فنرى أمها تضع على رأس ابنتها الحجاب، وتربطه لها ببطء وسط السوق، في لقطة مفتعلة، فالبنات غير المحجبات مثل بطلتنا يلبسن الحجاب عند دخول المسجد للصلاة، وليس في السوق، فضلاً عن أن هناك من اليهوديات من يرتدين الحجاب، كما نرى في الفيلم، فالحجاب أمر شائع في المدينة.

أما الفتاة الثانية اليهودية/ ريفيتال زخاري، فيقدمها لنا الفيلم عبر عدة لقطات لطقوس احتفالات اليهود الدينية التي لها زخم بصري وحركي مثل احتفال (بار متسفا)، وهو الحفل الذي يقام عند بلوغ الطفل اليهودي نحو 13 عاماً، فيكون مكلفاً بأداء الفرائض الدينية في الشريعة اليهودية، ثم نعرف أن البطلة اليهودية من أصول تونسية من جهة الأم، أما عائلة أبيها فمن بولندا، ثم تقول لنا أنه لا يهم من أين جئنا، لكن المهم أننا كلنا نتلمس نفس الجذور (أي أرض الوطن)، وتحكي عن علاقتها الحميمة، بأحجار المدينة المقدسة، كأنها تشعر بروح أجدادها اليهود أصحاب المدينة من وجهة نظرها.

(ملحوظة: يثبت لنا الكاتب اليهودي المجري/ آرثر كوستلر في دراسة موثقة، أن اليهود المهاجرين الذين احتلوا فلسطين من سلالة اليهود الخزر في روسيا، وليس لهم أي أصول سامية، أو أدني علاقة بأقلية اليهود القدماء في فلسطين وقت الحكم العثماني وقبلها، وقد اختفت نسخ الكتاب بعدها لفترة2، وهو بعنوان.. السبط الثالث عشر).

ومع الشخصية الثالثة المسيحية تستعرض الكاميرا طقوس الديانة المسيحية في جمعة الآلام، حيث تستعيد الطوائف المسيحية المتنوعة الزائرة للمدينة، يوم صلْب المسيح في القدس التي دُفن فيها وفق معتقدهم، ومثل سابقتيها تتحدث لنا/ نادية تادرس عن ارتباطها الجواني بالمدينة الذي ترسخ لديها مع كل زيارة لكنيسة القيامة، حيث تعد زيارتها حلم أي مسيحي في كل بقاع الأرض، ونرى مع كلماتها إضاءة رائعة مصدرها الأساسي الشموع، بعين مصور الفيلم القدير/ ريد سموت، أثناء تصوير بطلتنا المسيحية في الكنيسة الأثرية، مع بقية مجموعة الكورال يترنمن بالتراتيل، وهكذا قدم لنا الفيلم منطقه السردي، وعَبّر بتقسيماته في تكوين الصورة، والتعليق المباشر، عن الانفصال المعرفي/ النفسي بين بطلات الديانات الثلاث!

تزييف الوعي

 يتعَامىَ الفيلم –للأسف- عن حقيقة اغتصاب الكيان الصهيوني للقدس الغربية، وعزلها عن بقية المدينة، فالعزل إذن ليس بسبب الطبيعة النفسية لأصحاب الديانات، كما تجاهل السيناريو -المتشح بعباءة التسامح- أرواح أهل القدس الذين قتلهم اليهود/ الصهاينة، بأسلحة أمريكية وبريطانية في الثلاثينيات من القرن الماضي، دفاعاً عن أرضهم ومسجدهم الأقصى الذي بناه عمر بن الخطاب في موضع القبلة الأصلي ببيت المقدس، ثم داوم الكيان الصهيوني على قتل آلاف من المقدسيين، ليغتصب المدينة كلها، مما شرحته ووثقته مجلدات الوثائق الغربية قبل العربية، وسؤالنا البسيط هنا: ألم يعرف صناع الفيلم أن القدس مدينة لها وضع دولي في قوانين الأمم المتحدة، فليس للصهاينة أي شرعية في نهب ومحو تراثها الأثري العربي/ الإسلامي، كما أمر بذلك (بن جوريون) في بدء إنشاء دولة إسرائيل؟! ألم يؤثر في النفسية الرقيقة لصناع الفيلم اغتصاب تلك القيمة الثقافية التاريخية من روح المدينة، ألم يعْنِ لهم لفت المشاهد لتلك الحقيقة الإنسانية، ولو عبر لقطات قليلة؟! أم أن الواجب على العربي أن نقتل أباه وأمه وعائلته، ثم نتعجب من انفصاله النفسي عن جيرانه الصهاينة الطيبين! ناهيك أن المسيحيين مع المسلمين –مع تتابع الأجيال- يشكلون وحدة قومية وطنية، قاومت الغاصب المسلح، وخير مثال هو واقعة مقتل مطران عكا الملقب بمطران العرب/ جريجوريوس حجار عام 1940 بسبب مقاومته الشريفة للصهاينة، مع بقية المسلمين3، ألا يعرف الفيلم كل هذه الحقائق أو شيئاً منها لعرضها، ولو كمجرد وجهة نظر؟!

ويمضي المخرج شارداً في تفننه بتصوير لقطات سياحية تهم هواة السفر والترفيه، فيمسح أنحاء المدينة بعين الطائر في لقطات جوية، وبعدسات واسعة جداً (fish eye) للأماكن الدينية (جبل الفريديس، معبد الهيكل، ومسجد قبة الصخرة...)، مع تمرير أخطاء تاريخية يستخف بها عقل المتفرج، مثلما طَمَس حقيقة أن جبل الفريديس الذي بناه الملك (هيروديون)، كان من معالم فلسطين طوال التاريخ، لكن تم احتلاله من طرف إسرائيل في عام 1967، ليصبح الآن من المعالم السياحية الشهيرة للصهاينة.

ثم يتحفنا الفيلم بتقديم شخصية (جد البطلة اليهودية) الذي يتأمل مدينته، منذ جاء إليها من بولندا في حنين جارف، تؤكده موسيقى الفيلم المتعاطفة، في حين أن من بولندا أيضاً، وفي نفس الفترة -أربعينيات القرن العشرين- هبط على المدينة ضمن حركات (الترانسفير) الإرهابي الشاب/ مناحم بيجين -كما وسمته الصحف الأجنبية وقتها- (رئيس الوزراء لاحقاً، وصاحب نوبل للسلام)، لينفذ أشهر المذابح العلنية مثل (دير ياسين- 9 إبريل 1948)، وقام بعدة تفجيرات كبرى في القدس، والقرى الفسطينية، لإبادة أهلها الأصليين!
 

أخيراً؛ ينتهي الفيلم بكادر ثابت، حيث تجتمع فيه البطلات لأول مرة، لكن كل منهن لا تعرف الأخرى، وتنظر في اتجاه مخالف، وهن يتمنين كسر حالة الانفصال بين أصحاب الديانات الثلاث في مدينتهم الواحدة التي يعيشون فيها، ويحبونها جميعاً، ولا يفوتنا في النهاية بعد كشف بعض الأكاذيب البائسة التي حاول أن يقدمها لنا الفيلم، أن نذكر وصف ناقدة مجلة (فارايتي) الأمريكية له، بأنه فيلم ممتاز على مستوى الصورة، لكنه تافه المضمون.
 


مصادر:
1. فلسطين التاريخ القديم الحقيقي حتى الخلافة الإسلامية – قاسم الشواف.
2. Arthur Koestler - The Thirteenth Tribe

3. النكبة (وثائقي) إخراج روان الضامن. 

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها