التغريبة الفلسطينية.. أيقونة الباحثين عن الحرية

حاتم علي من "صلاح الدين" إلـى "ثلاثية الأندلس"

الأمير كمال فرج

الإنسان ابن البيئة التي يعيش فيها، وهي حقيقة يؤكدها علماء الأنثربولوجيا، وتعززها نظرية "المدخلات والمخرجات"، فإذا كانت المدخلات من الزهور فلا شك ستكون المخرجات لها رائحة العطور، والعكس بالعكس.. هذا بالنسبة للإنسان بشكل عام، فما بالك لو كان هذا الإنسان مبدعاً؟!

هذه النظريات تنطبق تماماً على المخرج السوري الراحل حاتم علي، الذي توفى في 29 ديسمبر الماضي، بعد حياة حافلة بالفن والإبداع، فقد ولد عام 1962 في بلدة الفيق في الجولان السوري المحتل، وعاش تجربة الاغتراب واللجوء، حيث اضطرت عائلته للنزوح بعد احتلال إسرائيل لمرتفعات الجولان عام 1967، وكان حينئذ في الخامسة، وعاش مع أسرته الصغيرة في أطراف مخيم اليرموك الذي يبعد عن دمشق نحو 8 كيلومترات.

وبناءً عليه؛ فلا يمكن لبيئة عناصرها ومدخلاتها: الفقد والتهجير والاحتلال.. إلا أن تقدم لنا شخصيةً فنيةً رائعةً مثل: حاتم علي، تلك الشخصية التي قدمت لنا مسلسل "التغريبة الفلسطينية"، الهولوكوست الفلسطيني، الذي لا يقل قسوةً عن الهولوكوست اليهودي.

حاتم الذي عانى مع عائلته من النزوح واللجوء، هو نفسه حاتم الذي استدعى زمن الانتصار الإسلامي القديم في أعمال تاريخية عظيمة مثل: "عمر"، و"صلاح الدين الأيوبي"، و"صقر قريش"، و"ربيع قرطبة، و"ملوك الطوائف"، وكانت أعماله مقاومة بالفن، ودعوة للتذكر، والوقوف ضد حالة الاستلاب التي يعيشها الإنسان العربي مهما اختلفت الأمكنة، سوريا أو فلسطين أو غيرهما.


 

المعاناة والإبداع

يقول نقاد الأدب العربي: إن المعاناة هي المحرك الرئيس للإبداع، وهذا صحيح تماماً، فقد ساهمت المعاناة في صقل موهبة حاتم علي، فكان الأقدر على تجسيد تغريبة أمة وأحزان جيل، أضف إلى ذلك أن المبدع نفسه سواء كان كاتباً أو صحفياً أو مخرجاً مصدر أساسي للأخبار والموضوعات، وقد كانت أعمال الراحل ناقلاً رسمياً للمعاناة التي مر بها شخصياً، فلم يسمع عنها، ولكن عاشها بنفسه وحرقت أصابعه.

وقد ساعد على نجاح التجرِبة لقاء حاتم علي مع رفيقه السيناريست الفلسطيني وليد سيف، الذي عانى هو أيضاً من الاغتراب واللجوء والاحتلال، وبذلك ولدت شراكة إبداعية مهمة حركتها المعاناة، قدمت العديد من الأعمال التاريخية التي توثق نكبات أمة من ناحية، ومن ناحية أخرى تقدم أجزاءً مضيئةً من التاريخ العربي والإسلامي تلهم الأجيال.

والجميل في تجربة حاتم علي الدرامية أنها لم تكن توثق، ولم تعتمد على المباشرة واللغة الجافة، وقد برز ذلك في السيناريو بشكل خاص، ولكنها قدمت قصصاً وشخوصاً وأحداثاً تتحرك وتتفاعل.. وتركت لك ردة الفعل، فكانت تغريبته هي نفسها تغريبة رفيقه وليد سيف، وأيقونةً لكل إنسان يعاني من الظلم والاحتلال.

دائرة النار

تخرّج حاتم علي من قسم التمثيل في المعهد العالي للفنون المسرحية في دمشق عام 1986، وكتب المسرحيات والقصص القصيرة، وبدأ حياته الفنية كممثل مع المخرج هيثم حقي في مسلسل "دائرة النار" عام 1988، لتتوالى بعدها مشاركاته في أعمال درامية. وفي منتصف التسعينيات انتقل إلى الإخراج التلفزيوني، وقدم العديد من الأفلام التلفزيونية الروائية الطويلة، وعدداً من الثلاثيات والسباعيات، وأثرى علي المكتبة التلفزيونية بأعمال كثيرة، من أبرزها مسلسل "الفصول الأربعة".


المسلسلات التاريخية

كانت الأعمال الأهم في مسيرة حاتم علي الفنية هي: المسلسلات التاريخية التي ترصد شخصياتٍ وعهوداً وحقباً هامةً في التاريخ العربي والإسلامي، ومن أبرزها مسلسل "الزير سالم" (2000)، الذي يتناول قصة عديّ بن ربيعة بن الحارث التغلبي، وهو شاعر من أبطال العرب في الجاهلية، و"صلاح الدين الأيوبي" 2001، القائد الذي أسس الدولة الأيوبية التي وحدت مصر والشام والحجاز وتهامة واليمن في ظل الراية العباسية، و"الملك فاروق" (2007) ملك مصر في أسرة محمد علي، و"عمر" ((2012، الذي يتناول قصة الخليفة العادل عمر بن الخطاب، ورباعية الأندلس التي تتكون من أربعة مسلسلات هي: "صقر قريش" (2002)، الذي يرصد قصة عبد الرحمن الداخل مؤسس الدولة الأموية في الأندلس، و"ربيع قرطبة (2003)، الذي يحكي سيرة الحاجب المنصور محمد بن أبي عامر الذي تحول من رجل فقير بين العامة إلى حاجب الخليفة، و"ملوك الطوائف (2005)، ويحكي عن الفترة التي عُرفت في التاريخ الإسلامي بزمن ملوك الطوائف بعد سقوط الخلافة الأموية في الأندلس، و"سقوط غرناطة" حلمه المؤجل الذي رحل قبل تنفيذه.

وأخرج حاتم علي أيضاً عدداً من المسلسلات المصرية، من بينها: "تحت الأرض"، و"حجر جهنم" و"أهو دا اللي صار"، و"كأنه امبارح" في 2018، وكان آخر أعماله التي عرضت على الشاشة الصغيرة. وكان الفنان الراحل قد أعلن في نوفمبر الماضي عن مشروع إعادة إنتاج قصة الزير سالم وحرب البسوس في فيلم سينمائي، وكان من المفترض أن يقوم بأداء الدور الرئيس فيه الممثل السوري جمال سليمان.
 

4 سمات لـ"دراما" حاتم علي

تميزت أعمال حاتم علي التاريخية بعدة عناصر هي:

1. تقديم القيمة على الربح

الإنتاج الفني -كأي عمل- يخضع لحسابات الربح والخسارة، إذا زادت حسابات الربح يقترب العمل من "أفلام المقاولات"، وإن زادت القيمة حظي على تقدير النقاد، ولكن من الممكن ألا ينجح جماهيرياً، إلا أن المسلسلات التي قدمها حاتم علي برزت فيها بشكل واضح القيمة، ولكن في الوقت نفسه لم تهمل جانب الربح، وواءمت بين الاثنين، بمعنى آخر أدركت أن القيمة يمكن أن تؤدي في النهاية إلى الربح، وقد كان ذلك واضحاً في الإنفاق على الإنتاج، من خلال ميزانيات كبيرة، مكنت المخرج من الاستعانة بالمجموعات والديكورات ووسائل التصوير الحديثة وأعداد كبيرة من الممثلين، وكانت النتيجة رائعة.

لم تخضع الشركات المنتجة لمسلسلات حاتم علي التاريخية لمنطق السوق ومقولة "الجمهور عاوز كده"، على العكس أكدت أن القيمة يمكن أيضاً أن تؤدي إلى الربح، وأن جمهور اليوم الذي صقلته التحديات بختلف أنواعها سيقبل على هذه الأعمال التاريخية المصنوعة بحس فني عال، ورؤية إبداعية خلاقة.

2. توثيق قصص الرموز العربية والإسلامية

المتابع للدراما السورية، وأقطابها مثل المخرج العالمي مصطفى العقاد الذي قدم أيقونة السينما العربية العالمية "الرسالة"، ونجدت أنزور الذي قدم العديد من المسلسلات التاريخية مثل: "الجوارح"، سيكتشف اهتمام الدراما السورية الواضح بالدراما التاريخية، ليس الأمر من قبيل الصدفة، ولكنه تيار واضح له رموزه ورواده، بوسعنا الآن بسهولة إعداد قائمة تتضمن أكثر من خمسين مسلسلاً درامياً تاريخياً سورياً قدمت في السنوات الأخيرة.
والدراما التاريخية السورية دراما جادة متقنة متوثبة أشبه بالواقع، ليست كالدراما الدينية التي نشاهدها في بعض الدول والتي تتسم بالتمثيل والإيقاع البطيء الممل، وهو ما ساعد على نجاحها وتصدرها في العالم العربي.. وشغف السوريون بتوثيق الأحداث التاريخية يرجع لأسباب، ربما أحدها ارتفاع الحس القومي والعروبي لدى السوريين، وارتباط السوريين بالثقافة العربية، بل وتعصبهم في بعض العصور لها، ولعل تمسك النظام التعليمي السوري بتعريب الطب أحد الأدلة على ذلك.

3. اللغة السينمائية

تتميز الدراما التاريخية السورية ومن بينها مسلسلات حاتم علي باللغة السينمائية، ظهر ذلك في كثرة الأمكنة المفتوحة للتصوير، وطبيعة السيناريو، والإمكانات الضخمة التي تتوفر للعمل والتي تبدو في مظاهر عدة منها المجاميع الكبيرة، وانعكس ذلك على المشاهد الذي كان يشعر في الكثير من الأحيان أنه يشاهد فيلماً وليس مسلسلاً.

4. إبراز شخصيات غير معروفة للأجيال

الميزة الرابعة المهمة، والتي نبه عليها المفكر الدكتور عمر عبدالعزيز هي: أن حاتم في سعيه لإبراز الشخصيات التاريخية المهمة في التاريخ العربي والاسلامي، حرص على تناول شخصيات غير معروفة لدى الأجيال الجديدة، وتسليط الضوء عليها، وهي فضيلة تحسب للمخرج الراحل.
 

التغريبة الفلسطينية

كان من أبرز أعمال حاتم علي مسلسل "التغريبة الفلسطينية" (2004) الذي أخرجه ومثل فيه أحد أدواره. يتناول المسلسل حكاية أسرة فلسطينية في ظل الانتداب البريطاني في زمن الثورة الفلسطينية الكبرى، مروراً بالعديد من الأحداث، التي ترصد حقبة مهمة في التاريخ الفلسطيني، وحتى نكسة يونيو 1967.
وتعتبر هذه التغريبة بما تتضمن من مراحل زمنية ممتدة وشخوص وأحداث ومواقف، أول محاولة لرصد وتوثيق قصة النضال الفلسطيني ليس عن طريق أفلام وثائقية كما يحب البعض، ولكن عن طريق عمل درامي ضخم مليء بالشخوص والأحداث والمواقف التي تتفاعل، وهو لا شك نوع من التوثيق، ولكنه توثيق فني يعكس بصدق ما حدث؛ وكأن المشاهد يرى بعينيه ما يحدث الآن. وكان ذلك أحد المزايا المهمة للعمل، فبينما يعتمد المحتل على سمة إنسانية وهي النسيان، أعاد حاتم علي تنشيط الذاكرة العربية بتغريبة فلسطينية عربية إنسانية من لحمٍ ودمٍ وشخصيات وأحداث.

أعمال جمعت بين الإبداع والفن

رحل المخرج حاتم علي؛ لكنه أبقى ثناءً مخلّداً في نفوس النقاد والمتابعين، فقد قال عنه الناقد السينمائي، رئيس مهرجان الإسكندرية السينمائي الدولي الأمير أباظة لـ"الرافـد": "رحم الله الصديق العزيز حاتم علي بقدر ما قدم من أعمال إبداعية، سوف تخلده كواحد من كبار المبدعين العرب". وأضاف: "التقيت مع الراحل حاتم علي مرتين، اللقاء الأول في ماي 1999، عندما تلقيت دعوة من الشركة المنتجة وصاحبها المنتج نادر اتاسي رحمه الله لحضور تصوير مسلسل تليفزيوني يتم تصويره في سوريا بعنوان: "عائلتي وأنا" من إخراج حاتم علي، وتأليف سلمى كركوتلي، وحكم البابا، وبطولة النجم الكبير دريد لحام، ومعه سلمى المصري وليلى جبر، وكان العمل الأول للفنان قصي خولي، كانت أياماً ممتعةً تشبه ذلك المسلسل الاجتماعي الكوميدي، أمضيت أسبوعاً في دمشق، وختمته بإجراء حوار مع الفنان دريد لحام الذي تمتد صداقتي به وأسرته لسنوات طويلة، ومع الترحيب الدمشقي والكرم الحاتمي الجميل، خرجت بأصدقاء كان في مقدمتهم مخرج العمل حاتم علي، الذي كان فناناً بسيطاً متواضعاً نبيلاً راقياً".

وأوضح أباظة أن "اللقاء الثاني مع حاتم علي تم بعد اللقاء الأول بأربعة عشر عاماً، عندما توليت رئاسة مهرجان الإسكندرية السينمائي لدول البحر المتوسط في ماي 2013، حيث عقدت الدورة في أكتوبر 2013، في ظل ظروف استثنائية غاية في الصعوبة بعد ثورة 30 يونيو، وفي ظل حظر تجوال فرضته الظروف بسبب المظاهرات، ورغم قطع العلاقات المصرية السورية إلا أنني لم أجد حرجاً في دعوة سوريا للمشاركة في المسابقة الرسمية للمهرجان، فجاء المخرج الصديق باسل الخطيب بفيلم "الأم"؛ ليؤكد المهرجان على أهمية العلاقات الشعبية في التواصل مع الأشقاء في سوريا، وفي نفس الدورة عرضنا الفيلم السوري "الليل الطويل" إخراج حاتم علي، وتأليف هيثم حقي الذي كان يقيم في القاهرة في ذلك الوقت، وعندما أخبرته بعرض الفيلم في المهرجان كانت موافقته ومباركته فورية، بعد أن علم أننا طلبنا من المنتج عرض الفيلم على هامش المهرجان، حيث إنه كان إنتاج 2008".

وأبان رئيس مهرجان الاسكندرية السينمائي الدولي أن "القاهرة شهدت لحاتم علي أيضا عرض فيلم "سيلينا" بطولة ماريام فارس، وكانت تجربة مهمة في مسيرته الإبداعية، حيث قدم أربعة أفلام، وإن كانت الدراما التليفزيونية قد فرضت نفسها علي إبداعاته سواء هناك في سوريا أو هنا في مصر التي صارت له حصنا ووطنا"، مشيرا إلى أن مسلسل "الملك فاروق" الذي أخرجه الراحل عام 2007 حظى بردود أفعال غير عادية استمرت لفترة طويلة بعد عرض المسلسل.

وقالت مديرة الشؤون الأدبية بالمجلس الأعلى للثقافة المصرية، الأستاذة في الأدب الشعبي بجامعة القاهرة الدكتورة أماني الجندي لـ"الرافـد": "عند وفاة المخرج حاتم علي نتذكر أبرز أعماله "ثلاثية الأندلس"، "صقر قريش"، و"ربيع قرطبة"، و"ملوك الطوائف"، ورابعها الذي لم يتم "سقوط غرناطة"، أيضاً "التغريبة الفلسطينية"، ومسلسلات: "عمر"، و"صلاح الدين الأيوبي"، و"الفصول الأربعة"، ولا ننسى "الزير سالم"، أيضاً السلسلة الدرامية التي قام ببطولتها الفنان الكبير ياسر العظمة "مرايا".
وأضافت: "إن أعمال حاتم علي أحدثت نقلة نوعية في السياق الدرامي والعرض التشويقي للأحداث، والكيفية التي تتم مناقشة تلك القضايا، كما حدث في أحلام كبيرة، عصي الدم، والملحمة التاريخية فانتازيا الزير سالم، والملك فاروق، وغيرها من الأعمال الدرامية التي تعد من الأعمال الفنية التي عملت على خلق حالة فنية تتمتع بالرقي والإبداع المنقطع النظير".

أوضحت الدكتورة أماني الجندي أن: "حاتم علي خلق حالة فنية درامية خاصة تلامس الوجدان، وتخاطب العقل العربي، وتتفاعل مع الملايين من المشاهدين، بسبب قدرته على خلق الواقع الدرامي المشوق والمتسق بالصورة والكلمة والحركة الإبداعية في الأداء، بحيث تجد نفسك مجبراً لأن تَتَسمّر أمام الشاشة لمتابعة العمل".

وختمت كلمتها بالقول: "إن المخرج القدير والمتجدد حاتم علي يرحل اليوم وفي رصيده الكثير مما قدم للشاشة السورية على وجه الخصوص والشاشة العربية عامة، وهي أعمال ستبقى طويلاً في ذاكرة الأجيال".

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها