التّسفيرُ في المغرب.. إبداع ومعرفة

الزبير مهداد

لفظ التسفير في المغرب يقابل لفظ التجليد في المشرق، وهي الصناعة التي تُعنى بضم أوراق الكتب وتثبيتها وتوضيبها، وإنجاز غلاف متين قاس لحماية الأوراق من التلف والتبعثر.

وإذا كان اللفظ المشرقي يشير إلى الجلد الذي يغطي أغلفة الكتاب؛ فإن اللفظ المغربي يعني صناعة "السِّفر" وهو الكتاب، وقد وردت الكلمة في القرآن الكريم بهذا المعنى بصيغة الجمع في سورة الجمعة.

ويعد التسفير صناعة ثقافية فنية، أنجز الصناع على مر القرون الماضية أعمالا فنيةً باهرةً، وبالخصوص حين يتعلق الأمر بالمصاحف الكريمة، التي كانت تخط بأجمل الخطوط، وتزخرف وتذهب، وكان المجلد أو المسفر يتلقى أوراق المصحف فيضمها إلى بعضها ويغلفها بطريقة فنية جميلة، تقديراً وإجلالاً لكتاب الله، وطلباً للأجر والثواب. ومن معالجة المصاحف انتقل الصناع إلى معالجة الكتب الأخرى، فقوبلت هذه الصناعة بترحيب الفاعلين في الحقل الثقافي من وراقين وقراء ومصنفين، وبامتداح وثناء الفقهاء وعلماء الدين، حتى وصفها بعضهم بأنها: "من أهم الصنائع في الدين، إذ بها تصان المصاحف، وكتب الحديث والعلوم الشرعية"1. أما ابن خلدون فقد وضع حرفة التجليد ضمن حرف الوراقة التي تشمل "الانتساخ والتصحيح والتسفير"2.



تقاليد عريقة

هذه الصناعة الثقافية المتعلقة بالكتاب، احتلت مكانها الرفيع ضمن الفنون الحضارية الإسلامية، ارتبطت بحرفة دباغة الجلود، وازدهرت منذ جلب صناعة الورق من شرق آسيا، الذي كان له أثر كبير في انتشار الكتب والمكتبات الأمر الذي أدى إلى تطور الصناعات المتعلقة بالكتاب.

التجليد يتم بجلود مدبوغة، تغلف الكتاب وتحفظه، في البداية كانت الكتب تصحف بقطع الخشب، ثم استعمل الجلد المدبوغ، فانفتح به باب واسع لتطوير الحرفة وتجويدها والارتقاء بها. حيث كان التوجه نحو العناية ببطانة الكتاب، وكعبه أيضاً، ثم ألحق اللسان بالغلاف، ثم ما لبثت أن أضيفت لها الزخارف اللطيفة لتجميلها، ودونت على الأغلفة الجلدية إشارات إلى اسم الكتاب ومصنفه أحياناً، ومعلومات غيرها كاسم الناسخ أو الواقف أحياناً أخرى. فلم يعد التجليد يقتصر على مجرد حماية الكتاب، بل أصبح شهادة حضارية تنطق بتطور الفن الإسلامي، وبازدهار الصناعات الداخلة فيه، كالأحبار والألوان والأصماغ، ووثيقة تدل على عناية رجال الدولة والنخب بعالم الكتاب والمعرفة. إذ مع توسع النفوذ الإسلامي، انتقلت إلى البلاد العربية طرق ومواد وأساليب جديدة في الصناعات والفنون، وكان التجليد أحد الفنون التي استفادت من التبادل الحضاري، فدخلته طرق ومواد وأدوات جديدة لم تكن مألوفة لدى السلف، فأسهمت بشكل قوي في تطوير الصناعة.

وقد خلف المشتغلون بصناعة الكتاب عدة مصنفات ورسائل في التجليد، تبرز أهمية الصناعة وتطورها وكيفيات العمل وآدابه، ومواده، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: "زينة الكتاب" الذي صنفه أبو بكر الرازي الذي وثق ووصف كيفية تجليد الكتب وتقاليدها في المشرق، و"التيسير في صنعة التسفير" الذي وضعه أبو بكر الإشبيلي، الذي شرح فيه تقنيات التسفير في بلاد الغرب الإسلامي.



أنماط مغربية

كان التجليد في الأندلس متقدماً، يقول المقدسي: "إن أهل الأندلس أحذق الناس في الوراقة"3، وكانت مدن الأندلس كإشبيلية وقرطبة تضم أسواقاً خاصة للكتب، ومعامل للورق ودباغة الجلود، وكان الفضل في تشجيع العناية بالثقافة والكتاب للخلفاء الذين اعتنوا بالكتب والمكتبات، ومنهم الحكم المستنصر بالله الذي امتلك مكتبة ضخمة، واستقدم النساخين وأمهر المجلدين من البلاد العربية وغيرها، فبرع الأندلسيون في فن تسفير الكتب، وعنهم أخذ المغاربة هذه الصنعة4، بعد خضوع الأندلس لحكم الدولة المرابطية، ما مكن المغاربة من تعرف هذا الفن وتعلمه على أيدي الأندلسيين الذين أصبحوا خاضعين للسلطة المرابطية.
وتواصل اهتمام المغاربة بالفن الذي عرف تألقاً كبيراً في عهد الدولة الموحدية التي خلفت المرابطين. ومن أهم الأحداث الثقافية التي شهدتها الساحة الثقافية آنذاك، إهداء أهل قرطبة للخليفة الموحدي عبد المؤمن بن علي نسخة المصحف العثماني، فقام الخليفة بجمع أمهر الصناع والنقاشين والمرصعين والرسامين لإخراج هذا المصحف في حلة جميلة، فجلّد المصحف في جزأين لطيفين جداً، صنع لهما الخليفة خزانة وأغشية محلاة بالذهب والفضة ومرصعة بأنواع الحجارة الكريمة، حتى أضحت تحفة فنية باهرة5.

توارث مالكو خزانات الكتب عدة أعمال من عهد الدولة الموحدية، تشهد بدرجة الرقي التي بلغها التسفير في هذا العصر الذي استعمل فيه المسفرون المعادن الثمينة، والأسلاك والأختام وغيرها. ومما وصلنا من هذه الأعمال، جزء من المصحف محفوظ بالخزانة الملكية بالرباط، محفور ومذهب وملون بشكل بديع. تجليد المصحف يتألف من سطحين تجمعهما مفاصل انطباق، وتغلقهما ثنية جلد حمراء منقوشة بالكي، وتعززهما طبقة من الورق المقوى.

تتألف زخارف الغلاف من زخرفة رئيسة، عبارة عن نجمة مثمنة يحيط بها ثلاثة أطر متراكبة، عرضها متفاوت، اثنان عرضهما متقارب، أحدهما يحيط بالزخرف الرئيس والثاني ينتهي بحد الغلاف، وهما معاً مزينان بجدائل ثنائية الفروع، وتشبيكات مستقيمة ومنحنية الخطوط وزهيرات، يفصل بينهما إطار زخرفي دقيق من سلسلة حلقاتها بيضوية ومعينات متتالية ومتناوبة رسمت بخط مزدوج دقيق.

لعل التسفير الأول تم في عهد الموحدين، لكن كثافة الزخارف تحيل على النمط المريني، أما النمط الزخرفي فيبرز التأثير الشرقي التركي والهندي الذي دخل البلاد ضمن ما دخلها من مؤثرات شرقية في القرن السابع عشر الميلادي6، ما يفيد بأن المصحف خضع لتجديد وترميم وصيانة عدة مرات، ولعله جلد في عهد الدولة الموحدية، وزخرف في عهد المرينيين، واكتملت زخرفته أو رممت في عهد الدولة العلوية. وما زال صناع التسفير في المغرب يعتمدون هذا الشكل الزخرفي الذي يتأسس على نجمة ثمانية، يسمونها "المثمن" أما العناصر المالئة، فقوامها الرسوم الهندسية والنباتية المتداخلة.
 

طريقة العمل

مادة الكتاب الرئيسة هي الأوراق التي تحوي المعلومات، لصناعة الكتاب، تجمع الأوراق بإحكام وتضم إلى بعضها مرتبة لتكوين الملازم، ويجب أن تكون الأوراق متساوية في الملزم، ثم تشد إلى بعضها بخياطة محكمة، لتكوين كتلة الكتاب، ثم تطلى جنبات الأوراق بمادة لاصقة، فتثبت بشريط من الكاغد المقوي بحجم جنبات الورق، ثم تثقب الدفتان بثقوب صغيرة، يمر منها الخيط الذي يشد الملازم إلى بعضها، وهو "التشبيك"، ثم "التحبيك" لصق كتلة الكتاب بالحَبْكَة مِن جهة الكعب، ثم "تقفية الكعب" أي جعله مقبباً غير مستو، ثم يغلف الكاغد المقوى بالجلد المدبوغ والمعد سلفاً بحسب قياس الكتاب.

وقد يلحق بالغلاف امتداد آخر، يسمى "اللسان" أو "المرجوع الكبير" وله وظيفة مزدوجة، فهو يحفظ أوراق الكتاب، ويستعمله القارئ كفاصل يحد الجزء الذي قرأه ويميزه عن الجزء الذي لم يقرأه بعد. بعد ذلك، ينجز المجلِد دفوف الكتاب الداخلية (البطانة) وتلصق على وجه الغلاف الداخلي.

الغلاف يتخذ من جلد مدبوغ رقيق لين، ويفضل جلد الماعز، يفصل على مقاس الكتاب، ثم يلصق على الورق المقوى ويزخرف ويذهب، أو ينقش بالأدوات الخاصة بذلك، ثم يبصم عليه بإثبات بيانات الكتاب وعنوانه بالتذهيب على الغلاف الأمامي والكعب أحياناً، ويعاد إلى المكبس حتى يجف ويصبح جاهزاً للاستعمال. وبعد التجليد يشرع في زخرفة واجهة الكتاب بالتذهيب، وأحياناً يصنع ربعات خشبية أو جلدية للمسفرات.
 


الزخرفة والتذهيب

لتزيين الغلاف وزخرفته، تستعمل عدة تقنيات وأساليب، منها: "الرشم" أو الزخرفة بالأدوات، و"الختم" أي الضغط بالأختام المعدنية وهي قوالب زخرفية جاهزة، ويفضل استعمالها في الجلود السميكة، وهي مفيدة في عمل زخارف مجسمة؛ لأن الخاتم المعدني يخلف أثراً غائراً وبارزاً لا يزول. وهناك "التقشير" و"التفريغ" بنزع الطبقة العليا من الموضع المراد زخرفته من الجلد بسكين، حتى يبدو بياض الطبقة التي تليها والتي لم تتسرب إليها الصباغة، كما يستعمل التذهيب والتلوين. لتزيين الزخارف الهندسية والنباتية.

كل المراحل يدوية، والمواد مختلفة منها الجلد والورق المقوّى ومحلول الذهب الذي استبدل اليوم بالورق المذهب، ومعدات الخياطة، ومواد الإلصاق والأصباغ المائية. أما الأدوات فهي خشبية تقليدية متوارثة في الغالب والقوالب والأختام المعدنية، والسكين المعقوف والفرشاة لطلي الصمغ، وسكن الخشب أو العظم لطي الورق وفصله.

الملزم هو آلة الكبس الخشبية، يستعين بها المجلد لتثبيت أجزاء الكتاب، هو أداة مركبة من خشبتين تشد إحداهما الأخرى، تضبط بلولب حتى تمسك الكتاب وتضغطه وتلصق أجزاءه.

يستخدم التذهيب لزخرفة غلاف الكتاب، فيرسم الصناع الأشكال الهندسية والتسطير والتوريق وسائر الزخارف التقليدية بماء الذهب. يستعمل المزخرفون مسحوقاً مكوناً من الذهب المحلول في ماء العسل، ويضاف إليه الصمغ العربي، يصبح مداداً ذهبياً، يحك على الجلد بواسطة مصقلة لإظهار جماله وبريقه. واليوم تستعمل في الغالب رقائق الذهب، توضع على الجلد وتثبت عليه بواسطة أختام معدنية ساخنة تحمل النقوش المرغوب رسمها.

أنواع الزخارف

النوع الأندلسي: وهو من بين أقدم الأنواع التي عرفها المغاربة في القرن الثالث عشر الميلادي، يتميز بزخرفته التي تغطي كامل الغلاف، وطغيان التوريق بدل الزخارف الهندسية.

النوع المصري: وهو قديم أيضاً، يمتد تاريخه إلى العصر الوسيط ويتميز بخفة زخارفه التي لا تغطي كامل الغلاف، حيث يُكتفى بزخرفة الأركان والعشر في الوسط واللوزة حوله، ولعل المغاربة تعلموه خلال العصر المريني. وهناك النوع الفارسي وهو من بين أحدث الأنواع، يرجع تاريخ دخوله إلى المغرب في القرن السادس عشر الميلادي، تميزه الترنجة التي تتوسط الغلاف، وهي زينة في شكل ليمونة، تتخذ من جلد آخر بلون مغاير للون جلد الغلاف، وتثبت في وسط الغلاف بعد تهييء موضعها بالحفر، وحولها زخارف ذهبية في شكل ضفائر، وسلسلة تحيط بالغلاف، في كل ركن من أركانها الأربعة زهيرات متماثلة منقوشة بالضغط.

النوع العثماني: تزامن دخوله للمغرب مع دخول النوع الفارسي، الذي يشبهه في جوانب كثيرة، حيث تتوسط الغلاف ترنجة لكنها مربعة في الغالب، تنقش بطريقة الحفر على الجلد7. كما يحلى أيضاً بالأركان، والزخارف النباتية، كالزهيرات والعنبيات والغصون الدقيقة.

النوع المغربي: يمتد تاريخه إلى العصر الوسيط، القديم منه يشبه الطراز الأندلسي في كثرة زخارفه وتذهيبه الكثيف، يتميز بزخرفته بحدائد الضرس، وتتوسطه زخارف متشابكة مطبوعة بالضغط، وهي في الغالب نجمة ثمانية، وأحياناً سداسية أو عشارية.

وفي العصر السعدي أي القرن السادس عشر، أضافوا الترنجة إلى زخارفهم، وقد نقلوها عن الطراز الفارسي القديم، كما أخذوا عن الأتراك طريقة النقش بالقطع أو الحفر على الترنجة المربعة والأركان، أو التوريق، وقد أورد المسفر السعيد بنموسى طريقة إنجاز ذلك8. وفي العصر العلوي، وابتداءً من القرن السابع عشر الميلادي، عرفت ساحة التسفير طرازات أخرى، كالطراز الصحراوي الذي يستعمل الجلد المطروز بخيوط الحرير والمذهبة، والطراز الأمازيغي الذي يستعمل معدن الفضة والحجارة الكريمة.

في طور الانقراض

صنعة التجليد أو التسفير تعد من بين أهم الصناعات الثقافية، وقد كان لها دور مهم في حفظ ثروة الأمة العلمية من المخطوطات وصيانتها، الأمر الذي جعل هذه الصناعة تحظى بتقدير خاص من لدن المثقفين فاشتغل بها كثير منهم، ومارسوها وصنفوا فيها، كما رعاها السلاطين واعتنوا بالمشتغلين بها.

في العصر الحديث يتولى المسفرون تجليد الكتب، كما ينتجون عدداً من البضائع المكتبية الجليدة اللطيفة، كالمحافظ اليدوية وحاملات الوثائق، ومنتجات جلدية تقليدية لها علاقة بعالم المكتبة والكتاب، ما يوفر لهؤلاء الصناع مصدراً للدخل يستعينون به على إعالة أسرهم.

إلا أن المسفرين يتناقصون باستمرار، فالتغليف الآلي للوثائق والكتب نافسهم وأضعف الإقبال عليهم، والمسفرون لم يعودوا يخلفون بعد وفاتهم من يرث أسرار مهنتهم ويواصل أداء رسالتهم، وأضحت حرفة التسفير (التجليد) والتذهيب من بين الحرف المهددة بالانقراض، على الرغم من قيمتها التراثية والفنية التقليدية، ودورها في صيانة وحفظ الهوية الثقافية القومية. لذلك يطلق بعض المختصين والصناع نداءات للسلطة الحكومية المشرفة على قطاع الصناعة التقليدية بضرورة إنقاذ الحرفة ودعمها قبل انقراضها وانمحائها.


الهوامش: 1. ابن الحاج: المدخل، القاهرة، دار التراث، جزء4، ص: 87. / 2. ابن خلدون المقدمة، تحقيق الدويش دمشق 2004، ج2 ص: 128. / 3. المقدسي: أحسن التقاسيم، نشرة مدبولي، القاهرة، 1991، ص: 239. / 4. بنموسى، السعيد: محاضرات في تسفير الكتاب، مطبعة فريتس، الرباط 2008، ص: 5. / 5. المقري: نفح الطيب، بيروت، دار الكتب العلمية، ج2 ص: 135. / 6. http://baroqueart.museumwnf.org/database_item.php?id=object;ISL;ma;Mus01_F;15;ar
7. بنموسى، ص: 26. / 8. بنموسى، ص: 24.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها