بين الكلاسيكية والحداثة!

عبد السلام فاروق

ثمة معركة فكرية احتدمت بين عميد الأدب العربي طه حسين، وما يمثله من رؤية أدبية كلاسيكية أصولية، تنتصر للمبادئ الأدبية الراسخة عبر تاريخ الأدب واللغة، وبين جيل جديد من النقاد الذين رفعوا شِعار الحداثة في الأدب والنقد، كان منهم (محمود أمين العالم) و(عبد العظيم أنيس)، و(لويس عوض) و(إسماعيل مظهر)، و(سامي داود). طالت المعركة وامتدت لعدة سنوات، وبات لكل قائد من الفريقين جنود وأنصار، دافعوا بكل قواهم الفكرية وأسلحتهم الأدبية واللغوية بعشرات المقالات والمحاضرات والندوات، في ميادين الثقافة والصحافة والأدب.
 

إنه صراعٌ دائر ودائم يشتعل بين حين وآخر شرقاً وغرباً، بين كل جيل، والجيل الذي يليه أو يسبقه.. ثم تخبو الصيحة وتستقر المفاهيم وتُعاد قراءة الصورة بعد أن ينجلي غبار الوطيس؛ فإذا بنا أمام مشهد مختلف، حيثُ يمكن رؤية الأشياء على حقيقتها، وحيث التجربة تنبئ عن نتائجها النهائية.

 بالعودة بالذاكرة الحضارية قليلاً للخلف نحو سبعينيات القرن الماضي، نجد أن سرعة الحداثة سادت بين أروقة الثقافة والإعلام، والدراما والفنون في شكل موجات متتابعة من مدارس فوضوية مختلطة، تنتقل من البوهيمية إلى السيريالية إلى الرمزية، إلى اللاعقلانية إلى العبثية إلى الوجودية، إلى الدالية إلى العدمية، حتى انتهت إلى نظرية الفوضى الشهيرة. مثل هذا المشهد الصدامي بين القديم والجديد هو مشهد صحي للغاية، ولا ينشط إلا في الأوساط الثقافية الراقية المتحضرة، بينما يمثل غيابه مؤشراً للركود الأدبي، كما هو الآن في المحيط الثقافي العربي بشكل عام. وفي مثل هذه الأحوال والأحقاب يميل بعض المثقفين إلى الحنين لأزمنة قديمة، سادت فيها أجواء ثقافية ربيعية بعد اختناقهم من أثر قيظ الصيف الثقافي الجاف وسط براري الأدب الذابل الهزيل، وبين كثبان الصحاري الثقافية القاحلة ذات المنظور المتوحد الضيق.

إن أسوأ ما في الحداثة أنها ترفض القديم جملةً وتفصيلاً، وبهذا تقطع الصلة بين الأجيال! وهي تفسر التطور على أنه نوع من القفز أو الطيران، أو الانفصال التام عن الأصل، لا أنه تواصل بين قديم وحديث، وإضافة وتعديل وتحوير للماضي وللتراث.

أخطأت الحداثة حين وضعت لنفسها قوانين ومسلمات وفرضيات فلسفية جامدة، كفرضية الثابت الذي يحكم المتحول، والعقل الجمعي الذي يفسر النشاط البشري تفسيراً موضوعياً، وتكريس الزهو بما يُدعَى ثقافة النخبة لتمييزها عن ثقافة الجماهير. فجاء تيار ما بعد الحداثة مناقضاً ومناهضاً لسائر هذه الفرضيات الجدلية وهادماً لها جميعاً، رافعاً من شأن الثقافة الشعبية، معيداً لفكرة تمجيد التراث لإحياء ثقافة الاختلاف والتعددية الفكرية.

أهم مزايا الثقافة الأمريكية في نسختها الناجحة؛ أنها لا ترفض أحداً ولا تفاضل بين تيار وتيار. كل التيارات والمدارس المتناقضة والمتعارضة معروضة وموجودة على الساحة طوال الوقت، فلا القديم يرفض الحديث، ولا الجديد يهدم القديم. جميع الرؤى مطروحة، وكافة النظريات لها من يؤيدها، وسائر التيارات الأدبية لها إنتاج دائم مهما كان قديماً بالياً في نظر البعض. فالأذواق تتباين، وهناك دائماً من يحن للماضي ويعشق التراث، ويفضل الذوق الكلاسيكي على ما عداه.

يقول أحد النقاد الكلاسيكيين مستهجناً تلك النظرة المتعالية لأنصار الحداثة قائلاً: (إذا كان دعاة الأدب الحديث يزعمون أن أدبنا الكلاسيكي محكوم عليه بالموت لأنه يترفع عن العامة، فليت شعري ماذا يقولون عن أدبكم أنتم وهو يترفع عن الخاصة)؟ المعضلة الآن أن المعارك الفكرية لم يعد لها وجود. لا أدرى إن كان هذا الأمر سبباً أم نتيجة لحروب الدم.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها