الميثومانيا.. السلوك الطفلي من النقص إلى التعويض

أمل بكري حلبي


إذا كان الكذب أمراً شائعاً بين بعض الكبار والصغار، وقد حرف سلوكهم بطريقة أو بأخرى، وبدرجات متفاوتة زيادة ونقصاناً، فالسؤال الذي يفرض نفسه هنا هو ما الذي دفعهم للكذب؟ هل كان الكذب بالنسبة لهم طوق نجاة، أم أنهم لجؤوا إليه لتحقيق مآرب ومصالح شخصية، أو مكاسب مادية، فيصبح نهجاً أو سلوكاً مبرراً لتحقيق غايات كان لها سطوتها عليهم؛ وحين يكون الابتعاد عن قول حقائق الأمور لأهداف نبيلة، تختلف مسوغاتها عن تلك التي تهدف إلى تحقيق مصالح مادية، أو لتجميل الذات بأشياء مختلقة وغير حقيقية، عندئذٍ يأخذ الكذب طابعاً مرضياً ربما تبلغ درجة الخطورة فيه إلى الانحراف.
 


الميثومانيا
Mythomania:
وهي عبارة عن علة نفسية مزمنة، تقوم بتحفيز صاحبها على اختلاق القصص أو الأحداث التي تدور حوله في الغالب، والتي قد يبالغ فيها لإشباع رغبات نفسية بحتة، وقد يكون على علم أنه يكذب وقد يعتقد أن ما يقوله هو الحقيقة ذاتها، ولتفسير نفسية المهووس بالكذب، يقول المتخصص في علم النفس الدكتور كلود بيلان: "الميثوماني شخص لا يريد أن يخِّيب آمال المحيطين به، فيدفعه ذلك للمبالغة فيما يقول."


الكذب والتربية

يظل الكذب في عملية التربية حدثاً ذا مغزى علينا معرفة أسبابه ودوافعه. ولذلك لا بد من العودة إلى سن الطفولة لمعرفة أسباب الكذب عند الطفل وكيفية نشوئه، فهو يتطور في عمر الطفولة من سن لآخر، فحين يكتشف الطفل أن هناك خياراً جديداً في الحياة، وهو أنه يستطيع ألا يقول كل شيء، وأن عالمه الداخلي الخيالي يبقى له وملكه الشخصي، يسعى إلى اللجوء إليه على نحوٍ يتماثل مع حاجاته الداخلية له؛ وبما أنه لا يملك القدرة الذهنية لتمييز الحقيقي منه من الخيالي، يخترع ويؤلف القصص أمام الآخرين، وعندما يكبر ويبدأ بالتمييز بوضوح بين الصواب والخطأ في محيطه، يتعلم أن قول الحقيقة شيء مرغوب فيه دينياً وأخلاقياً واجتماعياً، لكنه من ناحية أخرى يرى أن الكذب قد يساعده في الدفاع عن نفسه في ظروف معينة، يشعر فيها بأزمة تدفعه الرغبة إلى تجاوزها والتخلص من آثارها، إلى اختلاق عالم وابتداع صور من المراوغة والكذب، يحقق فيه ما يرجو بلوغه.

صور الكذب عند الأطفال

تختلف صور الكذب الطفولي تبعاً لاختلاف المحيط الأسري والاجتماعي الذي ينشأ فيه الأطفال ويتربون فيه؛ إضافة إلى اختلاف طبائعهم وصفاتهم الوراثية منها والمكتسبة، ويمكن جراء هذا التباين ذكر عدة أنواع من صور الكذب عند الأطفال من أهمها:

•  محاكاة القدوة.. كذب التقليد: يقوم الطفل من خلاله بتقليد سلوك الوالدين أو المحيطين به، فاستخدام الكبار للكذب في حياتهم يجعل الطفل يكتسب هذه الصفة منهم؛ لأن الطفل بطبعه يتخذ من الكبار -وخصوصاً الوالدين- قدوة له فيسعى للتشبه بهم.

•  الكذب الدفاعي: الذي يسلكه الطفل حين ينشأ في وسطه الأسري فروقاً في المعاملة بينه وبين الآخرين من أفراد عائلته، أو بسبب قسوة الأبوين في معاملته، فيندفع لإلصاق التهم لغيره من أخوته تفادياً للعقاب الذي يمكن أن يتعرض له.

•  الكذب الانتقامي: ويمارسه الطفل لتأكيد قدراته على الإيقاع بالآخرين، نتيجة ما يتملكه من مشاعر الغيرة والإحساس بالظلم.

•  الكذب الادعائي: ويجهر الطفل مدّعياً من خلاله الحرمان والاضطهاد من الآخرين استدراراً للاهتمام به، وللحصول على مزيد من العطف والرعاية من محيطه الذي يعيش فيه، والذي يتواجد فيه سواء الأسري أو غير الأسري.

•  الكذب الوهمي: وهو ناجم عن سعة الخيال عند الطفل الذي يندفع عبر فضائه نحو عالم من الأوهام، لتحقيق رغبات كبرى مشتهاة غير واقعية يتخيل بلوغها، ويتحدث عنها كما لو تحققت له بالفعل.

•  الكذب التجميلي: ويلجأ الطفل إليه حين يصيبه النكوص والخذلان والشعور بالنقص وسط أهله وزملائه، فيعمد إلى الإفصاح عما يشعره بتضخيم ذاته ويعظّم مكانته، وذلك عند شعوره بأن الصورة المكونة عند الآخرين غير مرضية له.

•  الكذب اللاشعوري: الذي يمارسه الطفل بشكل تلقائي وتكمن الخطورة فيه باستمراريته عند الكبر، ويتحول إلى كذب مقصود يصبح عادة مصاحبة سلوكه، ويصبح جزءاً من شخصيته حتى وإن بلغ سن الرشد.
 

ديمومة الابتعاد عن الحقيقة والالتفاف عليها

خطورة الكذب

قبل بيان خطورة الكذب عند الأطفال، علينا أن لا نغفل إلى حقيقة مفادها أن الصفات التي تتسم بها الشخصية الطفلية، وتتحول إلى طباع متأصلة فيها، بعضها وراثي لا دخل للطفل باختيارها، وبعضها الآخر مكتسب من محيطه الأسري، والمدرسي، والاجتماعي، ومن خلال ذلك علينا الاعتراف بأن الطفل الذي يبدأ بممارسة الكذب، وأخذ الحوادث من صورتها الواقعية والحقيقية فهو ضحية دوافع متعددة، لا يكون هو السبب في مثولها فيه أو تخلّقها في شخصيته التي تتركب بنيتها السيكولوجية على محاكاة مكونات محيطه، فينشأ الكذب عنده من خلال هذا الفحوى، عبر عوامل تكوينية وبيئية تتوافق مع موسوعته الخيالية المنسجمة مع تكوينه النفسي، ومع صورة الواقع الذي ولد ونشأ وتربى فيه، والذي لا ذنب له إن كان وسطه قائماً على كذب الكبار أو قائماً على المثبطات المختلفة في ردودهم على أفعاله، فيكون تعاملهم معه مبنياً على التهديد والوعيد بالعقوبة التي تخيفه، أو بنعته من قبلهم بصفات تقلل من شأنه، كل ذلك سيكون من شأنه أن يدفع به إلى النكوص الذي سيأخذه إلى الكذب، للتعويض عما أصابه ولحق به من محيطه الأسري والاجتماعي، فيبدأ بأكاذيب صغيرة ومن ثم تتطور فتصبح مليئة بالدراما والتفاصيل فتغدو كبيرة، وسيبلغ به الكذب من خلالها مرحلة الخطورة حين يمضي إلى صورته السيئة، فيصبح مشكلة بعد أن يتحول هذا الكذب عنده إلى عادة تبعده عن قول الحقيقة حتى في مسائل وقضايا بسيطة، ويبتعد عن قول الصدق مهما كان الأمر تافهاً أو بسيطاً، ولا يشعر جراء ما اقترف بأي تأنيب للضمير بعد ممارسة الكذب الذي بات يتقنه ويتففن في ممارسته، بحيث لا يظهر عليه أي توتر أو أي علامات ارتباك.
 

الخروج بالشخصية الطفلية إلى الاستقامة

علاج الكذب..

من الأهمية علاج الكذب عند الطفل في وقت مبكر، وذلك قبل أن يبلغ فيه درجة التعود والهوس الذي أطلق عليه علماء النفس الميثومانيا. وتأتي تهيئة البيئة الصالحة في مقدمة الخطة العلاجية، التي يجد الطفل في كنفها القدوة الحسنة المتمثلة بأبوين صالحين، يتحسس في سلوكهما فضائل الصدق بصورة عملية، ولا يجد في تعاملهما معه ومع إخوته فرقاً يثير غيرته بعد شعوره بالعدل والمساواة معهم، إضافة إلى ذلك يجب الابتعاد في هذه البيئة الصالحة عن تكليفه بأعمال تفوق قدراته؛ كي لا يلجأ إلى الكذب لعدم استطاعته القيام بها، ولا بد إزاء ذلك من ترك مساحة له من الحرية وعدم استخدام العنف والعقاب الجسدي واللفظي، تشجيعاً له على قول الصدق والحقيقة، دون خوف قد يدفع به لممارسة الكذب طلباً للنجاة، وفي سياق ذلك يكون عطف الأبوين وحنانهما عليه مهماً وأكثر نفعاً وجدوى، حتى وإن لاحظا في سلوكه شيئاً من المراوغة والكذب، فليس من الصواب أن يتم زجره من قبلهما أو نعته بالكذاب، حتى لا يشعر بالتصاق هذه الصفة بشخصيته، فيعمد إلى ممارستها ليبلغ مراده دون إحساس بالذنب؛ وإذا كانت السخرية مضرة بشخصية الطفل وتجعله يفقد الثقة بنفسه، فإن استحسان كذبه من الآخرين بالضحك الذي يوحي بسرورهم منه يلحق به أشد الضرر ويشجعه على الاستمرار بالكذب، وكي تتجاوز خطة العلاج ما يواجهها من عقبات ومآزق لا بد من أجل تحقيق أهدافها من التعاون بين أسرة الطفل ومدرسته ليساهما معاً في زرع الصدق والأمانة في نفسه، وتقوية الجانب الديني والأخلاقي في سلوكه.

ولا بأس في هذا المنحى من اغتنام بعض الفرص في مواقفه التي يتحرر فيها من المراوغة للثناء عليه وتشجيعه، ليتجاوز ما قد يشعر به من نقص بتلبية حاجاته الجسدية والنفسية، التي قد تدفعه من أجل الحصول عليها إلى الكذب الذي من الواجب أن تتحمل المؤسسة التربوية مسؤوليتها في تحريره منه، والتي تبدأ من البيت والأسرة، وتشمل المدرسة وكافة الجهات المشرفة على منابر الثقافة ووسائلها الإعلامية، ومن ضمنها وسائل التواصل المتعددة التي بإمكانها بيان مضار الكذب ومآزقه بالصوت والصورة، عبر قصص وأعمال درامية مصورة، تبتعد عن الوعظ المباشر، وتقوم على الإثارة والتشويق التي تجعل الطفل ينحاز من خلالها إلى مَنْ يتمثل الصدق وقول الحقيقة، ويتخذ منه قدوة حسنة مضافة إلى القدوة الحسنة الأولى المتمثلة بالوالدين، فيفعل كل منها أثره في شخصيته تاركة قيم صدقها تتجسد بسلوكه، فيتعاظم بداخله صوت الحقيقة، وسبل الأمانة والاستقامة.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها