الأم في شعر الصعاليك

حسن الحضري

احتلَّت الأم مكانةً خاصة في الشعر العربيّ؛ فهي مصدرٌ للفخر، ورمزٌ للعطاء، وكان أبناء القبيلة الواحدة -بل والأسرة الواحدة- بعد أن تساووا في الأب الواحد؛ كان يفخر بعضهم على بعض بأمه ومحتدها وشرف نسبها؛ ومن ذلك قول ذي الأصبع العدواني [ت: 22 ق. هـ]1. يفخر على ابن عمه، فيعتز بأن أمه ليست براعية2:
عَنِّي إِليكَ فما أُمِّي براعيةٍ ... تَرعى المَخاضَ وما رأيِي بمَغبونِ
و«إنما خصَّ رِعْيَة المخاض لأنها أشد من رِعْية غيرها، فلا يُمتهَن فيها إلا مَن حقر ولم يُبالَ به»3.

وقال الشنفرى [70 ق. هـ]4 مفتخراً5:
أليس أبي خيرَ الأواسِ وغيرِها ... وأمِّي ابنةَ الخَيْرينِ لو تعلمينَها
فذكر أمه في فخره، ولم يكتفِ بذكر أبيه.

وقال الشنفرى أيضاً في مطلع لاميَّته6:
أقيموا بنِي أمِّي صدورَ مَطِيِّكم ... فإنِّي إِلَى قومٍ سواكم لَأَمْيَلُ
«وأضاف الأبناء إلى الأم؛ لأنها أشد شفقة، كما قيل في قوله تعالى حكاية عن هارون: (يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي) [طه: 94]»7.

وقال تأبَّط شرًّا [ت: 80 ق. هـ]8 مفتخراً بقوَّته9:
[و]ما ولدَتْ أمِّي مِن القوم عاجزًا ... ولا كان ريشي مِن ذُنابَى ولا لَغْبِ10
فهو يذكر أمه في فخره، نافيًا عنها أن تكون وَلَدت عاجزًا أو إمَّعةً أو أحمق.

وقد ظهرت الأم في شعر الصعاليك بصورة فريدة، وإن كانت في الأصل مستوحاة من ثقافة البيئة العربية بصفة عامة، إلا أنَّ لها في شعر الصعاليك أبعادًا أكثر عمقًا ودلالة وتنوُّعًا منها في شعر غيرهم، ويتضح ذلك من خلال عرض هذه الأبيات للشنفرى متحدثًا عن صديقه تأبَّط شرًّا11:
وأُمُّ عِيالٍ قَدْ شَهِدتُ تَقُوتُهُمْ ... إِذا أطعمَتْهم أوتَحَتْ وأَقَلَّتِ12
تَخافُ علينا العَيْلَ إِنْ هي أكثرَتْ ... ونحنُ جِياعٌ أيَّ آلٍ تَأَلَّتِ13
مُصَعلكةٍ لا يَقْصُرُ السِّترِ دُونَها ... ولاَ تُرْتَجَى للبَيتِ إِنْ لم تُبَيِّتِ
لها وَفْضةٌ فيها ثلاثونَ سَيْحَفًا ... إِذا آنَسَتْ أُولَى العَدِيِّ اقْشَعَرَّتِ14
وتأْتِي العَدِيَّ بارِزًا نِصْفُ ساقِها ... تَجُولُ كَعَيْرِ العانَةِ المُتَلَفِّتِ15
إِذَا فَزِعوا طارَتْ بأَبيضَ صارِمٍ ... ورامَتْ بِما فِي جَفْرِها ثُمَّ سَلَّتِ16
حُسامٍ كلَوْنِ المِلْح صافٍ حديدُه ... جُرازٍ كأَقطاعِ الغَدِيرِ المُنَعَّتِ17
تَرَاها كأذْنابِ الحَسِيلِ صَوادرًا ... وقَدْ نَهِلَتْ مِنَ الدِّماءِ وعَلَّتِ18

قال في «شرح الحماسة»: «وقد سمَّى الشنفرى تأبَّط شرًّا بأمِّ عيالٍ؛ لِما كان يجمع من أمر أصحابه ويتكفَّل به لهم ويدبره»19.

والأم هنا لها طبيعة خاصة؛ فهي تجمع بين حنان الأم ورغبتها في تلبية احتياجات أولادها، وبين حكمة الأب الذي يعطيهم بحسب ما يكفيهم مما هو متاح لديه بالفعل؛ خوفًا من دفعِه إليهم مرة واحدة مع قلَّته؛ حتى لا يحتاجوا فلا يجدوا بعد وقت قصير.. وفي خضمِّ ذلك لا تنسى هذه الأم واجباتها الأخرى في الدفاع عن أولادها ضد الأعداء، وخوض الحروب والمعارك من أجلهم، بسيفها الحادِّ الصارم، ورماحها العريضة القاتلة، فهي الأم والأب معًا في آنٍ واحد، ولا شك أن الأم تستطيع أحيانًا القيام بدور الأب، في حين ندرة وجود الأب الذي يستطيع القيام بدور الأم، ولذلك عبَّر الشنفرى في وصفه تأبَّط شرًّا بالصورة التي تناسب حال الصعاليك في تشرُّدِهم وحاجتهم إلى الأم التي تجمع شتاتهم وتؤويهم إليها.   

كما أن هذا الوصف من الشنفرى لرفيقه تأبط شرًّا، وتشبيهه إياه بأم العيال؛ يرسم صورة حقيقية لما كان يفعله الصعاليك فيما بينهم، ومن ذلك ما ذكره عروة بن الورد [ت: 30 ق. هـ]20 عن نفسه مفتخرًا21:
إنِّي امرؤٌ عافِي إنائي شِرْكةٌ ... وأنتَ امرؤٌ عافِي إنائكَ واحدُ22
أتَهزأُ منِّي أنْ سَمِنتَ وقَدْ تَرَى ... بجِسميَ مَسَّ الحقِّ، والحقُّ جاهدُ
أقسِّمُ جسمي في جسومٍ كثيرةٍ ... وأحسو قراحَ الماءِ والماءُ باردُ

قال ابن السِّكِّيت [ت: 244هـ]23: «والحق الذي ذكره صلة الرحم وإعطاء السائل وذوي القربى، فمن فعل ذلك جهَده»24.

وأبيات عروة تذكِّرنا بحديث عائشة -رضي الله عنها- حيث «قالت: جاءتني مسكينةٌ تحمل ابنتينِ لها، فأطعمتُها ثلاثَ تمراتٍ، فأعطتْ كلَّ واحدةٍ منهما تمرة، ورفعتْ إلى فيها تمرةً لتأكلَها، فاستطعمتْها ابنتاها، فشقَّتِ التَّمرةَ التي كانت تريدُ أن تأكلَها بينهما، فأعجبني شأنُها، فذكرتُ الذي صنعتْ لرسولِ اللهِ -صلَّى الله عليه وسلَّم- فقال: إنَّ اللهَ قد أوجَبَ لها بها الجنَّةَ، أو أعتقَها بها مِنَ النَّارِ»25.

فعروة مع صعاليكه كهذه الأم مع ابنتيها، فهو يقسِّم جسمه في جسومهم، ويحرم نفسه الطعام والشراب من أجلهم؛ ويؤكد معنى (الأمومة) في أبيات أخرى، يوضح فيها أنه لا يفعل ذلك من أجل مقابلٍ ينتظره منهم؛ وإنما هو الواجب؛ يقول مخاطبًا صعاليكه26:
فإنِّي وإيَّاكم كذِي الأمِّ أرهنَتْ ... له ماءَ عينَيْها تُفَدِّي وتَحمِلُ
فلمَّا ترجَّتْ نَفْعَه وشبابَه ... أتَتْ دُونَها أخرى جديدٌ تَكَحَّلُ
فباتَتْ لِحَدِّ المِرْفَقَيْنِ كليهما ... تُوَحْوِحُ ممَّا نابَها وتُوَلْوِلُ27
تَخَيَّرُ مِن أمرينِ ليسا بغِبْطةٍ ... هو الثُّكْلُ إلا أنها قد تَجَمَّلُ

وفي هذه الأبيات يرسم عروة صورة صادقة لعطاء الأم التي لا تنتظر مقابلًا من أولادها؛ فهي تُفني عمرها في تربيتهم والقيام بأمورهم، وحين يكبرون ويصبحون قادرين على العطاء وعلى القيام بشؤون غيرهم؛ يذهب كلٌّ منهم إلى فتاة يتزوجها ويبني معها بيتًا جديدًا، تاركًا أمه التي هي صاحبة الفضل عليه، فتصبح حينئذ كأنها ثكلى غير أن ولدها حيٌّ يُرزق. 



الإحالات: 1. «الأعلام» للزركلي (2/ 173)، طبعة: دار العلم للملايين، الطبعة الخامسة عشرة 2002م.┊2. البيت من البسيط، من قصيدة له في «المفضليات» للمفضل الضبي (ص: 160)، تحقيق وشرح: أحمد محمد شاكر- عبد السلام محمد هارون، طبعة: دار المعارف- القاهرة، الطبعة السادسة.┊3. «سمط اللآلي في شرح أمالي القالي» لأبي عبيد البكري (1/ 571)، تحقيق: عبد العزيز الميمني، طبعة: دار الكتب العلمية- بيروت– لبنان.┊4. «الأعلام» للزركلي (5/ 85).┊5. البيت من الطويل، في ديوانه (ص: 78)، تحقيق: د. إميل بديع يعقوب، طبعة: دار الكتاب العربي- بيروت، الطبعة الثانية 1417هـ- 1996م.┊6. البيت من الطويل في ديوانه (ص: 58).┊7. «خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب» لعبد القادر البغدادي (3/ 341)، تحقيق وشرح: عبد السلام محمد هارون، طبعة: مكتبة الخانجي- القاهرة، الطبعة الرابعة 1418هـ- 1997م.┊ 8. «الأعلام» للزركلي (2/ 97)┊9. البيت من الطويل، في «الجيم» لأبي عمرو الشيباني (3/ 211)، تحقيق: إبراهيم الأبياري، راجعه: محمد خلف أحمد، طبعة: الهيئة العامة لشؤون المطابع الأميرية- القاهرة، 1394هـ- 1974م.┊10. ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل، والوزن يحتاجها، ذُنابى: جمع ذنَب، وذَنَب الرجل: أتباعه من السَّفَلَة الذين لا شأن لهم. انظر «لسان العرب» لابن منظور (1/ 389)، طبعة: دار صادر- بيروت، الطبعة الثالثة 1414هـ؛ لَغْب: هو الرجل الضَّعيف الأحمق، وهو أيضًا الرِّيش الفاسد. المصدر السابق (1/ 742).┊11. الأبيات من الطويل، في ديوانه (ص 35- 36).┊12. أوتحتْ: أقلَّت عطاءهم. انظر «لسان العرب» لابن منظور (2/ 628).┊13. أيَّ آلٍ تألَّت: أيَّ جَهدٍ جهدتْ. انظر المصدر السابق (14/ 40).┊14. وَفضة: هي الجَعبة، وسَيْجف: هو النَّصل المُذَلَّق؛ أي: العريض. انظر المصدر السابق (7/ 250)، أُولَى العَدِيِّ: أول من يَحمِل من الرَّجَّالة. انظر المصدر السابق (9/ 145)، اقشعرَّت؛ أي: ارتعدت. انظر المصدر السابق (5/ 95).┊15. العَيْر: الحمار. المصدر السابق (4/ 620)، العانة: القطيع من حمر الوحش، وهي الأتان أيضًا. المصدر السابق (13/ 300)┊16. جفرها: جعبتها التي فيها سهامها. انظر المصدر السابق (4/ 143).┊17. جُراز: قاطع. المصدر السابق (5/ 317)، المنعَّت: المنعوت بالجودة. انظر المصدر السابق (2/ 99).┊18. الحَسِيل: أولاد البقر. المصدر السابق (11/ 152)، نهِلت؛ أي: شربت في أول الوِرد. المصدر السابق (11/ 680)، علَّت: شربت الشَّبة الثانية. المصدر السابق (11/ 467).┊19. «شرح ديوان الحماسة» للمرزوقي (ص 537)، تحقيق: غريد الشيخ، وضع فهارسه العامة: إبراهيم شمس الدين، طبعة: دار الكتب العلمية- بيروت- لبنان، الطبعة الأولى 1424هـ- 2003م.┊20. «الأعلام» للزركلي (4/ 227).┊21. الأبيات من الطويل، في ديوانه (ص: 138- 141)، شرح: يعقوب بن السِّكِّيت، عني بتصحيحه: الشيخ ابن أبي شنب، طبعة: جول كربونل- الجزائر.┊22. البيت به خرم، وهو حذف أول الوتد المجموع في أول البيت.┊23. «الأعلام» للزركلي (8/ 195).┊24. «شرح ديوان عروة» لابن السِّكِّيت (ص: 140).┊25. أخرجه مسلم في صحيحه (4/ 2027/ 2630)، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، طبعة: دار إحياء التراث العربي- بيروت.┊26. الأبيات من الطويل، في ديوانه بشرح ابن السِّكِّيت (ص: 117- 118).┊27. تُوحوِح: مِن الوحوحة؛ وهي الصَّوتُ من الحَلْق. انظر «لسان العرب» لابن منظور (2/ 631)، تُوَلوِل: من الولولة؛ وهي الصَّوت المتتابع بالويل والاستغاثة. المصدر السابق (11/ 736).

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها