الكتبُ المحدودة أو التي تجلبُ النّحس!

د. كريم الطيبي


شاع في التراث العربي الإسلامي تصورٌ يؤمن بأن هناك كتباً تجلب النحس، قد تبدو هذه فكرة غريبة لحدٍّ بعيدٍ، وإن سلّمنا بوجودها، فإنّنا سنظنّها من وحي الثقافة الشعبية المتشبّعة بالمعتقدات الأسطورية والخرافية، غير أنّ عديداً من العلماء والكُتّاب والنّقاد وروّاد كتابة التّراجم قد أشاروا إليها وسلّموا بوجودها؛ إذ أشاروا إلى بعض الكتب التي تصيب قارئها أو مالكها بالنحس والهمّ والغمّ، وتنذره بالمصائب وتعكّس الأحوال، وتردي الأوضاع، وزوال النعمة، وحلول الفقر...
 

ونظرًا لكون الظاهرة طبعت كتباً كثيرة ولم تقتصر على حالات معدودة؛ فإنّه أمكننا الحديث عن صنفٍ من الكتب في التّراث العربي يُطلق عليه "الكتب المحدودة"، وهي تسميةٌ خطّها ابن خلّكان في كتابه "وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان"، وهذا ما نستشفّه من إشاراته التي ذكرها في معرض ترجمة الأديب أبي حيان التوحيدي، وخصوصاً أثناء الحديث عن كتابه "مثالب الوزيرين"، فقد ذكر ما يلي: "وكان أبو حيان علي بن محمد التوحيدي البغدادي قد وضع كتاباً سماه "مثالب الوزيرين" ضمنه معايب أبي الفضل ابن العميد المذكور والصاحب ابن عباد، وتحامل عليهما وعدد نقائصهما، وسلبهما ما اشتهر عنهما من الفضائل والإفضال، وبالغ في التعصب عليهما وما أنصفهما، وهذا الكتاب من الكتب المحدودة، ما ملكه أحد إلا وتعكست أحواله، ولقد جربت ذلك وجربه غيري على من أخبرني من أثق به". يكشف هذا النص، إذا، أنّ القدماء كانوا يعتقدون بوجود صنفين من الكتب، كتبٌ محدودة تجلب النحس وتبعث على الشؤم وتثير الهمّ والنكد، وتمنع الخير، وهذه المعاني هي التي قصدها ابن خلكان بتعبيره؛ فقد جاء في لسان العرب ما يلي: "والمحدود: الممنوع من الخير وغيره". وجاء في القاموس المحيط ما يلي: "والمحدود: المحروم، والممنوع من الخير". في مقابل صنف آخر هو الكتب المجدودة التي تجلب الحظ، وتفتح أبواب الرزق، ويشير المدلول اللغوي لكلمة "مجدود" في المعاجم إلى "البخت والحظ والحظوة والرزق والعظمة".

ولا يكتفي هذا النص المهمّ بتقديم تصنيفٍ طريف للكتب، بل فضلاً عن هذا، يكشف التأمل الدقيق أنّ هذه القضية جادّة وحقيقيّة ولا مبعث للتشكيك فيها؛ فقد ذكر مثالاً وهو كتاب مثالب الوزيرين، ثم أشار إلى جملة من الحجج الجديرة بإقناع القارئ؛ إذ ذكر أن هذا الكتاب جالب للنّحس، وهذه حقيقة مجرّبة من قِبله، ومن قِبل معارفه، ويعطف حجة أخرى على سبيل التأكيد، أن هؤلاء المعارف ممن يثق فيهم. ومن ثمّ، فإنّ شؤم هذا الكتاب مسألة حقيقيّة مثبتة. ويُعدّ كتاب التوحيدي من أبرز هذه الكتب التي وُسمت بالنحس والشؤم؛ فقد سجّل المستشرق آدم ميتز الملاحظة نفسها في قوله: "وكتابه في ذمّ الوزيرين مشحون بالثلب المقذع، وقد ظل الناس زماناً طويلاً يعتقدون أن هذا الكتاب يجلب النحس على من يقتنيه". وربما نحوسة هذا الكتاب هو اعتراف من المؤلّف نفسه، فمن المعروف أن التوحيدي أقدم على حرق كتبه بعد أن قلب له الزمان ظهر المجن، ولم تكن فأل خير عليه، ولم تسعفه في تحقيق الحظوة في مجتمعه، وضمان العيش الكريم، لذلك فحرقها قد يكون وجهاً من وجوه التخلص من نحسها. وكتاب مثالب الوزيرين هو كتاب في هجاء الوزيرين الصاحب بن عبّاد وأبي الفضل بن العميد وهتك عرضهما، وفضح سوءاتهما ونشر مثالبهما، والطعن في أخلاقهما وعلمهما.

وقد ذكر الناقد المغربي عبد الفتاح كيليطو في روايته "والله إن هذه الحكاية لحكايتي" جملة من الكتب المحدودة المتورّطة كذلك في جلب النحس والشؤم والشقاء، منها مقامات الحريري التي قيل فيها: إنها إذا دخلت إلى منزل فإن أهله يصابون لا محالة بالفقر والخصاصة. ويذكر أيضاً أن كل من يقرأ قصيدة ابن زيدون "أضحى التنائي بديلا من تدانينا" فإن مصيره الموت في أرض أجنبية، بعيداً عن أحبائه. وانتشر الاعتقاد نفسه حول ألف ليلة وليلة، فالمطلع على هذه الحكايات لا شك أن مصيبة ستحل به قبل نهاية السنة التي يقرأها فيها. وإلى جانب هذه الإلماعات الطّريفة التي قدّمها كيليطو، ثمّة مقالة مهمة تطرّقت لهذه القضية، وهي مقالة للكاتب وسام سبع عنوانها "كتب النحس" منشورة بجريدة الوسط البحرينية، ذكر فيها هو الآخر جملة من الكتب التي أثيرت حولها الأقاويل بنحوسيتها، مستفتحاً إيّاها بكتاب "الأغاني" لأبي الفرج الأصفهاني، إذ نقل عن الشيخ عباس القمي مؤلّف كتاب "مفاتيح الجنان" أنه ذكر: "لا يخفى أن كتاب الأغاني كتاب نحس ومشهور بالنحوسة، وإني سمعت بعضاً من نحوساته". ويذكر أنّ كتاب تاريخ ابن خلدون ومقدّمته ممّا يجلب الفقر والخصاصة.

كانت هذه بعضاً من الكتب المنحوسة التي سجّلها التاريخ، واتّفق على ما تحمله من نذير شؤم على مقتنيها وقارئها، ولا شك أن هذه الظاهرة تسترعي الانتباه، وتحتاج منّا بحثاً واسعاً وقراءة متواصلة في بطون أمهات الكتب في التراث العربي والإسلامي من أجل استقصاء أغلب المصنفات الموسومة بالنّحس، ثم التنقيب عن دواعي وأسباب إصدار هذا الحكم والغاية منه.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها