بيت السناري.. عبق التاريخ الذي خرج منه وصف مصر

ناجي محمد كامل العتريس

بيت السناري يُعد واحداً من البيوت الأثرية التي تحمل عبق التاريخ المميز، ويفوح عطره ليأسرنا بسحر الماضي العتيق. وتكمن أهميته في أنه يحمل بين جدرانه وأسقفه جماليات الفن المعماري الزخرفي، الأمر الذي يجعله تحفة نادرة في شكل بيت أثريّ يخطف الأبصار ويسحر الألباب. ويطلق عليه اسم "بيت العلوم والثقافة والفنون"، وهو مسجل كأثر من آثار مصر الإسلامية بالقرار رقم: 283.
 

وبيت السناري نموذج مكتمل التكوين في عمارته الفريدة، وهو عبارة عن قصر منيف تم بناؤه للصفوة، وقد بناه "إبراهيم كتخدا السناري" بقاهرة المعز عام 1209 هجرية، الموافق 1794 ميلادية، وأنفق عليه أموالاً طائلةً، وكان هذا البيت أحد ثلاثة بيوت صادرها الفرنسيون عام 1798 بغرض إسكان أعضاء لجنة العلوم والفنون، التي جاءت مع حملة نابليون على مصر لإعداد دراسة منهجية للبلاد، ومنه أنجز ٢٠٠ عالم فرنسي موسوعة "وصف مصر" الشهيرة. وبيت السناري هو البيت الوحيد الباقي من هذه البيوت في حين حُطما البيتان الآخران.

كان "إبراهيم كتخدا السناري" صاحب هذا البيت من أثرياء القاهرة، وهو من أهالي دنقلة بالسودان، وعمل بواباً بالمنصورة ثم أقام بالصعيد؛ إلا أنه سرعان ما لمع نجمه وعمل في خدمة مصطفى بك الكبير ومراد بك، وأصبح السناري ذا مال وسلطان، وشرع في بناء بيته الذي استمر في إنشائه على مدار عشر سنوات، وكان في ذهنه أن يجعله تحفة معمارية يتحاكى بها المعاصرون واللاحقون، وانتهى منه قبل مجيء الحملة الفرنسية ببضع سنوات، ولم ينعم بالإقامة فيه طويلاً، حيث توفي سنة 1216هـ - 1801م.

يقع هذا المنزل في حي الناصرية بالسيدة زينب، ويحوي بيت السناري مميزات العصر الذي تم تشييده فيه؛ حيث له واجهة واحدة تطل على حارة "مونجي" التي تسمى بهذا الاسم نسبة إلى أحد علماء الحملة الفرنسية الذين أقاموا بالبيت عند احتلالهم مصر. وهذه الواجهة هي الشمالية وبها المدخل الرئيس الذي يعلوه مشربية من خشب "الخرط". يؤدي هذا الباب إلى مدخل منكسر للحفاظ على خصوصية المنزل، يفتح عليه باب على اليمين يفتح على قاعة أرضية مخصصة للاستقبال. والمنزل يتكون من فناء مستطيل تتوزع حوله العناصر المعمارية للمنزل طوله تسعة أمتار، وعرضه ثمانية أمتار تقريباً، تتوسطه فسقية، وبضلعه الشرقي باب يفتح على ممر يؤدي لغرف وملحقات، يتوصل منها للحديقة التي تقع في الزاوية الشمالية الشرقية للمنزل.

أما الضلع الجنوبي بالطابق الأرضي فيشغله "تختبوش"، وهو عبارة عن مساحة مستطيلة مغطاة بسقف خشبي به زخارف ملونة، يرتكز على عمود رخامي، وهو مكان مخصص لاستقبال العامة من الزوار، يؤدي إلى المقعد التي تعقد به الندوات الثقافية حالياً درجات سلم دائري، تؤدي إلى مدخل يعلوه عقد مستقيم مزخرف بثلاث دوائر، بالوسطى زخارف نجمية. والمقعد نفسه مسقوف بسقف خشبي، مكون من "براطيم" خشبية، وتتصدر المقعد المشربية الخشبية الرائعة، وهناك قاعة للحريم تمتد من ناحية الشارع في المقدمة إلى المقعد في الخلف، وملقف هواء يواجه القاعة من الناحية الشمالية، لتقليل الإحساس بدرجة الحرارة أثناء الصيف.
 

وقد انتقلت تبعية بيت السناري إلى مكتبة الإسكندرية، التي عملت على تجهيزه ليكون بيتاً للعلوم والثقافة والفنون، كما كان من قبل. ويعقد به حالياً العديد من الأنشطة الثقافية والفنية، كإقامة معارض الرسم والتصوير، وغيرها من المعارض بالإضافة إلى العديد من الورش الخاصة بتعليم العديد من الأنشطة الفنية. وقد كتب الروائي عمار علي حسن رواية حملت اسم "بيت السناري"، حصلت على جائزة الطيب صالح العالمية للإبداع الكتابي لعام 2016، وجاء على غلاف الرواية: "أنها تلتقط حكاية غريبة منسية من تاريخ مصر، لم تأت الكتب والحوليات على ذكرها إلا عبر سطور قليلة، فنفخ فيها الكاتب من خياله، وحصيلة اطلاعه، وفهمه لتأثير الماضي في الحاضر؛ ليبدع من كل هذا سرداً يعانق التاريخ فيه الفن، ويتضافر الجمال مع المعرفة.
الرواية ليست فقط عن عُمران بيت رائع، ولا عن رجل عجيب، أحب الحياة والسكينة وجارية فاتنة، فعاش مطارداً، ومات غريباً، دون أن يتبدد سحره، وينجلي غموضه، بل هي أيضاً حكاية مجتمع يقاوم الضياع".

الجدير بالذكر أن المجمع العلمي المصري قد نُقل إلى بيت السناري في عام 2012، بعد احتراق مقره القديم في الأحداث التي تلت ثورة 25 يناير.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها

حاتم صلاح السروي

مقال مفيد وذو مادة معرفية مهمة وجذابة.. هذا المقال جعلني أعرف ما لم أكن أعرفه.. تعجبت لصاحب البيت المسكين الذي جاء من دنقلة في السودان وعمل بوابًا في المنصورة ثم استقر بالصعيد حتى وافاه مطلع السعد وعمل في خدمة مراد بك ولكن الدنيا لم تمهله، فبعد أن أنفق أمواله وعشر سنين من عمره في بناء بيته الرائع بهندسته المبهرة ومعماره الجميل، جاءت الجملة الفرنسية وأسكنت ضباطها في بيته، ومن هذا البيت خرجت موسوعة وصف مصر التي شارك فيها 200 عالم فرنسي، فهذا البيت يمثل مجد التاريخ وعظمة مصر التي توالى عليها المحتلون فما زادوها إلا قوة. ومضى إبراهيم السناري رحمه الله إلى ربه سنة 1801 بعد أن ترك بيتاً أنيقًا أراد له القدر أن يكون بيتًا للعلم والثقافة حتى أنه بعد احتراق المجمع العلمي في مصر أصبح هذا البيت مقراً للمجمع منذ عام 2012، والبيت الآن تابع لمكتبة الإسكندرية، وهو مطل على حارة مونجي ومونجي هو أحد علماء الحملة الفرنسية الذين سكنوا البيت،. وأعجبتني مقولة أن رواية بيت السناري للكاتب عمار علي حسن يتضافر فيها الجمال مع المعرفة ويتعانق فيها التاريخ مع الفن. والصور التي مع المقالة أعجبتني.. فشكرًا للكاتب الأستاذ ناجي محمد كامل العتريس والشكر موصول لمجلة الرافد واحة المعرفة ولرئيس تحريرها الفنان والكاتب عمر عبد العزيز.

4/17/2022 1:26:00 PM

1