تكريماً لـ فان كوخ.. ونقداً لموته الغامض

قراءة في فيلم: "Loving Vincent"

عزيز ريان

 

الفيلم سيرة درامية.. لابريطاني/ بولندي، وهو عبارة عن رؤية فنية لأعمال الفنان الهولندي فان كوخ، الذي عاش في الفترة (1853-1890)، والذي عرفه العالم بقطع أذنه لحبيبته غالباً. وهو أول فيلم رسوم متحركة تم إبداعه كاملاً من وحي رسومات (120 لوحة).

عمل سينمائي للمخرجين: دوروتا كوبيلا Dorota Kobiela (فنانة تشيكيلية)، وهيو ويلتشمن Hugh Welchman (حاصل على أوسكار أحسن فيلم قصير(رسوم متحركة) عام 2008 عن فيلمه بيير والثعلب)، اللذين أخرجا العمل باستعمال لوحات فان كوخ لتكوين صور الفيلم، في مدة إعداد ثمان سنوات.. كل شخصية لعبت دوراً في خلق ممثل للصور، وعبر لوحات زيتية لفنانين عدة باعتماد أسلوب فان كوخ، وبالتالي تصويرها لتحريكها (أكثر من 62000 مشهد).

نوع الفيلم درامي؛ لكنه عبارة عن تحقيق "بوليسي" لمعرفة بعض التفاصيل الجديدة المصاحبة لانتحار غامض لفان كوخ، الذي عثر عليه ورصاصة بالصدر تلون جسده.. طريقة الحكي عن موته تغري بالتتبع، كما في الفيلم الطويل بشكل ممتع، مما يدفعنا لنتابع العرض كما لو أننا نشاهد الفيلم عبر ريشة فان كوخ.. هو إذا؛ً فيلم فني تشكيلي متحرك، قبل أن يكون فيلماً كلاسيكياً، وفرصة للبحث في ملابسات موته بشكل يصعب إخراجه من الناحية البصرية.

وهو أيضاً تحفة فنية.. هكذا وصف بعض النقاد الفيلم (أو العاشقين للفن التشكيلي ومدرسة الفنان الهولندي)، الذي يعتبر أول عمل روائي طويل متحرك رسم باليد خلال أربع سنوات، من طرف أكثر من مائة فنان تشكيلي، مقلدين أسلوب الفنان الهولندي العالمي فانسن فان كوخ، والنتيجة فيلم بديع يعاش بسهولة.

ولا تكفي التقنيات الفنية البصرية العالية الدقة للحصول على عمل بلغة سينمائية راقية، بل يحتاج نصاً كتب ببراعة، وحواراً كتب كما يجب بكلام مناسب، حتى وإن كان كلاماً معاصراً فطريقة الحكي سلسة، وعن طريق ما يقال عن الرسام الذي فارق الحياة.. الحوار يراه البعض النقطة الأضعف رغم كل ما قيل، أو بالأحرى لم يهتم به كما باقي المكونات الفنية والتشيكلية الكثيفة، فالحوار إذاً هو مكون لن يصل للمكونات الفنية السابقة.

يحكي الفيلم قصة أرموند رولين (يلعب دوره دوغلاس بوث) المحارب القاسي.. والده ساعي البريد جوزيف (كريس أوداود)، الذي كلفه بإيصال آخر رسالة للميت فانسون فان كوخ إلى أخيه، في مهمة قرر أرموند استكمالها مكرهاً. وللأسف يكتشف أن أخ الرسام توفي، مما جعله يزور آخر قرية عاش فيها فانسون، فيجد نفسه داخلاً في العائلة التي استقبلت الرسام الشهير، وهي عائلة الدكتور كاشي جيرون فلاين مع ابنته مارغاريا (ساورسي رونان)، ومالكة البار الذي ارتاده أدلين رافو (إليانور توملينسون). بهذا لم تعد مهمته تسليم الرسالة السالفة الذكر، بل التحقيق في ملابسات موت الفنان، والاستقصاء قليلاً عن حياته المشاغبة، التي نتابعها عبر تقنية الفلاش باك أو الاسترجاع، وباللونين: الأبيض والأسود. هل أخفى فان كوخ ملابسات جريمة كاملة ضده؟ ألهذا الحد كره الحياة؟ أم إن القاتل عزيز عليه لهذه الدرجة ليحميه من تبعات جريمته...؟ أسئلة إشكالية بدأت بالسؤال الأعمق: ماذا لو عادت للحياة لوحات فان كوخ لكي تحكي مساره؟

فريق العمل التقط العبارة من الفنان نفسه، وهو يصرح: "الحقيقة، أننا لا نستطيع التحدث عن أنفسنا كما تفعل لوحاتنا". رسالة التقطها فريق استديو بريكرترو فيلم (Breakthru)، مدعومين من منتجين لترادمارك فيلم (Trademark) لنقل الجواب إلى الشاشة الكبرى. أما ميزانيته فهي: 4.5 مليون أورو، وذلك بعد أن أعلن عن حملة دعم تشاركية في Kickstarter سنة 2015، بمناسبة مرور مائة وخمس وعشرين سنة على موت الفنان.

العمل إنجاز فنيٌّ فرجوي متكامل من النادر تنفيذه.. كل لوحة بالفيلم هي تحفة فنية، والرسم الزيتي أعاد أسلوب الفنان الراحل بطريقة مبهرة، كما في لوحة "ليلة بنجوم"، أو "طيراسا مقهى الليل"، اللتين تم استعمالهما ليس فقط كتكريم للفنان، بل وظفتا كجزء مكمل للقصة، وأغلب الشخصيات معتمدة على بورتريهات رسمها فان كوخ، ومثلت من طرف ممثلين أعادوا خلق هذه الشخصيات بكل أبعادها، مما أنتج أشكالاً ساحرة تظهر التعابير والحركات البشرية عبر الرسم بطريقة دقيقة جداً، فالعمل من نوع الرسوم المتحركة، وقد ساهم في رسمه مائة وعشرون فناناً كلّهم متخصص في الرسم بالزيت، لكن الحقيقة أن روح الفيلم في تشخصيه وطريقة اشتغال أبطاله كانت متميزة وساحرة، هذا زيادة على الدقة في الخطوط المتحركة أو الظاهرة والمختفية، وتغيير اللون مما جعل من الفيلم عالماً حياً وعضوياً.

لكنّ الإبداعَ الحقيقيّ في العمل، هو أننا نرى شريطاً يحكي عبر حركات الكاميرا بمتغيرات العدسة مشاهد منعكسة في النوافذ، أو تموجات مائية ليحقق متعة فنية، كما أن له قيمةً بثلاثية الأبعاد بسبب خطوط الرسم التي توحي بأنها ستخرج من الشاشة.

الفيلم عبارة عن عمل فني حزين، ينقل طموحات الفنانين وحياتهم المعقدة لشخص مميز، أحس بالوحدة فاستعمل الرسم لكي يعطي معنى لحياته. فانسون (قليلون يعرفون اسمه؛ لأنه اشتهر بلقبه فان كوخ)، الذي أخذ الريشة في عمر الثامن والعشرين، وكان عمله كبيراً انتهى بوداع.. وتحول إلى رسام لم يعترف بمواهبه إلا القليل، كما هو الحال مع كل عباقرة العالم، فلم يعرف إلا بعد مقتله، ففي حياته لم يتمكن من بيع غير لوحة.

من هنا كان اختيار العنوان موفقاً بشكل ذكي، وخصوصاً في تسمية العمل بالاسم الشخصي للفنان، وإدراجه داخل مجال فيض حب الفنان التشيكلي امتناناً لما قدمه.

بنية سيناريو الفيلم مبسطة، فكلما تكلم أرموند مع أحد سكان القرية، سواء كان شرطياً أو صديقة الرسام، أو حتى صياد (أيدين تورنر) ليتعرف على معلومات جديدة حول الفنان، تعرض بتقنية الفلاش باك بالأبيض والأسود، والتي أظهرت جانباً من حياته التي لم ترسم أبداً، وليس لأجل تقليد أسلوبه.. تقنية قدمت بشكل واقعي أكثر غموضاً وسواداً، إضافةً إلى باقي التقنيات الأخرى تم تشكيل قيمة حلم لهذه المشاهد.

يتعلق الأمر داخل دلالته الدراماتوجية بالحوار والمقابلات بين الشخوص لإثارة العُقد.. بعض هذه المشاهد يظهر الحوار كما لو أنه تم بشكل استعراضي مبالغ فيه، لكن هذا يتماشى مع متلقي أسلوب بصري للفيلم. التشخيص في المقدمة للتمكن من كشف الرسم المرافق لها لتطوير الشخصيات، التي تحس أنها أكثر إنسانية كما في باقي الأعمال السينمائية. فـ"دوغلاس بوث" فضولي ولاذع كـ"أرموند"، و"كريس أوداود" له أحسن لحية في التاريخ كما والده، و"إليانور توملينسون" فكاهية متغنجة كما "أديلين"، و"ساورس رونان" منحت بعض الغموض للقصة، و"جيروم فلاين" غرائبي كالدكتور "كاشيه".

الفيلم رسوم متحركة متطور صنع بطريقة خاصة، ليس فقط لكي يكرم فان كوخ، بل وجب حكيه بهذه الكيفية.. استعمال رسومات زيتية لم يكن "مجانياً"، بل هو جزء هام من الشريط يمكن الدخول والعيش داخل عالم الفنان، وعمل مناسب لأصحاب الروح الفنانة، كما أنه لوحة فنية سيتم تقليدها لاحقاً في المستقبل.

أما زمن الفيلم؛ ففي سنة 1891 حيث ساعي البريد صديق الفنان فانسون فان كوخ يطلب من ابنه أرموند لإيصال رسالة لـ"ثيو" أخ الرسام المنتحر. في باريس، الرسول يعلم أن ثيو المتأثر بموت أخيه قد فارق الحياة بعد أيام قليلة، مما دفع أرموند للذهاب إلى قرية" أوفير سيغ واز"(Auvers-sur-Oise)، حيث قام الفنان الراحل بوضع حد لحياته، وذلك للتعرف على ظروف وتفاصيل موته.

صُوّر بتقنية الـPAWS (Painted Animation Work Station)، التي تعتمد على عرض مشاهد بممثلين؛ لكي ترسم بريشة على القماش من طرف رسامين، كما صرح الكرافيست الشاب "بارتوسز دليزويسكي".

كما أنه عمل يسائل موت الفنان التشكيلي المنتحر أو المقتول، وهو نقاش تداوله بعض الدارسين.. الفيلم اعتراف ومحبة بالانطباعيين والانطباعية، ونعرف علاقات الفنان المتشابكة بين أخيه، وبين أقربائه ومعارفه في القرية الفرنسية على الأقل.. ما حاوله العمل هو تقديم الفرضيات المتعددة حول موته، وسيكون المتفرج من عليه التّكهنُ للفرضية الأنسب.

ختاماً؛ هو عمل مميز، ولو صادفَ أن تابعتَ مشهداً منه سيدفعك إلى الغوص في عالمه الفني وغير المسبوق تقنياً، وخصوصاً لمن يحب الفنون التشكيلية والرسم، ويتعاطف مع الظلم الذي يتعرض له بعض الفنانين والمشاهير خلال حياتهم.


ورقة تقنية للفيلم
نوعه: رسوم متحركة
العنوان: Loving Vincent (في حب فنسنت)
الدولة: بولونيا، إنجلترا (2017) | مدته: ساعة وخمسة وثلاثون دقيقةً | إخراج: دوروتا كوبيلا وهوك ويلشمان
 

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها

محمود كحيلة

أشكركم علي هذه المبادرة بنشر مثل ذلك المقال التفاعلي المدعوم بالفديوهات التي توضح وجه نظر الكاتب وتعرضها شكرا للصديق العزيز عزيز ريان كاتب المقال علي هذه الإضافة الجميلة، وشكرا لهيئة تحرير الرافد التي .تحافظ دائما وأبدا علي أن تظل بالريادة

5/11/2021 8:33:00 PM

1