اللغة العربية.. تحديات الواقع وآفاق المستقبل

د. خالد صلاح حنفي محمود


إ­ن لغة كل أمة تمثل روح ثقافتها، وعنوان حضارتها. والاعتناء بها يشكل صمام أمان لوحدة الأمة، غير أن مجالات الاعتناء بها، وأشكال المحافظة عليها تتفاوت بتفاوت قضاياها ومسائلها التي تستجد بفعل المتغيرات الحضارية والتفاعلات الحاصلة في عالم اليوم، بفعل الثورات المتعددة الأوجه والأبعاد، مثل الثورة التكنولوجية والرقمية والعلمية والبيولوجية.. مما يطرح التساؤل عن التغيرات التي تحدث في اللغة العربية من تداخل وتعدد لغوي، وكذلك موضوعات على شاكلة الأمن اللغوي والتخطيط اللغوي، وتحديات من قبيل العولمة اللغوية كهيمنة اللغة الإنجليزية كلغة تعلم واستعمال وبحث وإنتاج، وتأثيرها على اللغة الأم الرسمية والمرجعية كلغة تواصل وتداول وإنتاج وتأثير وتفكير.


وقد أوضحت التقارير والدراسات العالمية ضعف وتدني استخدام اللغة العربية على شبكة الانترنت قياساً على باقي اللغات، فوفقاً لتقرير الإحصائيات العالمية للانترنت Internet World Stats لعام (2017)، فقد بلغت نسبة مستخدمي العربية حوالي 4.7% من المجموع العالمي لمستخدمي الانترنت في العالم، وكشفت دراسة لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا "الإسكوا" (2012) بعنوان "صناعة المحتوى الرقمي العربي على الإنترنت" أن المحتوى العربي على الشبكة لا يتعدى نسبة الثلاثة بالمائة من إجمالي المحتوى العالمي؛ وهذه النسبة الضعيفة تمثل تناقضاً صارخاً مع إسهامات وإنجازات الحضارة العربية عبر التاريخ؛ ولذلك دعت الأمم المتحدة لإطلاق دعوة بضرورة أخذ مبادرة إنشاء بوابة المحتوى العربي الرقمي؛ لتعزيز استخدام التكنولوجيا الرقمية في مجالات الثقافة والأدب والتاريخ والاجتماع.

وهذا ما أكدته موسوعةموضوع  العربية الإلكترونية (2014) عن تدهور حال المحتوى العربي على الإنترنت، وأن عدد صفحات المحتوى العربي على الإنترنت ما يقارب 660 مليون صفحة فقط منذ إنشاء شبكة الإنترنت؛ أي ما يعادل نسبة 0.89% من شبكة الإنترنت، والتي يبلغ متوسط مجموعها ما يقارب 74.5 مليار صفحة. ولا يزال استخدام هذه اللغة ووجودها في العالم الافتراضي ضعيفاً وضئيلاًً بالمقارنة بالوزن الذي تستحقه من حيث وزنها السكاني، وقدراتها التواصلية، وقيمتها الثقافية والجمالية.

 

اللغة العربية .. الماضي والحاضر

يعترف اللسانيون العالميون بأن اللغة العربية كانت لغة عالمية بامتياز، يقول نيقولاس أوستر (2011) "لقد كانت الدنيا مليئة بالعربية". وهذا كان ماضي اللغة العربية يوم كانت لغة علم وإنتاج ومعرفة وتواصل، استطاعت التفوق على اللغة اللاتينية كما تطلعنا حركة التاريخ.

وتعد اللغة العربية أقدم اللغات المعروفة، وعلى الرغم من قدمها إلا أنّها لا تزال تتمتع بخصائص تميزها عن اللغات الأخرى، مثل: الألفاظ، والتراكيب، والصرف، والنحو، والأدب، والخيال، كما تمتلك اللغة العربية القدرة على التعبير عن مجالات العلم المختلفة، وتُعدّ اللغة العربية أم لمجموعة اللغة المعروفة باللغات الأعرابية، وهي التي نشأت في شبه الجزيرة العربية، أو العربيات المتمثلة بالبابلية، والحميرية، والآرامية، والحبشية، والعبرية.

وقد مرت اللغة العربية بمراحل من الضعف والوهن نتيجة لما أصاب العالم العربي من احتلال واستعمار أجنبي، حاول فرض لغته وإزالة كل ما له علاقة بالهوية العربية، وقد نجح الاستعمار في تحقيق بعض مخططاته، لكن بقت اللغة العربية رغم ذلك تشهد محاولات للنهوض والتجديد، كما حدث على أيدي الشيخ حسين المرصفي وتلامذته، وشعراء مجيدين كشعراء مدرسة الإحياء والبعث أمثال محمود سامي البارودي، وأحمد شوقي، وحافظ إبراهيم وغيرهم من الأدباء والعلماء.

وترى موسوعة إنكارتا وويكبيديا، والموسوعة الملكية السويدية أن اللغة العربية هي أكثر اللغات تحدثاً ونطقاً من مجموعة اللغات السامية، ومن أكثر اللغات انتشاراً في العالم، حيث يستخدمها أكثر من 467 مليون نسمة، ويتوزع الناطقون بها في بلدان العالم العربي، والمناطق الأخرى المجاورة كالأحواز وتركيا، وتشاد، ومالي، والسنغا،ل وإرتيريا، وإثيوبيا، وجنوب السودان، وإيران.

لكن اللغة العربية في عصرنا الحاضر تشهد تحديات غير مسبوقة، كنتيجة مباشرة لحالة التردي والوهن الحضاري، والتفكك والتشرذم في العالم العربي، إضافة إلى المتغيرات الحضارية التي تشهدها.

إن قراءة أحوال اللغة العربية يكشف عن العديد من الإشكاليات التي تواجهها وتهدد وجودها كلغة، وتتمثل في:
1. التراجع في استخدام اللغة العربية بين الناطقين بها، مما يهدد كفاءة قيامها بعدد من وظائفها كلغة.
2. التناقص في عدد مستعمليها لحساب استعمال لغات أخرى بفعل الأوضاع الحضارية المتردية في كثير من الدول العربية.
3. التراجع في استخدامها على منصات الانترنت، ومواقع التواصل الاجتماعي، حيث إن المحتوى الرقمي العربي ضعيف جداً قياسًا على باقي اللغات.
4. الغياب شبه التام عن استخدامها في المجالات العلمية والمعرفية الحديثة، بل إن تدريس العلوم في الجامعات العربية غالباً باللغة الأجنبية.
 

تميز اللغة العربية وتفردها

ليس معنى هذه التهديدات التي تواجهها اللغة العربية أن اللغة العربية إلى اندثار كما يقول البعض؛ لأن اللغة العربية تحمل في طياتها عوامل القوة والبقاء، بما يساعدها على المزيد من الانتشار والتوسع.

وتتلخص عوامل تميز اللغة العربية في:
1. ارتباطها بدين عالمي فهي لغة القرآن الكريم، وهي لغة الإسلام، والذي يتزايد أعداد أتباعه يومًا بعد يوم، وإيمان جزء من الناطقين بها بقيمة ومكانة اللغة العربية.
2. انفتاحها المعجمي، وثراؤها وقابليتها للتوسع والتمدد والانتشار.
3. السمة الاشتقاقية للغة العربية، وخضوعها لنظام الاشتقاق الوزني.
4. كفاءة نظامها الخطي أو التمثيلي؛ فاللغة العربية تلتزم بتمثيل الوحدة الصوتية الواحدة بحرف مفرد بشكل يفوق أنظمة الكتابة في اللغات الأخرى.
5. تفوقها عبر التاريخ في استيعاب علوم اليونان والرومان والفرس وغيرها من الحضارات.

لذلك؛ لم يكن مستغرباً أن يرى علماء اللغة مثل سكوت مونتجمري أن اللغة العربية تأتي ضمن الخمس لغات الأكثر انتشاراً في العالم.

وتشهد اللغة العربية على المستوى العالمى اهتمامًا وإقبالاً على تعلمها، ويلاحظ تزايد الاهتمام باللغة العربية في العشرية الأخيرة، فبعد أحداث 11 سبتمبر الدامية تزايدت الرغبة في مساءلة العقل العربي، وفي فهم الخلفية الثقافة للعرب، وفي هذا الإطار زادت مراكز الاستشراق والدراسات، وعقدت العديد من الاتفاقيات بين العرب والغرب للتعاون في المجالين الثقافي واللغوى، ولا تكاد تخلو أي جامعة أمريكية اليوم من قسم لتعليم اللغة العربية، وكذلك الأمر نفسه في الجامعات الأوروبية مما يشير إلى تزايد الاهتمام باللغة العربية في عصرنا الراهن.

وقد قامت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو) بالاحتفال خلال السنوات الأخيرة باليوم العالمي للغة العربية، يُحتفل فيه باللغة العربية في 18 كانون الأول / ديسمبر من كل سنة، وتقرر الاحتفال باللغة العربية في هذا التاريخ؛ لكونه اليوم الذي أصدرت فيه الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارها رقم 3190 في ديسمبر عام 1973، والذي تقرر بموجبه إدخال اللغة العربية ضمن اللغات الرسمية ولغات العمل في الأمم المتحدة.

وفي السياق نفسه جعلت المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم الأول من مارس كل عام للاحتفال باللغة العربية. وفي ذلك إشارة إلى أهمية الخصوصية اللغوية للأمم، وتقديراً لقيمة التنوع اللغوي على مستوى العالم، ففي عالم معولم دقت فيه المسافة بين الجماعات البشرية، وتعددت فيه وسائل التبادل الثقافي وأشكاله، أصبح من المهم تفعيل دور اللغة في أي مجتمع لتسهم في التعبير عن مشاغل الناس، وفي تقديم منتجاتهم وإبداعاتهم للآخر، فاللغة باعتبارها نظامًا لسانياً يتكون من مجموعة من الوحدات اللغوية الدالة التي تؤمن التواصل بين جمهور المتكلمين، هي أداة ضرورية في مجال التواصل الثقافي، كما أن اللغة هي تعبير عن كيان الأمم الثقافي ومنجزاتها الحضارية.

إن اللغة أي لغة تمثل كائناً حياً متطوراً يحتاج إلى توجيه في نموه وتطوره ليوافق السياق الذي ينسجم مع أهله، ومن هنا لا بد من العمل الدؤوب للحفاظ على اللغة العربية، وتكاتف الجهود فالأمن اللغوي لا يتجزأ عن منظومة الأمن بصفة عامة، لذلك فالحاجة ماسة إلى إيجاد الرؤية المستقبلية، والتخطيط المنظم، والتنسيق بين الهيئات والمؤسسات العربية.

فلا بد من أن تقوم الحكومات العربية بدورها في صياغة التشريعات والقوانين التي تكفل الحفاظ على اللغة العربية وتسايرها، كما أنه لا بد أن تعمل وزارات التربية والتعليم العربية على تطوير مناهج تعليم اللغة العربية وتطويرها بما يساير روح العصر، ويكسب الطالب مهارات ممارسة اللغة تطبيقاً وفي حياته اليومية، وتطوير طرائق التدريس المستخدمة لتصير اللغة أكثر تفاعلية وقربًا من حياة الطالب ومجتمعه.

ولا بد من تطوير برامج إعداد معلمي اللغة العربية، وأن يكون هناك اختبارات لمهارات الطلبة المتقدمين للالتحاق ببرامج إعداد معلمي اللغة العربية بكليات التربية، وما يناظرها حتى نضمن توافر مهارات اللغة بالأساس بمن سيقوم بتعليم اللغة العربية فيما بعد.

ويأتي دور مجامع اللغة للتعامل مع المستحدثات والمتغيرات من جهة، وتطوير المعاجم اللغوية العربية، والتوجه نحو حوسبة اللغة العربية، وإتاحة التطبيقات والبرامج التي تساعد على تعلم اللغة العربية، ونشرها بين الناشئة والشباب.

وتأتي فكرة استحداث اختبارات عالمية في اللغة العربية تناظر التوفل والايلتس موجهة للناطقين وغير الناطقين باللغة العربية، ضمن المشروعات الواعدة التي تعبر عن احتياج عالمي لضمان مستوى كفاءة دارسي ومتعلمي اللغة العربية.

ويأتي دور الأفراد في الاعتزاز باللغة العربية؛ لأنها جزء من هويتنا وذاتيتنا، وعليهم الحرص على تعلمها، ونطقها وممارستها على النحو الصحيح.

إن اللغة ليست مجرد أداة للفكر، بل هي باعثة للفكر والثقافة، يرتقيان بارتقائها، وينحدران بانحدارها، وليست اللغة مجرد صورة ونتاج بل هي أساس وأصل. وتفرض التحديات الثقافية التي تواجه اللغة العربية اليوم علينا أن نتعامل معها جميعًا، ليس مهمة الأفراد أو الحكومات فقط، بل هو مشروع لا بد أن يشارك فيه مجامع اللغة العربية ومجالسها والجمعيات الثقافية، وكل الغيورين على اللغة العربية؛ لأن حياة اللغة أهم من حياة أهلها.


المراجع
1. إسماعيل بوزيدي (2019). المواطنة اللسانية، المجلة العربية، ع (509)، ص: 14-15.
2. خالد فهمي (2019). من التهديد إلى التعزيز، المجلة العربية، عدد (509)، ص: 8-9.
3. خليل عثمان (2019). أخطار ثقافية، المجلة العربية، عدد (509)، ص: 11 -13.
4. محمد الأسعد (2019). أين نشأت لغتنا العربية وشقيقاتها؟ مجلة العربى، العدد (716)، ص: 96-98.
5. نيقولاس أوستر، ومحمد توفيق البجيرمي (2011). إمبراطورية الكلمات: تاريخ اللغات في العالم، بيروت: دار الكتاب العربي، ص: 146.

 

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها