الدُّمْية

أمل موسى رمضان بشير


أصل إلى غرب المدينة؛ حيث خيامهم المنصوبة بين التلال الرملية، والحقول النائية. كدت أضل الطريق لولا العلامات والممرات المختصرة التي وصفوها لي؛ تتبعتها محتمية بظلال الجدران، والنخيل المرسومة على الأرض من قيظ الظهيرة، هواء الخلاء يبعثر حبات الرمال من حولي، وأنا أسرع نحو مقصدي تلبية لتوسلات أمي، لم أجدها بل وجدت عجوزًا يجلس في ظل الخيمة بثياب رثة، تبدو عليه مظاهر الشقاء والبلاء، من حوله أطفال يمرحون وسط الأغنام والماعز وأكوام من الذباب تطن حول أواني الطهي المتسخة، ما إن لمحوني حتي التفوا حولي مهللين، طالبين المعونة بلّغتهُ رسالتها مؤكدة عليه تنبيهها من أجل زيارتنا للأهمية.

عند الغروب جاءت، لمحتها من خلف ستائر الشرفة، تتسلل عبر سور بيتنا المنخفض، متلفتة حولها فمنذ طردها وشملتها قائمة ممنوعاته، وهي تأتي في غيابة أسمع صرير الباب أتأملها، وهي تقترب كما لم أرها من قبل فارعة الطول نحيفة، بشرتها سمراء، ولها عينان واسعتان، تجذبني القطع المعدنية البراقة المتدلية من غطاء رأسها فوق جبهتها العريضة، وخطوط الوشم الخضراء الغائرة في ذقنها، تفترش أرض الحجرة، تضع مقطفها بجوارها، تلملم أطراف عباءتها المنقوشة بزهور بهتت ألوانها، تجلس أمي أمامها ملهوفة أهم بالجلوس معهما؛ تقذفني بشرر من عينيها يدفعني للخارج والباب من خلفي، من الثقب الخاص بي أسلط حاستي السمع والبصر، هل سيبوح لها الودع عندما توشوشه بسر رسوبي في الشهادة الإعداية وما تبقى من أسرار أبي؟!

لقد همس بسر زواجه بأخرى فكيف لا يكشف ما تبقى من أسرارنا؟!

مثل كل مرة، ستضع التمائم في كفها لتدسها في وسادته وتصنع الخلطة السحرية ويشربها ممتزجة بمرق الدجاج لتفعيل سحر التفريق.

تسأل عن مصير خيمتهم المهترئة، وعلاج مرض والدها العجوز وفشل كليته؛ تجذب حقيبتها وتناولها ما تبقى من المبلغ الذي قبضته مقابل بصمة إصبعها، وخَتْمِها على عقد تنازل عما تبقى لها من ميراثها في أرض جدي؛ يتهلل وجهها، وهي تمسك بطرف الخيط الرفيع بأسنانها، وتشبكه بين أصابعها؛ تلتقط الشعيرات النابتة في وجه أمي فيزداد جمالًا ويصير أكثر بياضًا، تثرثر بأسرار مفجعة لنساء المدينة كل واحدة بالاسم والدليل، لم تنس نصيب العوانس والعرائس العاقرات والمطلقات، والرؤوس التي وفقتها في الحلال، والأسحار التي أبطلت مفعولها، تفتش في مقطفها حتى تعثر على قطع الفحم وتضعها على الموقد حتى تتوهج تنثر عليها البخور، وعيون العفريت التي تنفجر مطقطقه وتتلوى الأدخنة محملة بالرائحة الطيبة، وتتكاثف فتتغبش سماء الحجرة، تنفذ إلى رئتي فأسعل مبتعدة وأعود متلهفة، أراها وقد أمسكت بالعروس التي شكلتها من ورقة بيضاء بلا خطوط طول ولا عرض، تثقب رأسها وعينيها، تتغلغل الثقوب في كامل جسدها وهي تمتم بالدعاء على شياطين الجن والإنس وتسب الساحرين، والحاسدين وتستعيذ من أعين الأقارب والجيران والمتسببين في تحول أبي لجن مُصور عندما يتملكه الغضب فيقوم بتحطيم المقاعد والتلفاز، أو طباق الخزف ويخبط رأس أمي في خزانة الملابس فتتخلخل ضلفها، وينهال علينا ضرباً.

وفي النهاية يعاقبنا بالأسر داخل الحجرة لأيام تقسم أن لا ذنب له، ولا حيلة للخلاص غير مصالحة الأسياد وإرضائهم تنظر يسارها وتتوسل في طلب السماح أبصق على الشياطين وأنا أستعيذ منهم وأسامحه، في حين تلقي العروس مصرعها وتفوح رائحة احتراقها ممتزجة برائحة البخور، لم أكد أنسحب مفسحًا لهما الطريق حتى صعقني ما حدث، التفتت نحو أختي التي تصغرني بسبعة أعوام كانت تلهو كعادتها مع دميتها البالية، الجاحظة العينين تغدق عليها عطفًا وحنانًا تطعمها وتعلمها، وأحيانًا تضربها.

لقد عانت الصغيرة من مرض لازمها لحد البلل في الفراش منذ فحصتها الغجرية في المرة السابقة لولا أن صرخت فيها مهددة بإفشاء كل أسرارهما لأبي فتركتها مرغمة، اقتربت منها وجذبتها فهبت مذعورة تصرخ وهي تقفز نحوي متشبثة بي وبدميتها أسرعت نحوها ملهوفة؛ أطوقها بكامل قوتي كنت أستغيث بينما تتسرب لأنفي رائحة تبغه التي تسبقه، ها هو تنشق عنه الأرض ويطل من المدخل كجن مصور! يداهمنا بلا سابق إنذار خلتني أتوهم مجيئة، أفرك عيني فأجده يقبل نحوهما ووجهه يزداد قتامة، كادت أختي أن تفقد توازنها وتسقط فأسرعت أسندها على كتفي، أوينا إلى الحجرة والرجفة تنتابنا مددتها على فراشها؛ تكومت في الزاوية بجوار دميتها مستسلمة لنومتها الأبدية، اخترق سمعي قسمه بالفراق بلا رجعة ورحلت معها منذ هذا اليوم إلى بيت جدتي، في حين هجرت زوجة أبي خيمتهم المهترئة وحطت بأغراضها الجديدة عندنا.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها