المنهج التاريخي في الفولكلور

بين ماضي الإنسان وحاضر الفن

فراس محمد

كما هو معلوم؛ يعد "المنهج التاريخي" من أقدم المناهج العلمية المتبعة في مجال الدراسات الفولكلورية، حيث كان يعرف في بداية الأمر بهذا الاسم أو بـ(المنهج التاريخي اللغوي)، وذلك نظراً لارتباطه الوثيق بالدراسات الأدبية واللغوية في مراحل تطوره الأولى، وقد يرجع الاعتماد عليه في المراحل الرومانسية الأولى من تاريخ دراسات الفولكلور في أوروبا، حيث كانت المأثورات الشعبية الأدبية هي أول عناصر التراث الشعبي التي طبق الفولكلوريون الأوائل المنهج التاريخي في دراستها، لكونه منهجاً يحاول تفسيرها، كما يقوم من ناحية أخرى بتعقب أصل بعض عناصر التراث الثقافي الشعبي، من أجل توضيح معنىً غامضٍ أو مجهول لأحد عناصر التراث المتداولة في الوقت الحاضر، فضلاً عن معرفة بيان علاقات التراث الشعبي التقليدي بالتحولات التاريخية التي طرأت على الثقافة الرسمية.


ففي القرن التاسع عشر، وبالتحديد في أوروبا وحدها، بدأ الاهتمام بدراسة التاريخ الاجتماعي والاقتصادي؛ أي دراسة تاريخ الشعوب في حياتها الاجتماعية والاقتصادية، ومع مرور الوقت زاد الاهتمام بدراسة جميع نواحي النشاط الإنساني عبر مختلف العصور، وبالتالي تعددت فروع الدراسات التاريخية بشكل ملحوظ، ومن أوروبا انتشر ذلك الفكر التاريخي الحديث بمذاهبه المتعددة إلى سائر أنحاء العالم، فأصبحت المأثورات الشعبية تحمل كل التفسيرات والرؤى والقيم والمثل، والأماني والتطلعات التي كانت تحرك الجماعات الإنسانية خلال رحلتها الطويلة عبر الزمان، تلك الموروثات الثقافية التي لا تحمل كل الحقائق التاريخية، ولكنها تحمل رؤية الشعب لتاريخه، وتفسيره لمسيرته الحضارية، وهنا يتضح وجود فرق جوهري بين ما يُعرَف بـ(التسجيل الرسمي للتاريخ)، وما يُعرَف بـ(التسجيل الشعبي)، "فالأول يعد تاريخاً خالصاً؛ أي أنه يصل للأجيال المتعاقبة على النحو الذي تمّت كتابته، أمّا الثاني فهو تسجيل شفاهي تراكمي تتناقله الأجيال وتزيد عليه وتعدل في مضمونه بما يخدم أهداف الجماعة الإنسانية، دون أن يقصد به أن يكون تاريخاً يقرَؤُه الناس في الأجيال التالية، ذلك أن الموروثات الشعبية تعبير تلقائي عن الناس في حياتهم اليومية، وعن رأيهم في أحداث تاريخهم ورؤيتهم لها".

فالباحث الفولكلوري دائماً ما يبحث في تلك المأثورات الشعبية عن تفسير شعبي لحوادث التاريخ الماضية، بعيداً إلى حدٍّ ما عن تفسير الأحداث نفسها؛ أي أنه يبحث عن روح التاريخ في تلك الأحداث الماضية لا عن جسده، على اعتبار أنَّ المصادر الشفاهية من الممكن أن تكون مصدراً تاريخياً، وإن كانت تلك المصادر تتميز ببعض الخصائص والسمات التي تميزها عن غيرها من المصادر المكتوبة، فأصبحت الدراسات التي تربط بين التاريخ والفولكلور فرعاً جديداً في علم التاريخ الواسع من خلال التوصل إلى نصوص شفاهية لها تنوع كبير من حيث الأفكار والدوافع وما إلى غير ذلك1.

وحول السؤال عن العلاقة بين الفولكلور وتمايزه عن التاريخ، يجيب "بوتر": بأنّ الشفاهية هي التي تميز الفولكلور عن التاريخ الذي هو تسجيل حقيقي بالتدوين، أمّا الفولكلور فإنه قد تطوّر كتفسير مأثور -وشفوي في الغالب- لأصول الأشياء وللتاريخ المبكر للإنسان.

إنه من الضروري كما تقول "مارجريت مري" (M.A.Murry) "عند دراسة الفولكلور في التاريخ أن نضع التاريخ في حسابنا، كما يجب أن نتذكر بأن الفولكلور يمكن أن يصبح تاريخاً، كما أن التاريخ يمكن أن يصبح "فولكلوراً".

أمَّا "ألكسندر كراب" فقد قرّر بأن الفولكلور علم تاريخي، وهو تاريخي؛ لأنه ينشد أن يلقي ضوءاً على ماضي الإنسان. وهو علم؛ لأنه يجاهد أن يبلغ هذا الهدف لا بواسطة التخمين أو الاستنتاج من بعض المبادئ السابقة، لكن بواسطة منهج ثابت يستخدم سائر أنواع البحث العلمي.

لقد كان الفولكلور لعدة سنوات "علماً تاريخياً" له مناهجه الخاصة في البحث، ويقبل النظامَ نفسَه الذي تقبله العلوم الأخرى في الفحص والتحقيق.

وهو مع العلوم المماثلة لعلم التاريخ، يجاهد بطرق مختلفة أن يؤلف حلقة عن معرفتنا بالحياة الماضية للإنسان. ويرى "ألكسندر" أنه: "كما أنَّ هنالك علاقةً مماثلة تقوم بين الفولكلور والإثنولوجيا (الأنثروبولوجيا) من جهة؛ فإن هنالك علاقة مماثلة كذلك بين الفولكلور وبين علم الآثار" . ويفسر ذلك بقوله: "حيث إنه من المعروف أن جميع الحضارات قد بزغت في عصور ما قبل التاريخ من الحالات الهمجية والمتبربرة؛ فإن الوثائق التي فسرت بواسطة علم الآثار، تكون في حالات كثيرة قد فسرت عن طريق العقائد والعادات التي أبطأت في سيرها بين الناس (العامة)، أو التي ما تزال تعتقدها وتمارسها الشعوب شبه المتحضرة".

أمَّا "تومز William Thoms" مؤسس الفولكلور (1846)؛ فإنه من ناحية أخرى، كان بالتأكيد ذا ميول تاريخية2.

لقد ركّز الفولكلوريون في أوائل القرن العشرين، على جمع وفهرسة نصوص الأغاني الشعبية والبالاد، والحكايات الشعبية، وكانت القضايا التي شغلتهم تدور حول ضرورة تحديد الشّكل الأصلي، أو الشّكل البدئي (ur-form) للنص، وتحديد المكان الذي تكوّن فيه أول مرّة. وقد نشأت هذه المقاربة في فنلندا، وعُرف ذلك بالمنهج التاريخي – الجغرافي. ومرة أخرى - ولأنهم اعتمدوا بشكل مكثف على المجموعات الأرشيفية- كانوا يدرسون أكبر عدد من التنويعات للقصة أو الأغنية، لإيجاد الشّكل الأقدم، حتى يمكنهم تخمين نمط انتشاره في المناطق الأخرى. وكان "فرانز بواس Franz Boas" وتلاميذه من أكثر الذين اندمجوا في هذه المقاربة الأنثرُبولوجية، واهتموا بما كشفته هذه الأنماط من حركة الشّعوب والثقافات عبر الزمان والمكان.

وكان الفولكلوريان "آنتي آرني" في فنلندا، و"ستيث طومسون" في الولايات المتحدة، قد أنشآ ثبتاً ضخماً لطُرُز الحكاية، يتم فيه جدولة وترقيم كل الحكايات وتنويعاتها التي تمّ جمعها. كما أنشأ "طومسون" ثبتاً منفصلاً، فكّك فيه الحكايات إلى وحداتها الأولية ((Motifs. وابتكر أيضاً أنساق تصنيف للأنواع الأخرى مثل البالاد والألغاز. وكان من المهم في هذا البحث بالنسبة للفولكلوريين أن يُطابقوا أرقام الطرز الصحيحة على النصوص التي جمعوها؛ ولم يهتم تلاميذ هؤلاء العلماء إلّا في أواخر القرن فقط بالمسائل التي تتعلّق بمعنى المادة التي جمعوها، وبالسياق الاجتماعي والتاريخي الذي كانت تؤدّى من خلاله3.

 


المصادر والمراجع: 1. محمد أبو شنب: جمع عناصر التراث الشعبي من كتب الرحالة والمستشرقين في النوبة المصرية (بوركهارت نموذجاً) (الجزء الأول 2020)، ص: 26-21.┊2. فوزي العنتيل: الفلكلور ما هو (دراسات في التراث الشعبي)، (القاهرة، دار المعارف، 1965)، ص: 47.┊3. جيمس كورسارو وكارين تايج – لوكس: الفولكلور في الأرشيف. ترجمة: سامية ذياب. تقديم ومراجعة: عبد الحميد حوّاس. (القاهرة، المركز القومي للترجمة، ط1، 2008)، ص: 37.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها