الترجمة.. رافدٌ أساسيٌّ من روافد الإبداع

حوار مع الروائي التونسي د. محمد آيت ميهوب

حاورته: وحيدة المي


هو قاص، روائي، ناقد ومترجم محترف، فضلاً عن كونه أستاذاً جامعياً، فاز بجائزة الشيخ زايد في الترجمة عن كتاب "الإنسان الرومنطيقي"، كما ترجم كتاب "التجريد وفن الخط: نحو لغة عالمية"، المعلّق حالياً على جدران متحف اللوفر. يشتغل خارج الضوضاء ويخوض تجربته الترجمية ومسيرته الأدبية والعلمية بما "يملأ كيانه وروحه"، ويشرّف الإبداع بعيداً عن تضخّم الأنا وتورّمها. الدكتور الناقد والمترجم محمد آيت ميهوب، قامة من القامات التونسية تستحق أن نسلّط عليها الضوء، ونفتح نوافذ على ما تيسّر من تجربته الإبداعية الثريّة والمتنوّعة، والجديرة بالاحتفاء والتّشريف.
 

✧ ما زلنا نعيش على وقع فوزك بجائزة الشيخ زايد في الترجمة عن كتاب "الإنسان الرومنطيقي"، هنيئاً هذا التتويج العربي.

شكراً جزيلاً.. فعلاً فوزي بهذه الجائزة كان حدثاً مهماً في مسيرتي الأدبية والعلمية؛ وإنه لشرف عظيم لي أن أنال جائزة الشيخ زايد للكتاب، هذه الجائزة التي تعدّ أعرق الجوائز العربية على الإطلاق، وإحدى أهم الجوائز العالمية رفعة ومجداً، ويكفي أن يقرأ المرء تقرير لجنة التحكيم ليقف على مدى جدية عملية التحكيم والتزام أعضائها بقواعد التقييم الموضوعي النزيه. ولن آتي بجديد حين أقول إن جائزة الشيخ زايد ليست مجرد جائزة لتثمين الأعمال المرشحة إليها تثميناً مادياً كشأن أغلب الجوائز العربية، بل لقد استطاعت أن تغدو مؤسسة نقدية وعلمية جامعة، تساهم مساهمة كبيرة في تنشيط الحركة الثقافية والفكرية والأدبية، وتؤثر تأثيراً مهماً في توجهاتنا الثقافية والفكرية الكبرى. وقد سعدت سعادة غامرة بهذا التتويج العلمي والأدبي، من أجلي طبعاً، ومن أجل "الإنسان الرومنطيقي" أيضاً؛ إذ أنصفته هذه الجائزة. فمما لا شك فيه أنها لفتت أنظار النقاد والباحثين إلى أهمية العودة إلى دراسة الفكر الرومنطيقي في منابعه الفلسفية الأولى.

✦ لماذا تناولت هذا الكتاب دون غيره؟

"الإنسان الرومنطيقي" للفيلسوف والأديب الفرنسي جورج غوسدورف، كتاب مهم جدّاً في تاريخ الفلسفة والفكر العالميين، ومرجع لا غنى عنه لمن يريد التعمق في الرومنطيقية والفكر الغربي الحديث عامة. وطالما تمنيت وأنا شاب أن أترجم هذا الكتاب وأهديه إلى المكتبة العربية. فقد عرفت هذا الكتاب منذ سنوات طوال، وقرأته مرات وعايشته وعاشرته، واشتهيت لو كنت له مؤلّفاً. وحين أتيح لي أن أترجمه إلى العربية بدعم من معهد تونس للترجمة، أمضيت أربع سنوات أتأنّى في نقله وأتحرى، وحاولت طيلة هذه المدة وسع الطاقة أن أكون وفياً للنص لغته وأفكاره وروحه، وأن أعمل كل جهدي على أن يكون في لغة عربية سليمة، تزدان بحلية الشعر في مواطن الشعر والبوح الكثيرة، التي نستمع فيها إلى الكتّاب الرومنطيقيين يبثّون شكواهم، ويصوغون رؤاهم المتفردة للعالم، وتلتزم بدقة الفلسفة وعمقها في مواطن الفلسفة، وتأويل أمهات النصوص والمجادلات الفكرية التي انبرى المؤلف في جميعها يحلّل ويستدلّ على آرائه، ويناقش خصوم الرومنطيقية بطريقة بديعة تؤالف بين صرامة العلم، وعمق الفلسفة، وطلاوة الأدب.

✧ بدأت الرومنطيقية مع العرب متأخرة زمنياً، ما الذي أضافته إلى المدونة الأدبية العربية؟

يؤرخ النقاد الغربيون نهاية المدرسة الرومنطيقية في الغرب بسنة 1830، وإذا ما اعتبرنا أنّ التجليات الرومنطيقية العربية الأولى قد ظهرت مع أدباء المهجر في العقد الثاني في القرن العشرين؛ فإن سبعين سنة تقريباً تفصل بين المدرسة الرومنطيقية الغربية والمدرسة الرومنطيقية العربية في المهجر الأمريكي، ثم في تونس مع الشابي، وفي مصر مع جماعة أبولو. لكن هذا التأخر في الزمن لم يحل دون تأثير الرومنطيقيين العرب تأثيراً بليغاً في مسار الأدب العربي الحديث، فقد كانت كتابات جبران ونعيمة، والشابي وعلي محمود طه والمازني، ثورة حقيقية على المدرسة التقليدية، وما رسخته طيلة القرون من مفاهيم أدبية وقواعد في الكتابة قتلت الروح الإبداعية، وغيبت ذات الكاتب وجعلت أفق الإبداع الأدبي لا يعدو أن يكون نسجاً على النصوص القديمة.

لقد كانت الرومنطيقية البوابة الأولى للحداثة الأدبية والفكرية العربية، والمحك الذي اختبرت عليه مفاهيم التجديد، والصدق الفني، والرؤية، والتعبير عن الذات. كما أنها ساهمت مساهمة حاسمة في تطوير لغة الأدب، وإعادة النظر في علاقة الشكل بالمضمون، وبعث الحياة في الأساليب البلاغية القديمة وفق رؤية جديدة للفن والذات والعالم. ولئن خفت التيار الرومنطيقي نفسه في الستينيات وجاءت مدارس أخرى تجاوزته؛ فإنه كان هو نفسه الرحم التي أنجبت نقيضها، والمهد الذي تربى فيه خصومها. فهل كان يمكن مثلاً لحركة الشعر الحر أن تظهر لولا ما سبقها من ثورة الرومنطيقيين على قيود العمود الشعري، وسخريتهم بالأغراض التقليدية؟

✦ هل انتهت النزعة الرومنطقية باكتساح الافتراضي وانتشار التكنولوجيا، وانشغال الإنسان بأولويات جديدة؟

الافتراضي وما شابهه من وسائل اتصال وتعبير مذهلة لا تهدد وللأسف النزعة الرومنطيقية فحسب، بل الأدب والفكر بأكملهما. ولكن نظرة قريبة على التاريخ تدفعنا إلى الأمل والتفاؤل. فقبل مائة سنة أقيمت حفلات رثاء على الكتاب بعد ظهور المذياع، ولكن جاء التلفزيون بعد المذياع، وجاءت الإنترنت وما زال الكتاب موجوداً بل لعله يعيش الآن أزهى عصوره. وكذلك الأمر مع الرومنطيقية. فلعل من أهم الأفكار التي ألح عليها جورج غوسدورف طيلة فصول الكتاب أنّ الرومنطيقية هي مشروع فلسفي إبستيمولوجي فكري ضخم مفتوح في الزمان والمكان، ولا يرتبط بنوع مخصوص من التعبير الإنساني، ولا بحقل محدد من حقول المعرفة البشرية. ولذلك رفض الكاتب في خاتمة الكتاب القول بموت الإنسان الرومنطيقي، واعتبر أنه ما زال حياً بيننا طالما كان في الإنسان حب للخيال، وملاذ في اللاوعي، وشوق إلى الخروج من غربته الأنطولوجية الأولى واستعادة وحدة الكيان، وحلم بالفوز بأجوبة مطمئنة عن أسئلته الميتافيزيقية القديمة.

إنّ كل من تمسك بحرية، ورفض أن يكون قطعة صغيرة في آلة التشيء الكبرى، وكل من تمكنت منه جرثومة الأدب والفن، ورام الإنشاء والخلق شكلاً أو كلمة أو صورة أو حركة... فهو إنسان رومنطيقي. وكما يقول الشاعر الفرنسي بيار ريفردي: "إنّ من الصعب على الفنان أن يعيش دون رومنطيقية؛ فإن لم يكن رومنطيقياً في آثاره كان رومنطيقياً في حياته، وإن لم يكن رومنطيقياً في حياته، احتفظ برومنطيقيته في أحلامه".

✧ قلت إنك لا تتعامل مع الكتب إلا التي أحببتها، ما الفرق بين أن تمارس الترجمة بحب وأن تتعامل معها كوظيفة، هل يؤثر ذلك على روح النص؟

تقصدين الكتب التي أترجمها. نعم الأمر كذلك فعلاً. فلست ذلك المترجم المحترف الذي يتخذ الترجمة مصدراً للرزق، ولا يرى فيها إلا عقوداً ومداخيل وآجالاً زمنية، يحاول أن يختزلها قدر الإمكان لتكثر الكتب المترجمة فتكثر مداخيله، ولذلك تراه يترجم أكثر من كتاب في الوقت نفسه، ويمكنه بسحر ساحر أن يترجم كتاباً ضخماً في ستة شهور، ويتعامل مع دور نشر لا تخضع ترجماتها للمراجعة، ولا يعير أي اهتمام لتدقيق النص وتهذيبه. وهكذا تجد من هؤلاء المترجمين من لم تتجاوز سنه الخامسة والأربعين، وله في رصيده عشرون كتاباً مترجماً في الأدب والحضارة، واللغة، والفلسفة، وعلم الفلك...

الترجمة عندي رافد أساسي من روافد الإبداع، وكلما خضت تجربة ترجمية جديدة جعلت همي الأول أن أبدع نصاً جديداً لي تماماً، مثلما أفعل في كتاباتي السردية والنقدية. ذلك هو أفق الكتابة عندي دائماً مهما اختلفت حقولها. لذلك ففي أغلب الحالات أنا الذي يقترح الكتاب الذي "أشتهي" ترجمته على الجهات التي أتعاون معها. في سياق هذا الأفق الذي لا يفصل بين الإبداع والترجمة، أعتبر فعلاً أن حب النص الأصلي يهون كثيراً من صعوبات الترجمة وضغوطاتها، ويساهم في نجاح الترجمة وبلوغها درجة عالية من الرقي.

✦ أنت والعزلة صديقان قديمان والقول قولك، لماذا تعتزل الناس؟

لا أقصد طبعاً العزلة المادية كهذه التي أرغمنا عليها طيلة فترة وباء الكورونا!! بالعكس أنا شخص اجتماعي وتعرفين أن لدي أصدقاء كثراً. ولكني أقصد العزلة الأعمق والأخطر والأثمر، عزلة الغوص في أعماق الكيان، وعزلة التأمل ومطاردة الأفكار والأحلام والأوهام، هذه التي تستولي على المرء حتى وهو بين الحشود وفي قلب اللغط والضجيج. هذه العزلة لا راد لها، وهي ضرورية أيضاً حتى تظل المسافة قائمة دائماً بين الذات والعالم والآخر، تلك المسافة التي لا بدّ منها للانكفاء على النفس والإقدام على الكتابة.

✧ لو تحدثنا عن ترجمتك الصادرة مؤخراً عن متحف اللوفر؟

عندما اتصلت بي إدارة دار "سكالا" لنشر الكتب الفنية في لندن، واقترحت علي ترجمة هذا الكتاب، استمهلتهم يومين لأطلع على مضامينه، وأتبين مدى قدرتي على ترجمته على النحو الذي أحب، لاسيما أن الوقت الممنوح للفراغ من الترجمة كان ضيقاً جداً، بحكم وجوب أن يتزامن صدور الكتاب في نسخه الثلاث الفرنسية والعربية والإنجليزية مع تنظيم معرض متحف اللوفر، المتمحور حول الموضوع نفسه "التجريد وفن الخط: نحو لغة عالمية". ولكن ما إن اطلعت على فهرس مواد الكتاب، وبدأت أقرأ بنهم صفحاته الأولى حتى أيقنت بأنني مقدم على تجربة ترجمية ممتعة جداً. وكذلك كان الأمر فعلاً.

فرغم أن العمل من الناحية الفنية التقنية لم يكن سهلاً؛ إذ تطلبت مني الترجمة أن أحيط إحاطة عميقة ودقيقة بمسائل فنية تتصل بالرسم التجريدي وفن الخط، وأن أتأنى في ترجمة المصطلحات الفنية، وأتبين الفويرقات الدقيقة بين مفاهيم متداخلة أحياناً، رغم ذلك؛ فإني أقبلت على العمل بكل حماس وشغف، ووجدتني أسبح في بحر تقاسمت شطآنَه أمواج أحبّها، وأمضيت سنوات طويلة من عمري أخوض غمارها، وهي: الرسم، والتاريخ، والحضارة، والأدب. لديّ مطلب أساسي من كل تجربة ترجمية أقوم بها وهو أن تنمّي معرفتي، وتملأ كياني الروحي، وقد تحقق هذا بشكل كبير بل أكثر مما كنت أتوقع، فقد غصت في عوالم الحرف العربي، وفن الخط في الصين واليابان، ومرجعيات المدارس التجريدية الغربية، ومناحي معرفية وفكرية أخرى كثيرة جداً.

هذه المتعة اكتملت بعد أن صدر الكتاب، وانتظم معرض اللوفر أبو ظبي، بالتعاون مع وكالة متاحف فرنسا ومركز بومبيدو، فعندما زرت المعرض في متحف اللوفر أبو ظبي، ملأني شعور نادر قل نظيره من الفرح والفخر، وأنا أرى النص العربي الذي ترجمته معلقاً على جدران المتحف إلى جانب النصين الفرنسي والإنجليزي في إخراج فني باهر.

✦ ألا ترى أن فعل الترجمة يقوم على ذاتية المترجم في الاختيار دون الأخذ بعين الاعتبار القارئ المتقبّل، فكيف في رأيك تحصل الفائدة؟

لا أوافقك الرأي تماماً، فالترجمة شأنها شأن الإبداع مجال للتداخل الجدلي بين المترجم والقارئ، وميول القراء التي تسود في فترة مّا توجه المترجمين، ودور النشر والمؤسسات المهتمة بالترجمة، كما أن اختيارات المترجمين يمكنها أن تؤثر تأثيراً فاعلاً في ميول القراء. اليوم مثلاً ثمة إقبال كبير على ترجمة أدب أمريكا اللاتينية، وفي ذلك استجابة كبيرة لتعطش القارئ العربي اليوم لهذا الأدب، وفي المقابل أثرت الترجمات العربية لأشعار إليوت وبابلو نيرودا خلال الستينيات في اكتشاف القارئ العربي للشعر الحديث. فالمسألة عملية تأثر وتأثير. هذا عن الترجمة الإبداعية، أما الترجمة الفكرية فدور القارئ يبدو لي واضحاً جداً. ففي أغلب الأحيان تأتي الترجمات الفكرية صدى لما يهيمن على المجتمع من قضايا فكرية وحضارية تشغل القراء، ويستجيب لها المترجمون وهم في أصلهم قراء أيضاً.

✧ عندما يوظّف المترجم مرجعايته المعرفية في النص المترجم ألا يكون بذلك قد أخضعه إلى كتابة ثانية وغيّر من هويته الأصلية؟

أنت الآن تفتحين أخطر أبواب الترجمة وأكثرها حرجاً؛ إنه الصراط المستقيم الذي يجب على المترجم أن يسير عليه بمهارة وأمان، فيصل إلى مبتغاه دون أن يسقط من أحد جانبي ذلك الصراط. هذا السؤال يحيلنا على مسألة أمانة المترجم وإدراكه المدى الذي يستطيع أن يصل إليه في التصرّف في النص الأصلي، والحدود التي ينبغي عليه أن يقف عندها فلا يجاوزها. هو ميزان على المترجم أن يعرف كيف يستعمله. فمن الضروري جداً أن تكون للمترجم ثقافة عالية ومعرفة دقيقة بالمجال المعرفي الذي يتنزل فيه الكتاب الأصلي، وهذا سلاح يفيده في الترجمة ولا شك، ولكن في الوقت نفسه على المترجم ألا يفتك موقع المؤلف فيصير مؤلفاً ثانياً للكتاب، وقد يجره ذلك إلى تحريف النص الأصلي. فحتى لو وجدت في النص أخطاء معرفية لا شك فيها، فليس من حق المترجم أن يقتحم حرم النص ويصلح ما كان متأكداً من خطئه، بل عليه أن ينقل النص كما هو، ويمكنه في الهامش الإشارة إلى الخطأ.

والأمر نفسه أقوله على الدرجة الإبداعية في الترجمة في ما يخص النصوص الإبداعية، فرغم أنني من أنصار الإبداع في الترجمة إلا أنني في الوقت نفسه لا أبيح لنفسي أن أجعل إبداعي وكأنه إنشاء من الفراغ، فالأمانة عندي أن أكافئ الإبداع في النص الأصلي بإبداع من عندي ولكن دون أن أمحو النص الأصلي، أو أتجاوزه. وهذه هي المعادلة الصعبة فعلاً.

✦ تشهد تونس حركية في عملية الترجمة وأغلبها موجهة إلى التعريب بما يعرّف بالأدب الأجنبي على حساب الأدب التونسي، فما فائدة أن نضيء على الغير؟

ولكن هذا جيد أن تتطور حركة الترجمة عندنا، وننقل من الآداب الأخرى وليت هذا يتدعم أكثر وأكثر، وليست القضية قضية أن "نضيء على الغير" فالاستفادة هي لنا ولا شك. طبعاً أقاسمك الحزن على أنّ أدبنا لا يترجم وليت ترجمتنا للغير وازتها ترجمة الغير لنا، ولكن ليس العيب في ذلك عيب حركة الترجمة وحدها، بل المسؤولية تعود إلى أطراف كثيرين، وتتداخل فيها عوامل متعددة بعضها ثقافي، وبعضها حضاري، وبعضها علمي...

وقد جربنا في معهد تونس للترجمة أن نترجم بأنفسنا نصوصاً تونسية شعراً ونثراً، وظننا أننا بذلك نختصر الطريق ونوصل أدبنا إلى الآخر، وقد صدرت عناوين عديدة في هذا السياق وبلغات متعددة ولكن النتائج كانت مخيبة للآمال، فلم ننجح في إيصال هذه الترجمات للآخر ولم تثمر تفاعلاً أدبياً وثقافياً ذا بال. لهذا فمن أجل أن ننجح في ترجمة أنفسنا علينا أن نثير أوّلا رغبة الآخر في التعرف إلينا، ومثلما وجدنا نحن حاجة ضرورية لترجمة أدبه، عليه هو أيضاً أن يجد حاجة ليترجم نصوصنا. وللوصول إلى هذه المرحلة يلزمنا خطة استراتيجية متعددة الجوانب، تساهم فيها مؤسسات الدولة الثقافية والدبلوماسية والجامعية والإعلامية.

ورغم تحسن وضع الترجمة في السنوات الأخيرة، فما زلنا سواء في تونس أو العالم العربي لا نترجم بالقدر الكافي، الذي يسمح لنا بالاستفادة من منجزات الأمم الأخرى في مختلف مجالات المعرفة والعلوم، وما زالت ترجمة كتبنا للآخر ضعيفة جداً لا تذكر البتة إزاء ما يترجم من اللغات الأخرى. والنقطة السلبية الخطيرة الأخرى هي أن ما نترجمه يكاد لا يخرج من المجال الأدبي وأحياناً مجال العلوم الإنسانية، وفي المقابل نكاد لا نلتفت إلى الكتب العلمية.

✧ إلى جانب الترجمة، أنت قاص وروائي وأستاذ أدب حديث، ومناهج النقد الأدبي بالجامعة، ومحكّم بلجان جوائز تونسية وعربية، كيف تُدير هذا التعدّد؟

إنها محاور متقاطعة تتجاذبني كلها في وقت واحد، وأجد نفسي ملزماً تجاه كل شخصية منها بواجبات مّا من حيث الوقت، والجهد، والتركيز والإخلاص. على أني أحاول أن أسرق من كل شخص فيّ بعض الفضائل أمنحها للشخص الآخر: فأستحضر صفة الناقد وأنا أكتب النص السردي الإبداعي، وأعتمد وأنا أترجم على حس المبدع وطموحه إلى كتابة الأفضل على الإطلاق، لكن أعوّل كثيراً في الوقت نفسه على حرص الأستاذ الجامعي ودقته وصرامته في مسألة الأمانة العلمية، وأمارس عملي الأكاديمي البيداغوجي مستلهماً في تعاملي مع طلبتي روح المبدع الفنان.

إن طموحي دائماً هو معانقة الإبداع أينما طلب.. فالترجمة عندي رافد أساسي من روافد الإبداع، وكلما خضت تجربة ترجمية جديدة جعلت همي الأول أن أبدع نصاً جديداً لي تماماً، مثلما أفعل في كتاباتي السردية والنقدية. لذلك ففي أغلب الحالات أنا الذي يقترح الكتاب الذي "أشتهي" ترجمته على الجهات التي أتعاون معها. وتحكيم المسابقات الأدبية هو الآخر تجربة نقدية بأتم معنى الكلمة، ومسؤولية للدفاع عن النصوص الجيدة، والعمل على اكتشاف الأصوات الجديدة.

✦ هل نجح الأدب التونسي على تنوعه وغزارته في تشكيل الوعي العام وطرح القضايا الحارقة في زمن تعددت فيه الأعطاب والأمراض الاجتماعية؟

أعادني هذا السؤال إلى ثلاثين سنة مضت، إلى الشاب الطوباوي الذي كنته وقد أقبل على الكتابة والنشر حاملاً هموم مجتمعه، حالماً بأن يغير العالم بالكتابة. ومع ذلك أقول اليوم بموضوعية الكهل: أجل إنّ الأدب يستطيع تغيير العالم وبإمكانه أن يعيد تشكيل الوعي الفردي والجمعي. ويكفي أن نتأمل الأحداث التاريخية الكبرى التي مثلت منعطفات حاسمة في الوجود الإنساني، فسنرى أن الأدب والفكر قد مهدا لها وأجّجا نيرانها. لكن هذا اليقين لا يسمح لي رغم كل شيء بأن أجيب عن سؤالك إجابة واضحة جازمة، فهذا يستوجب دراسة عميقة متأنية تستطيع أن تتتبع خيوط الترابط والاتصال بين البنية الثقافية والبنية الاجتماعية. زد على ذلك أن تأثير الأدب والفن عامة تأثير بطيء غير مباشر، يأخذ أشكالاً وألواناً لا حصر لها.

✧ في رأيك، من وراء هدم تمثال الكاتب النموذج أو القدوة؟

 نحن في عصر يقوم على قتل الأب، ورفض المرجعيات، والتغيير المستمر لكل ما هو قائم من أذواق وأفكار، بل حتى المبادئ والثوابت نفسها صارت لا تنجو من حمّى التغيير. لهذا تراجع هذا الكاتب النموذج وعوضه أشخاص آخرون هم أنفسهم ليسوا بمنجاة من التهميش والسقوط في النسيان. لذلك فأنا لست ممن يقولون بفكرة الكاتب المصلح والمنقذ والقدوة. بل أعتقد أن دور الكاتب في المقام الأول هو أن يكتب أدباً جيداً، وأن يسهم في خدمة مواطنيه ويفتح أمامهم آفاقاً جمالية وتخييلية جديدة رحبة، تساعدهم على أن يزدادوا معرفة بأنفسهم وقدرة على الإيمان بأحلامهم ومواجهة حيواتهم الشخصية في أفراحها وأتراحها. أما الكاتب المصلح والرسول والقائد والزعيم، فقد عصفت به التحولات الاجتماعية والحضارية والتواصلية الهائلة، وما عاد بإمكانه أن يثمر إلا نصوصاً تعليمية وعظية رديئة. زراعة الجمال وإخصاب التخييل، هما في رأيي الوظيفة الأولى والخالدة للكاتب.

 

✦ تعيش تجربة التدريس بجامعة زايد بالإمارات العربية المتحدة مثل عديد الأساتذة في مختلف الاختصاصات، هل من أمل في إصلاح البيئة الثقافية والعلمية والبحثية في تونس؟

يبدو لي أن في سؤالك نبرة من التشاؤم تجعله أقرب ما يكون إلى سؤال إنكاري، فإذا كان إحساسي محقاً، فلك الحق في هذا التشاؤم. فللأسف نحن بعيدون الآن عن مرحلة أساسية أولية لا يمكن أن يكون إصلاح دونها، وهي مرحلة الوعي برداءة بيئتنا العلمية والثقافية. فيجب أن نقف عند هذه المرحلة ونقوّي الوعي بما نعيشه من سلبيات حتى نخرج من الألفة التي نقيمها الآن مع الوضع القائم، والتي جعلتنا نستمرئ الحاضر ونشعر واعين أو لا واعين بأنه هو الممكن الوحيد. حين نمتلئ بهذا الوعي يمكن أن نشرع في التفكير الجدي في الإصلاح وحينها سيتولد الأمل. ولكن ليتحقق هذا لا بُدّ من أعمال جبارة من حيث التفكير والتشاور مع المختصين والتخطيط ورصد الإمكانات، وتحفيز الهمم والاطلاع على التجارب القريبة منا والبعيدة.

أرجو أن لا يكون جوابي قد زادك تشاؤماً ولكن هذه هي الحقيقة، أقولها بكل أسى وألم. وربما ما كان لي أن أقول لك ما قلت، لولا أن أتيح لي أن أُهاجر وأعمل في جامعة خارج تونس، وأحتك بأكاديميين عرباً ومن غير عرب، وأتمرس بآليات حديثة في البحث والتدريس. لن أضيف جديداً حين أقول: إن في تونس كفاءات علمية مشهود لها عالمياً في مختلف ميادين المعرفة، ولكن البيئة والعقلية والميكانزمات هي المعطوبة، وإصلاحها لا يكون بالنية الطيبة ورفع الشعارات، بل بالعمل والخيال ومعرفة العالم وحسن الربط بين العلمي والثقافي والاقتصادي.

 

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها