مويان.. والبحث عن الإلهام

ترجمة: مي ممدوح

منذُ بداية مشواره الإبداعيّ في أوائل الثمانينيّات وحتى اليوم، غطى إبداع مويان العديد من الأنماط الأدبية، مثل: الرواية والنُّوفيلا، والنثر، والمسرحية، والخطب، والحوارات وغيرها. وبالنسبة للمبدعين، تتنوع وتتباين سبل الحصول على الإلهام بشكل عجيب، تذكر مويان خروجه بحثاً عن الوحي عدة مرات في منتصف الليل، بينما كان في بداية مشوار الكتابة:
"رفعتُ رأسي وتطلعت للقمر، ثم خفضتها وتطلعت للعشب، وأصغيت لماء النهر. توغلت في حقول الذرة الرفيعة، وأصخت إلى صوت نمو الذرة. استلقيت على الأرض وشعرت بما تثيره من قشعريرة، وتنشقت رائحة التراب. شعرت أنني اكتسبت الكثير، دون أن أعرف ما الذي اكتسبته".

 

:: مويان.. والبحث عن الإلهام ::
 

قبل ثلاثين عامًا، وعندما شرعتُ بالكتابة، كنت أخرج لمرات عديدة في الهزيع الأخير من الليل، بحثاً عن الإلهام، وعلى طول ضفة النهر، أسير مستقبلًا ضوء القمر، وأمضي قدماً، حتى تصيح الديكة معلنة بزوغ الفجر أعود للبيت.

كنت جباناً جدّاً عندما كنت صغيرًا، فلم أكن أجرؤ على الخروج بالليل، كما لم أكن أجرؤ على الخروج نهارًا بمفردي والتغلغل بالحقول. كان يمكن للأطفال الآخرين جز الكثير من الأعشاب والعودة بها للمنزل، بينما لم أعد بالسلة ممتلئة أبدًا.عرفت أمي أنني جبان، وسألتني عدة مرات قائلة: ما الذي تخافه؟ قلت إنني كذلك لا أعرف ما الذي أخافه، لكنني أخاف وحسب. عندما أسير بمفردي، دائماً ما يخالجني شعور بأن ثمة من يتعقبني من الخلف، وعندما أصل إلى حدود الحقول بمفردي، دائماً ما ينتابني شعور بأن شيئاً سيحدث على حين غرة بأي وقت. وحينما أمر بجانب شجرة كبيرة بالطريق، أخال أن ثمة شيء سيقفز منها بغتة، وعندما أمر على المقابر، دائماً ما يراودني إحساس بأن هناك شيئاً سيقفز من الداخل، ولما أرى دوامات النهر، يساورني شعور بأن الدوامات تخبئ بين جنباتها شيء غريب...

أخبرت أمي أنني لا أعرف حقاً الأشياء التي أخافها، لكنني أخاف وحسب. قالت أمي: كل شيء بالدنيا يخاف من الإنسان! فالوحوش والأفاعي السامة تخاف الإنسان، كما أن الشياطين والأشباح تخشاه أيضًا. لذا فليس ثمة ما يخشاه الإنسان. كنت أثق بأن كلام أمي صحيح، بينما لا يزال الخوف يتملكني. صرت جنديًا فيما بعد، وأثناء فترات الحراسة الليلية، كنت أحمل رشاشًا، يحمل مشط الذخيرة به ثلاثين طلقة، ولا يزال الخوف يهيمن علي. عندما أقف بنقطة الحراسة بمفردي، أشعر دائماً بلفحة برد وقشعريرة خلف عنقي، وكأن شخصاً ينفث الهواء برقبتي. فكنت أستدير فجأة دون أن أجد شيئاً خلفي.

نمت شجاعتي أخيرًا بسبب الأدب. وفي إحدى السنوات وبينما كنت أقضي إجازتي بالمنزل، نمت حتى منتصف الليل، ورأيت ضوء القمر يتسرب من شبكة النافذة. ارتديت ملابسي، وخرجت من المنزل بهدوء، سرت على طول الزقاق، وتسلقت لضفة النهر. كان القمر الساطع فوق رأسي، والقرية يغمرها السكون، ومياه النهر تتلألأ بضوئها الفضي، والصمت يلف المكان. خرجت من القرية، وتغلغلت بالحقول، سار النهر على يساري وعلى يميني امتدت رقع من حقول الذرة والذرة الرفيعة.

كان الجميع نيامًا، وكنت المستيقظ فحسب، شعرت فجأة بأن تلك ميزة عظيمة. انتابني شعور بأن هذه الحقول الرحيبة، والمحاصيل المورقة، بما في ذلك هذه السماء الشاسعة، والقمر اللامع، كلها أُعدت من أجلي. خالجني شعور بأنني عظيم جدًا. علمت أن سيري منفردًا بليلتي المقمرة هذه كان من أجل الأدب، أعلم أن الأديب يجب أن يكون شخصًا استثنائيًا، وأعلم كذلك أن الكثير من الكتاب قد فعلوا أشياء لا يجرؤ الأشخاص العاديون على فعلها، أو لا يرغبون في فعلها، شعرت أن نزهاتي الفردية في الليالي المقمرة قد باعدت بيني وبين الناس. وبالطبع كان ذلك في نظر الناس سخيف ومضحك.

رفعت رأسي وتطلعت للقمر، ثم خفضتها وتطلعت للعشب، وأصغيت لماء النهر. توغلت في حقول الذرة الرفيعة وأصخت إلى صوت نمو الذرة. استلقيت على الأرض وشعرت بما تثيره من قشعريرة، وتنشقت رائحة التراب. شعرت أنني اكتسبت الكثير، دون أن أعرف ما الذي اكتسبته.

واصلت الخروج عدة مرات في منتصف الليل، وكنت أعود عند بزوغ الفجر، كان والديّ وزوجتي على علم بذلك بالطبع، لكنهم لم يسألوا عن أي شيء مطلقًا، وفي واحدة من المرات، سمعت أمي تخبر زوجتي قائلة، لقد كان جباناً عندما كان صغيرًا، فلم يكن يجرؤ على الخروج مع انسدال الليل، بينما غدا الآن شجاعًا.

لقد أجبت في العديد من المرات عن ما هي وظيفة الأدب، دون أن أفكر مطلقًا فيما قالته أمي، والآن تذكرت كلامها فجأة، إذًا أقول على الفور: لو سألني أحد ما وظيفة الأدب، سأجيب قائلًا: الأدب هو ذلك الذي يجعلك تتمتع بالجرأة.

الجرأة الحقيقية في واقع الأمر لا تكمن في أن تقتل شخصًا دون طرفة عين، ولا في مواجهة الموت برباطة جأش، كما لا تتبدى في سرقة الخزانة العامة، بينما لا يتغير لونك أو يضطرب قلبك، بل هي روح تتمسك بالتفكير المستقل، وعدم اتباع الحشد والسير عكس الاتجاه، وعدم التأثر بالرأي العام، والجسارة على الكلام، وإنجاز المهام بوازع من ضمير.

وبطبيعة الحال لم أجد أي إلهام خلال تلك الليالي المقمرة، لكنني خبرت شعور البحث عن الإلهام وبالطبع، فإن كل ما شعرت به في تلك الليالي المقمرة صار ركيزة إلهامي لاحقاً

كانت المرة الأولى التي داهمني فيها الإلهام، في شتاء عام 1984، بينما كنت أكتب رواية "الصبي سارق الفجل". كنت لا أزال أدرس آنذاك بمعهد الفنون التابع لجيش التحرير الشعبي. في صباح أحد الأيام، وقبل أن ألبي نداء الاستيقاظ، رأيت حقلًا كبيرًا من الفجل، يتوسطه كوخ من القش. لاحت الشمس بلونها المحمر ترتفع في كبد السماء، والعالم يتألق. ومن المكان الذي أشرقت فيه الشمس، أقبلت امرأة مكتنزة البدن ترتدي ثيابًا حمراء اللون، وتحمل بيدها حربة، معلق بها فجلة لامعة تبدو شفافة...

هز هذا الحلم مشاعري. جلست وأخذت أكتب بسرعة، استغرق الأمر أسبوعًا فحسب لأكتب المسودة الأولى. وبطبيعة الحال، مثل هذا الحلم لم ينشأ من فراغ. فهو مرتبط بحياتي الماضية، ومرتبط كذلك بحياتي آنذاك. أيقظ هذا الحلم ذاكرتي، وتذكرت تجربة عملي كحداد مبتدئ في موقع بناء الجسر بينما كنت شابًا، تذكرت ما اعتمل بنفسي من حزن عميق جراء توبيخي أمام الجمهور؛ لأنني سرقت فجلة من فريق الإنتاج.

بعد أن انتهيت من كتابة رواية "الصبي سارق الفجل" بوقت وجيز، طالعت مقطعًا من رواية "أرض الثلوج" لياسوناري كواباتا، يقول فيه: "كان ثمة كلب أكيتا أسود اللون قويًا، يجلس على عتبة من الحجر بجوار بركة المياه، يلعق الماء الساخن طويلًا. "تجسدت على الفور أمام ناظري صورة نابضة بالحياة: اكتسى الشارع بالثلوج البيضاء، وقد أخذ بخار الماء الساخن يتصاعد من بركة المياه على جانب الطريق، والكلب الأسود الضخم يمد لسانه الأحمر ويلعق الماء الساخن "بتلمظ". لا يعد هذا المقطع مجرد صورة فحسب، بل هو لحن كذلك الأمر، وهو إيقاع وأسلوب، وزاوية سرد، بل هو بمثابة بداية رواية.

فكرت على الفور في قصتي عن بلدة شمال شرق قاومي، لذا كتبت: "بعد مرور عدة أجيال، سيصير من الصعب رؤية الكلب الأبيض الضخم، الذي يتسم بالوداعة، وأصالة السلالة بموطنه الأصلي بلدة شمال شرق قاومي". تعد هذه العبارة بداية لأشهر قصة قصيرة لدي والمسماة "الكلب الأبيض والأرجوحة". تؤكد الجمل القليلة ببداية القصة على النقاط الأساسية في القصة بأكملها، بينما تشبه الكتابة التالية تدفق المياه، وكأن كل شيء قد كتب من وقت بعيد، ولا أحتاج إلا إلى تسجيله. في الواقع، لم يكن لدى بلدة شمال شرق قاومي "كلب أبيض ضخم وديع"، بل هو نتاج الإلهام المستوحى من كلب ياسوناري كواباتا الأسود الضخم.

خلال ذلك الوقت، كنت غالباً ما أذهب لشراء الكتب من المكتبات. ثمة البعض منها كان مكتوبًا بشكل سيء، بيد أنني كنت أشتريه أيضًا. كانت فكرتي، أنه وبغض النظر عن مدى سوء الكتابة، يمكن دائمًا العثور على عبارة جيدة، ومن المرجح جدًا أن تصير هذه العبارة مبعثاً للإلهام، ومن ثم تنشأ على راحتيها رواية.

تلقيت الإلهام كذلك من أخبار الصحف، على سبيل المثال، ثمة بعض أحداث رواية "أغنيات الثوم" قد نسجت بناء على أحداث واقعية بمقاطعة شاندونغ؛ بينما كان الإلهام الأول لرواية "الجراد الأحمر" مستمدًا من خبر كاذب كتبه أحد الأصدقاء.

استلهمت الوحي كذلك من بعض الأحداث العرضية، على سبيل المثال، استلهمت فكرة رواية "الصدور الممتلئة والأرداف العريضة" من رؤيتي لامرأة ترضع توأمين بمحطة مترو الأنفاق، بينما استوحيت من رؤيتي لجدارية عوالم الوجود الستة بالمعبد بنية روايتي "تعب الحياة والموت".

تتنوع سبل الحصول على الإلهام من شخص لآخر، وذلك نظرًا لاختلاف البشر، علاوة على ذلك، فإنه يُلبّي ولا يُطلب. ويعد تصرفي بالاستيقاظ في منتصف الليل والتوجه للحقول بحثاً عن الإلهام، مثلما فعلت بالماضي حُمقاً، ولا يزال هذا الأمر موضع ضحك في مسقط رأسي حتى اليوم. يقال إن شابًا قد اقتدى بي، وسار على نهجي في التصميم على الكتابة واستلهام الوحي، قد استيقظ في منتصف الليل وذهب بحثاً عن الوحي، كاد الحارس الليلي أن يلقي القبض عليه باعتباره لصًا، ويعد هذا الحدث بحد ذاته نواة لقصة.

الإلهام موجود، لكن بغض النظر عن سبل الحصول عليه؛ فإنه بحاجة إلى الكثير من العمل، والكثير من المواد ليصير في نهاية الأمر عملًا محكمًا.

لا يبرز الإلهام في مرحلة تصور العمل فحسب، بل يتبدى كذلك خلال مسيرة الكتابة، بينما يكون هذا الإلهام المواكب لمسيرة الكتابة هو الأكثر أهمية. جملة جميلة، حوار نابض بالحيوية، تفصيلة ذات مغزى، لا تكون جميعها دون تألق الإلهام.

العمل الجيد دائمًا هو عمل يكتنفه الإلهام، بينما العمل المتواضع دائماً ما يعوزه. يجب علينا أن نخوض غمار الحياة ونتعمق بها بينما نصلي طلبًا للإلهام. ونأمل أن يأتينا مرارًا وتكرارًا، ويكون ذلك بقراءة الكثير والكثير من الكتب والصحف. نتمنى ألا ينقطع، ويكون ذلك على ذات نهج الوقاية من السمنة، فيجسد ذلك مقولة: "ابق فمك مغلقًا، وقدميك متباعدتين"، وانطلاقًا من هذا المعنى، يعد الركض بالحقول في منتصف الليل عملًا جيدًا كذلك الأمر.


ترجمة عن الصينية (نقلًا عن مجلة الفن والأدب، بتاريخ 17 يونيو من عام 2015.)
https://mp.weixin.qq.com/s/rf65bCSUxJp-r0vRtQ7YOQ

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها