نَبْشُ الْمَنَاطِق النَّائِيَّة وَالْمُعَتَّمَة لِلْحَيَاةِ بِالنَّثْرِ

"عن تجربة الشاعر الإماراتي أحمد عيسى العسم الشعرية"

عبد الهادي روضي

 

ترتبط الكتابة الشعرية بالدهشة وبسعي الشاعر الحثيث إلى تفجير المناطق النائية والمعتمة المطلة على تخوم العالم وجراحاته، مثلما ترتبط بالحرص الدؤوب الذي يبذله الشاعر من أجل التخلص من أعبائها المضاعفة على مستويي البناء والدلالة النصيين، وكلما ارتبطت الكتابة الشعرية بخلخلة معاييرها القديمة المعيارية، وسعت إلى استنبات معايير جديدة متناغمة مع التحولات الحضارية والإنسانية، إلا وعبرت عن انخراط شاعرها في السيرورة التي يختارها نهر الشعر راهناً، بعيداً عن سلطة المعايير الكمية التي ظلت متحكمة في عملية الخلق الشعري عربياً وكونياً.


وبحثاً عن كوات مضاعفةٍ للحلم في زمن تضيف فيه شرفات تفجير ينابيع الحلم ذاته، يمارس الشاعر الإماراتي أحمد عيسى العسم شقَّ مجاري تجربته الشعرية تشريحاً للحياة، في مسعى يروم اختبار أنفاقها المبهجة والمعتمة، بل إنه يسعى إلى تعرية الركام الكثيف الرابض في النفس، هو العائد من وَدَاعَاتٍ عَنِيفَةٍ، وتشدقاتِ القلق المؤثرة في تراجعه، والساعي إلى تحرير الحزن جاعلاً من الألم صرخات عقلية تأملية، واستدراجاً ناعماً لتهدئة انفعال اللحظة، وسكونها في المحتوى، لذلك كله، يقف الشاعر على طرق المجاز، وأحياناً يطل من نافذة النثر المتسعة للاحتمال وللتأمل قارئاً الازدحام في الفراغ.

بهذا الوعي الدفين في أغوار الشاعر يباشر عملية توصيف أغوار الروح المحفوفة بجرعات المحبة، ونظرات تتأمل انهيارات العالم، وتجتهد في ترتيق خيبات العالم، وذهاب الإنسان إلى الانهيار، حيث انهيار اليقين في سيادة حياة تنتصر للعصافير وللفرح، مهما بدت العزلة وشاحاً يدثر الأعماق القصية للذات الشاعرة:
(نعيش العزلة/ كلما أتاحوا لنا الفرصة/ وتركوا الدعوة مفتوحة/ مستنا يد الطريق/ وذهبنا مغامرين).

للمغامرة دال الذهاب إلى المستقبل، وتجاوز للحاضر بما هو مناطق لاستيقاظ الألم، وتأجج نيران الإحساس الفجائعي، فالشاعر يحتاج مثل المحب إلى عزلة مضاعفة لاختبار الحياة وممراتها المندورة للتيه وللحزن المعتق، وتشذيب رؤاه وقناعاته بمنأى عن فوضى الحياة، واشتباك العالم مع العدم، والعزلة التي تحياها الذات الشاعرة تتساوق دلالياً مع الهرب باعتباره مسلكاً ترتاده الذات نفسها وهي تبني خلاصها الوجودي تأسيساً لوجود بديل خارج معطف التصوف والعهود الضاربة في النبل: (كم عليّ الهرب/ من تصوفي/ والتنصل من عهودي)، مادامت الحياة التي تحياها الذات الشاعرة لا تتسع لنزعاتها التواقة إلى التصوف الوجودي، لذلك يتحول المنزع الصوفي للذات الشاعرة إلى عبءٍ يثقل حواس الشاعر في زمن يتكالب فيه الألم، ويتعاضد مع وهن الجسد وانهياره، مما يجعل انفجار الإحساس الفجائعي شبيهاً ببركان يعري ضيق أفق المراهن عليه، أي الحلم، بل إنه يكشف استحالة ممكناته: (بعيد هو الحلم/ ومضة حب سريعة/ ورسالة في زجاجة/ تاهت في الماء).

وترتبط استحالة تحقق الحلم بوصفه خياراً تستند إليه الذات الشاعرة في تشييد تشبثها بالحلم، بالرهبة بما هي فاعلية موازية تتمسك بها الأنا الشاعرة، وتدفعها إلى الانفلات من الفضاءات المفتوحة على الضجيج والروتين والملل الفادح، كأن الذات الشاعر لا تجد تحققها الإنساني بدهشته المشرعة على الإنصات العميق لوشي الروح الرافضة للحياة المتكررة الإيقاعات، والمتطلعة إلى العودة إلى أماكن ترتبط بنشيد التراب، وحبو البدايات، لذلك يربط الشاعر تنامي الرهبة بدواخله بالأماكن الأكثر هدوءاً، وتفجيراً للمشاعر الفياضة: (لا أعرف لم الرهبة/ تربط روحي بالأماكن/ الهادئة في رأس الخيمة/ حيث المشاعر الفياضة)، فمكان مفتوح كـ(رأس الخيمة) يصير ملاذاً يعيد للذات الشاعرة إحساسها المفقود بالمدن الكبرى، ويمنح إمكانات لإعادة ترتيق الشروخ التي اعتملت الذاكرة والوجدان، بما أنها توزع قيم المحبة، وتجعل الصفات بمثابة اتفاق يوحد الإنسان بأخيه الإنسان، ولا شك أن شحن المدينة بهذه الصفات والأدوار يناقض الصورة النمطية التي روجها الشعراء القدامى والمحدثين عن المدينة كفضاء جغرافي، يجلي الفوضى، ويحتضن الإحباط، ويعكس السلوكات الشاذة والطباع الجافة: (في رأس الخيمة/ المحبة حكمة/ المعالم جذور/ الصفات الجميلة اتفاق).

وعندما تكشف الذات الشاعرة عن هذا الارتباط بقيم المحبة، والانتصار لقيم الجماعة، تتحول الكتابة إلى كشف عن القلق الداخلي المساور لذات الشاعر في علاقتها بالمتبدي للحواس، وتخرج الكتابة عن كونها مجرد معادل موضوعي للانهمام بسلطة البياض وتصريف الكلام المجاني، متحولة إلى وسيلة بها يجاور الشاعر بانتصاره لقيم أخرى مستمدة من ثقافة الماضي السحيق، كالصبر، ورفض للظلم والزيف والضعف وغيرها من القيم التي تحظى بتعايش الإنسان العربي في شتى الجغرافيات: (في رأس الخيمة/ لنا القدرة على الصبر/ لكننا لا نحب الظلام)، وبالقدر ذاته، تنتصر الذات الشاعرة للكتابة بوصفها مخلصاً للشاعر من العتمة التي تستبد بالدواخل من حين لآخر، وتنأى به إلى القبض على خرير ماء الكتابة، تحقيقاً لحرية ذاتية مستعادة (دائماً كنت أشعر/ بأن الحرية خيط رفيع).

وعلى هذا الأساس تقدم التجربة الشعرية لأحمد عيسى العسم ملامحها النصية من منطلق كونها تجربة قادمة من مستقبل الشعر، مادامت تجتهد في تأثيث معالمها بمنأى عن القصيدة الشعرية العربية المعيارية؛ لأن النصوص الشعرية التي تحويها إصدارات الشاعر لا تَتَفَعَّلُ الوزن العروضي، ولا تنساق خلف ضوابطه القابلة للعد والقياس، مثلما تبرز بعيدة عن الأنساق التعبيرية على مستوى التوزيع النصي، إذ لا يخضع السطر الشعري والجملة الشعرية إلا لمقدار الحمولة النفسية للذات الشاعرة، وهي أشياء تكشف انصراف الشاعر عن مستلزمات النمط المعياري للقصيدة العربية، واتخاذ النثر مشكاة للبوح، وفضاء لإعادة استنبات قيم تجد امتداداتها في وعينا البعيد، دون أن يعني الانصراف أي عائق مع القصيدة العربية المعيار التي تظل بيتاً تنبت بداخله شجرة اللوز (بيتنا القديم/ الذي يعطي زهره للبحر/ في داخله/ شجرة لوز/ بيتنا/ يشبهنا في العناد)، وبذلك تكون الحرية خياراً يعيد به الشاعر بناء مفهومه للشعر وموضوعاته، المتحيزة للذات الفردية في تصادياتها الكبرى بالآخر والعالم، وهو خيار يقيم مسافة بين الذات الشاعرة والبلاغة القديمة على مستوى تشييد الصورة الشعرية، حيث تتحول الصورة ذاتها إلى وعاء يتم عبره تصريف انفعالات الشاعر، وهواجسه، وأحلامه، ونبوءاته، بعيداً عن علاقة المشابهة التي ظلت قطب التأويل النقدي للصورة الشعرية.
 

إن تجربة الشاعر الإماراتي أحمد عيسى العسم، تعكس وعياً عميقاً بتحولات التجربة الشعرية العربية والإماراتية العميقة، بوعي مؤمن باللغة في ممكناتها واختراقاتها، لذلك تأتي نصوصه عاكسة متخيله المكتظ بالألم لمحاذي غيمة المدينة، جاعلاً الكتابة روحاً موزعة على أطياف قوس قزح، بل مكراً جميلاً وهدوءاً خاتلاً في الوجد، تقود في النهاية إلى تعرية الركام الكثيف الرابض في النفس.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها