من فنّ الرسم إلى نحتِ الأدب

عصمت داوستاشي.. والتلبس بروح الفنانين

حاوره: محمد رفاعي⁩


عصمت داوستاشي فنان ورسام، ونحات وحفّار، ومصور فوتوغرافي، وقاص وكاتب وناقد، وباحث تشكيلي وسينمائي، وناشط ثقافي وصاحب تجربة إبداعية فريدة ومتميزة. تجربته مثيرة للدهشة والتأمل، فهو تجريبي مغامر ولاعب بالخامات، ومتمرد على الثوابت، ويتعامل مع سطوح متعددة المستويات، في نفس الوقت تجربته ترتبط كثيراً بالأصول الشعبية والإسلامية مستمداً منهما الزخارف وسطوح الألوان، كما تميزت تجربته بالاهتمام بالأسطورة في التراث المصري والعربي. وكما –أيضاً- تفجرت أعماله بروح الصوفية والشعر.


قدم قرابة مائة معرض في مصر والبلاد العربية ودول العالم، من أهم معارضه: الكف 1974، الأشياء القديمة 1978، ورق على ورق 1987، وتريات إسلامية 1987، الكاميرا بعين فنان تشكيلي، وصندوق الدنيا 1988، وخيالات فنجان القهوة عام 1996، ووجوه العولمة الحزينة عام 2004، كماعرض معرض "لوحات العاشقين" في فرنسا في مايو 2008، ومعرض "وجوه سكندرية" بقبرص في سبتمبر 2009. كما عرض أول معارضه عام 1962 قبل التحاقه بكلية الفنون الجميلة، ومعرضه الثاني جاء قبل تخرجه من كلية الفنون الجميلة بالإسكندرية بشهور. عصمت داوستاشي باحث وناقد تشكيلي ألف ونشر العديد من المقالات والكتب التي سدت فراغاً في المكتبة التشكيلية منها: مجلد محمود سعيد 1999، وتاريخ بينالي الإسكندرية، وتاريخ أتيليه الإسكندرية، عفت ناجى، عالم المتاحف، وذاكرة الفنون التشكيلية في مائة عام، وموسوعة الفنون التشكيلية في ألف عام وعالم داوستاشي.
 

كما ألف كتباً تجمع بين الشعر والقصة والمسرح والسيناريو، وأخرج العديد من الأفلام السينمائية التسجيلية عن الفن والفنانين التشكيليين آخرها "ريشة والقلم".

داوستاشي من الناشطين ثقافياً، يتجلى ذلك حين عمل مديراً لمتحف الفنون الجميلة والمركز الثقافي بالإسكندرية من 1993 ــ 1990، ونظم الدورة الثامنة عشرة من بينالي الإسكندرية، كما نظم اليوبيل الذهبي لبينالي الإسكندرية، ورئيس مجلس إدارة مركز الإبداع الفني في الإسكندرية.
ورغم دوره الثقافي والفني في الحركة الثقافية المصرية؛ فإنه يشعر بالغبن والظلم، فلم يحصل على التكريم المستحق له منذ سنوات طويلة، ومع ذلك يواصل دوره وإبداعه.

مجلة "الرافد الرقمي" زارته في مرسمه في الإسكندرية شمال مصر، وحاورته حول مسيرته الفنية، وعن الشعر والتصوف، والنقد التشكيلى والزخارف، والتراث.    


 نلاحظ في العديد من لوحاتك مفردات وتيمات شعبية وموروثات قبطية، ونجد أيضاً في أعمالك نوعاً من الأساطير، وربما نلمس فيها أجواء ألف ليلة وليلة.. لماذا وظّفت كل هذه التقنيات في أعمالك؟

مدرستي التي تعلمت فيها الفن مدرسة الموروث الحضاري الخالد، والذي شاهدته في آثار الحضارات العظيمة مستلهماً تأثير واستمرار هذه الحضارات على الفنون الشعبية، التي ظلت مستمرة لم ينقطع فيضها عبر التاريخ البشري، في الوقت الذي اختفت فيه حضارات بالكامل .. لقد تعلمت من الحضارات التي كونت الهوية المصرية، وأولها الحضارة المصرية القديمة التي ألهمت كل فنون العالم حتى الفن الحديث، وخاصة رسوم المقابر والجداريات الرائعة، وأعمال النحت على الأحجار الصلبة، والحضارة اليونانية الرومانية، وخاصة روح البحر المتوسط ووجوه الفيوم، والحضارة القبطية بما فيها من هالات وتقوى، والحضارة الإسلامية بزخارفها الهندسية والنباتية اللامتناهية، وجماليات الخط العربي، وارتباطها المباشر والقوي بالسماء دون وسائط.. والرسوم الشعبية التي تجمع هذا الزخم الإبداعي كله في إهداء فطري وتلقائي يعكس شكلاً ومضموناً أساطير وحكايات وموتيفات، وعلامات ورموزاً وعالماً إنسانياً رحباً، كمصدر أصيل لاستلهماتي الفنية..

لقد تعلمت من كل هذا، وتلبستني روح كل هؤلاء الفنانين المجهولين، وانطلقت من رحاب عالمهم أنسج عالمي الفني، الذي عرفت وتفردت به وسط فناني مصر والعالم العربي.. لقد سحرتني كل الفنون القديمة.. كما بهرتني حرية الأداء والتقنيات في الفن الحديث، الذي أخذ كل مقوماته من فنون حضارات الشرق.. والفنان ابن كل هذه الحضارات.

 في لوحاتك نلاحظ نوعاً من الفانتازيا والسحر إلى أي حد استفدت من هذه التيمات؟

السحر الجمالي في لوحاتي نابع من كونها أعمالاً مركبة ومجسمة، مرجعها استلهام التراث الحضاري والشعبي.

 نلاحظ اهتمامك بالمرأة إلى درجة أنك تسمي وتهدي معارضك بأسماء نساء؟

المرأة هي محور معظم أعمالي الفنية.. وأرى في المرأة رمزاً للإبداع، ومصدراً للحياة ومركزاً للبشرية.. وهي أجمل جميلات الدنيا، ولا يمكن الاستغناء عنها في حياتنا وفي إبداعنا.. ولوحاتي عن المرأة تصور الأم والأخت، والحبيبة والزوجة والبنت، ولكل منها إطار وزخرف، ولون ووشم ورمز.. المرأة هي العالم الثري لتواصل البشرية مثل الفن تماماً الذي يعد العالم الثري لسجل البشرية. وقد رسمت زوجتي الفنانة فاطمة مدكور في كثير من لوحاتي كرمز لبلدي وأمتي العربية، وأهديتها بعض معارضي وكتبي.

 في رسوماتك نجد زخارف وأشكالاً هندسية، وربما مستمدة من التراث الإسلامي العربي إلى أي مدى استفدت من هذين العنصرين؟

التراث الإسلامي في الفنون، والذي بُني على التجريد والتبسيط بشقيه الهندسي والعضوي في زخارفه وخطوطه، وكذلك في عمارته وفنونه التطبيقية، يعد خلاصة للفنون الحضارية، ومدخلاً للفن الحديث، وهو منهج أساسي في إبداعاتي، واستلهمته في العديد من لوحاتي التصوفية؛ لأنه جزء أساسي من وجداني وتربيتي وثقافتي.

 إلى أي حد استفدت من تجارب ورؤى وزخرفة الخط العربي في لوحاتك؟

لقد استلهمت الخط العربي في كثير من لوحاتي على ثلاثة مستويات: أولاً أخذته بقواعده في كل أشكاله.. وأنا دارس للخط العربي في شبابي المبكر بمدرسة تحسين الخطوط بالإسكندرية، ولكني لا أملك موهبة الخطاط؛ وإنما أعرف أنواعه وقواعده وأرسمه رسماً. ثانياً، كتبته بتلقائية على غرار ما يفعل الفنان الشعبي. ثالثاً، استلهمت من الخط الديواني تلك الخطوط المتشابكة كتلافيف داخل أشكالي المرسومة للجسد البشري، وفي كل الأحوال أوظفه ضمن حلول وجماليات اللوحة.

 يأخذنا بعض معارضك إلى الحلم والخيال وغيرهما، إلى أي حد استفدت من هاتين الصفتين؟ هل هذا راجع إلى الاستفادة من مدارس علم النفس وخاصة نظريات فرويد؟

أعمالى التشكيلية ليس لها أي علاقة بعلم النفس، وخاصة نظريات فرويد (يمكن أن تجد ذلك في كتاباتي الأدبية)؛ أما في الرسم والتلوين فالخيال والحلم نابعان من جماليات الخطوط والألوان وهما لغة التشكيل، وأي إرهصات أدبية حول أعمالي فهي اجتهادات من يبحث عن نص أدبي في عالم قائم على لغة الأشكال والألوان، وليس هناك فن بدون حلم أو خيال.. فالفنان يستلهم من الأحلام والخيال إبداعاته ليتلقاها المتلقي كخطوط وألوان، وإشكال وتكوينات تنقله من عالم الواقع إلى عالم الخيالات والأحلام بلغة التشكيل، وهي أقرب إلى الموسيقى من أي شيء آخر. إن كثيراً من الأسئلة حول تجربة أي فنان أرى أنه من الأجدى أن توجه إلى نقاد الفن، فهم الأفضل في تحليل أعمال الفنان، وقد يجدوا فيها أشياء لا يراها الفنان نفسه في أعماله.

 هل اقتربت بعض أعمالك إلى حد ما من السريالية؟

كتب كثير من نقاد الفن عن أعمالي على أنها سريالية، عندما أعمل لا أقول لنفسي اليوم سأرسم لوحة سيريالية وغداً أرسم لوحة تجريدية، هذا لا يحدث أبداً، كل هذه المسميات والتحليلات والتصنيفات تأتي بعد أن ينجز الفنان أعماله، فيراها البعض سريالية، وقد يراها البعض الآخر أنها أعمال تستلهم الخيال وتعكسه، لم أصنف نفسي أبداً، وقد حار النقاد أيضاً في تصنيف أعمالي .. أنا أرسم وأنحت جماليات تشكيلية تعكس كثيراً مما في ذاتي، ومغلفة بثقافتي وهويتي.. أنا لا أصطنع الفن؛ وإنما أبدع بتلقائية حالتي على أي نوع كانت بلغة وجماليات الألوان والخطوط.

 كتبت القصة القصيرة والشعر إلى أي حد استفاد السارد والشاعر من التشكيلي؟

كتابتي الأدبية (شعر، قصة قصيرة، عناوين لوحات، ذكريات، رواية) بلغة الكلمة وجمالياتها.. مثل لوحاتي بلغة الخط واللون وجمالياتهما. لقد استفدت من التشكيل في كتاباتي الأدبية وليس العكس، وقد خصصت في مطبوعاتي التي أصدرها باسم (كتالوج 77) سلسلة لكتابات الفنانين التشكيلين، فلها طابع خاص يختلف عن الكتابة الأدبية لغير التشكيليين، وحتى في الفوتوغرافيا التي أبدعتها وقدمتها في معارض أطلقت عليها (الكاميرا بعين فنان تشكيلي)؛ فهي تهتم بجماليات الشكل أكثر من اهتمامها بتقنيات الوسيط.

هل استفاد المبدع التشكيلى من الناقد التشكيلى داخلك؟

حتماً استفاد المبدع من الناقد، كما يستفيد الناقد دائماً من المبدع، والحقيقة أنا لي وضع غريب بشأن اتجاهاتي الشمولية في الإبداع، عندما أرسم أنسى الكاتب والمصور، ومخرج الأفلام الوثائقية القصيرة وغيرها مما يشغلني دائماً، أقول دائماً أنا مجموعة فنانين داخل إنسان واحد، وهذا لا يقلقني على الإطلاق، الذي يقلقني هو أن أتوقف عن الإبداع.

 تجربة الغربة والسفر وتنوع الأعمال والتجارب هل أفادتك في تجربتيْك الحياتية والفنية؟

السفر والغربة أفادا تجربتي الفنية الممتدة حتى الآن، فأنا في تجارب مستمرة وفي تعلم لا ينتهى، إن أفضل أعمالي أنجزتها في الغربة، مجموعة الكف المهمة جداً بالنسبة لي أنجزتها في بنغازي بليبيا عام 1970، وبعدها بخمس سنوات أبدعت مجموعة "المستنير دادا" في مكة المكرمة، وفي كل "سافرياتي" كنت أرسم باستمرار حتى في زيارتي للصين، أخيراً رجعت بلوحات معرض عن الصين. السفر والترحال بالنسبة لي متعة وتعلم، وثقافة ومعرفة.
 

 هل يمكن أن نقول إن لك اتجاهاً أو أسلوباً أو مدرسة فنية؟

من كل ما سبق وذكرته، ومع ما كتبه النقاد والباحثون يمكن معرفة اتجاهي الفني، وأسلوب إبداعي، والمدارس الفنية التي قد أكون منتمياً إليها، أنا شخصياً لا يهمني هذا الأمر ولا أشغل نفسي به، الذي يهمني هو أن أواصل العمل الإبداعي الذي وهبته حياتي كلها، والحمد لله على ذلك.
 



لمزيد من الأعمال الخاصه بالفنان عصمّت > Esmat Dawestashy | Facebook

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها