الساعة الجديدة

محمد عباس علي داود

◗1◖

والدُ هشام
 

ينتصف الليل عادة.. فأُعاني من إبْرة الوقت التي تصر على ثقب قلبي وأحداقي، كلما اتجهت بناظري للساعة على الجدار أشعر بألمها، أعود للهاتف أتصل بهشام، ولا رد، فأزداد قلقاً!
النوم في تلك الحالة محال، واليقظة عذاب، والخواطر السوداء خفافيش تضرب جدران الروح بقسوة. لا جدوى من التشاغل بأي شيء، الخروج للشرفة وترقب خطواته على الطريق يزيد من اشتعال نبضاتي، محاولة التشاغل بالقراءة في أحد الكتب أو الروايات المشوقة غير مجدٍ فالحروف تتداخل، تتصارع، تتلاشى، ولا أرى إلا صورته تملأ الصفحات أمامي.
ولا أعرف هل يزداد غضبي منه بمرور الوقت أم خوفي عليه، فهو قد تعود أن يغلق هاتفه فلا أستطيع الوصول إليه، ويأتي بعد أن أصل لدرجة الانهيار وتنغلق عيني رغماً عني، ولا أفيق إلا في الصباح، أهرول لغرفته فأراه نائماً وعلى محياه ابتسامة ملائكية كأنه لم يتسبب في قلقي طوال الليل، أفحص هاتفه، يحتاج للشحن كالعادة، أضعه في الشاحن وأنسحب لغرفتي في هدوء.

...

هذه الليلة قررت حسم الأمر، لن أظل العمر أسيراً للقلق، سوف أواجهه بالرفض لتصرفاته، لن يتأخر بعد اليوم، سوف أصر على هذا، إذا كان مدمناً للسهر ففي البيت متسع، ومع اللاّبْ توب يستطيع محادثة أصدقائه كما يشاء.
استرحت لهذا القرار.. مما شجعني على فتح رواية تأخرت في قراءتها كثيراً، تسمى الزمن الجديد، ظلت طريحة سطح المكتب طويلاً، السهر معها سيكون ممتعاً، تحكي عن أحد العلماء الذي خرج على البشرية بزمن جديد، تشدني مثل هذه الروايات التي تغرق في الخيال، الوقت ما يزال مبكراً مما سيمنحني وقتاً طويلاً معها، انتبهت لصوت باب الشقة يفتح، تركت الرواية متجهاً للساعة على الجدار، ليس من عادته الرجوع مبكراً، هل تعارك مع أحد، شعر بالمرض فرجع، أم أصابته لوثة، أو ربما فقد الإحساس بالزمن. قمت إليه، بسمته سراج ليله، بادرني بالقول:
- مارأيك في الزمن الجديد؟
ازدادت دهشتي اتساعاً، ماله ورواية الزمن الجديد، وكيف عرف أنني بدأت قراءتها؟
قلت محاولاً مسايرته: بدأت قراءتها الليلة.
فاضت ابتسامته على الجدران حولنا، سألني:
- هل طالعت التليفزيون؟
- لا
- تابعت الأخبار عبر الهاتف؟
- لا
أشار إلى الساعة ذات الألق المتوجة على هامة الجدار قائلاً:
- لقد تم إلغاء هذه الساعات
قلت وأنا أحدق في وجهه باحثاً عن مدى جديته
- إنها تعمل بدقة متناهية فلماذا نلغيها؟
زاد حيرتي أكثر وهو يقول:
- كل ساعات الكون سيتم الاستغناء عنها
ارتفع صوتي رغماً عني:
- لا أفهم
قال وهو يغادرني إلى حجرته:
لو طالعت الأخبار الليلة لعرفت
انتبهت لنفسي عبر المرآة المقابلة لي.. مفتوح الفم متسع العينين مصلوب على جدار حيرتي، أسأل نفسي لماذا لم أحدثه عن الموضوع الذي سهرت من أجله وهو سهره خارج البيت، ولماذا لم يقف ليشرح لي كلامه الذي لم أفقه منه شيئاً، وهل هو حقاً حدثني عن تغيير الزمن أم أن هذه أوهام صنعتها قراءتي للرواية؟

...

عاد إلي بعد أن غير ملابسه قائلاً: إنه يعرفني جيداً لن أهدأ وأستريح إلا بعد أن أعرف كل شيء، أحضر طعام العشاء، وسألني أن أشاركه فيه، قلت مستعجلاً الشرح:
- سبقتك
قال وهو يأكل هادئاً وبصوت محايد تماماً:
- الأمم المتحدة وجدت أن الدقائق والثواني لم تعد ذات قيمة في حياة البشر نظراً لتسارع الزمن، وقد تمت مناقشة الأمر بين دول العالم وبخاصة المتقدمة منها، وقد صدر اليوم قرار بإلغاء هذه المسميات (الدقائق والثواني) من الساعات، وإحلال الأيام والأسابيع محلها.
انتفضت واقفاً رغم متاعب الفقرات رافضاً تصديق ما يقول، أكمل طعامه بذات الهدوء مقترحاً أن أفتح التليفزيون وسوف أرى.

 

◗2◖

هشام
 

انتشرت الساعات الجديدة وأقبل الناس على شرائها.

في البداية كانت غالية الثمن فلم أستطع الحصول على إحداها، لكن بمرور الوقت انتشرت الساعات التقليدية القادمة من الصين بأسعار بسيطة فاشتريت إحداها، كانت الساعة مقسمة على شهر، والشهر مقسم على أربعة أقسام بعدد الأسابيع، والأسبوع مقسم على سبعة أقسام بعدد الأيام، وبها منبه يوقظك في اليوم الذي تحدده، ومنبه آخر ينبهك لأول الشهر يوم قبض الراتب، ومنبه تحذيري يصرخ فيك كي تحذر من تبخر المرتب في منتصف الشهر.

الجميل في الساعات الجديدة؛ أنها كان بها قرون استشعار تشعر باقتراب الزوجات ومراقبتهن لك، وتحذرك من أعينهن، وبها برنامج للمراوغة الزوجية واصطناع البراءة؛ لكي تمر أيامك على خير.

أعجبتني الفكرة كثيراً، لكن كان ينقصني شيء واحد لكي أحقق الاستفادة القصوى من الساعة وهو الزواج، لا بد أن يكون لي زوجة لكي تتحقق الفائدة.

عرضت على والدي رغبتي بالزواج فرحب بالفكرة، مشترطاً أن تكون العروس كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: {تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك}.    

بحثت عن ابنة الحلال حتى عثرت عليها، تقدمت لها ووافق والدها، واتفقنا على كل شيء، لكنني في يوم الزفاف، ونحن على أبواب عهد جديد وجدت العروس تطلب من المأذون، الذي كان يستعد لكتابة عقد القران أن يضع شرطاً في العقد، سألتها ما هو؟

قالت بصوت سمعه الجميع: لا تدخل الساعة الجديدة بيتنا.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها