نيتشه وسؤال السعادة: العَوْدُ الأبدي وحُبُّ القَدَر

ترجمة: خالد المنجاوي

تأليف: إتيان بينا

 

يُعد نيتشه المفكِّر الذي تصوَّر، بحق، السعادة باعتبارها تصالحاً مع الشَّقاء. ينتمي الشقاء إلى الحياة، وهذه الأخيرة هي مزيج من جوانب أكثر تعقيداً وقساوة، مثل المعاناة والموت. ولكي يكون المرء سعيداً، ينبغي عليه أن يَتَعلَّم كيف يُحِبُّ الحياة كما هي، في كل مظاهرها، أي أن يحبها في اللحظة التي تُوَفِّرُ له فيها الراحة والرفاهية والمتعة، وأيضاً في اللحظة التي تكون فيها الحياة أكثر سوءاً وقساوة؛ هذا الموقف المُقبل على الحياة يسميه نيتشه Ja sagen، أي "قول نعم" «dire oui». السعادة تعني إذن تَقَبُّل الحياة في كليتها، أي أنه ينبغي علينا أن نُحِبَّ القدر، وهو ما يُسمى في اللغة اللاتينية بـ"amor fati".

ينبغي أن نُحِب الحياة كما نُحِب الموسيقى، ذلك أننا لا نحب موسيقى ما فقط لكونها تثير فينا إحساساً بالفرح والبهجة، بل إننا نحب أيضاً لحظة "الشجن" adagio فيها، اللحظة التي يتنافر فيها اللَّحْنُ، وكذا لحظات الاشتداد؛ لأن هذه كُلُّها أجزاءٌ تُجَسِّدُ جمال العمل؛ فإذا ما كان العمل الموسيقي متجانساً كله، فإنه لن يبعث فينا إلا الملل، وبالمقابل، فإنه إذا كان نشازاً كله، فإنه لن يكون إلا عذاباً للأسماع. وفي الواقع، فإن جمالية أي موسيقى تكمن في الانسجام الذي يحقق جمعاً بين العنصرين (التجانس والنشاز)، تماماً كما أن الحكمة لا تأتي إلا باجتماع عنصري السعادة والشقاء.
إننا حين نسمع موسيقى القُدَّاس Requiem لموزار Mozart، فإننا نلاقي أسى الموت، بما أن الأمر يتعلق بموسيقى تُصوِّر مراسيم التأبين (القُدَّاس= الراحة الأبدية)، غير أن هذه اللقيا لا تمنعنا من الاستمتاع بجمالية هذا المقطع الموسيقي والابتهاج به.

الحياة على الحقيقة شيء أَشْبَهُ بِلَحنٍ موسيقي أو بلازمة Refrain، ما تَفْتَأُ تُعِيدُ نفسها على الدوام، وأنه من اللاَّزم أن نُحِبَّ سماعها وأن نترنَّم بها كل مرة من جديد دون كلل وإلى الأبد. هذا التكرار الذي نستعيد به هذا اللحن، هو الذي يَحْمِلُ عند نيتشه اسم "العود الأبدي"، حيث كل شيء يعود لكي يُكرِّر ذاته وإلى الأبد.
هل يُعدُّ هذا الأمر صحيحاً؟ إننا لا نملك الجواب، بيد أن هذا يُمَثِّلُ مذهباً، اعتقاداً ندرك باعتماده درجة حبنا للحياة. فإذا كنا مغتبطين بأن نحيا، وكانت هذه الغبطة حقيقية، فإنه يتوجب علينا أن نرغب، وإلى الأبد، في أن نعيش كل لحظة من لحظات حياتنا، كما لو أنها المرة الأولى التي نعيشها، حتى وإن تعلَّق الأمر بأشَدِّ اللحظات إيلاماً لنا.

لِنُوضِّح هذه الأمور أكثر: إن حب القدر amor fati عبارة عن حُبّ Amour، وبالتالي فإن الأمر هنا لا يتعلق بالاستسلام للقدر بمرارة، ولا بتحمُّل أعباء الحياة، أو الصبر على المعاناة؛ بل إن الأمر يتعلق بالرغبة في معانقة القدر وحُبِّه بكل قواه، أن نقول له نعم وأن نستمتع به. إنه قبول مَرِحٌ يُعانق ما هو موجود، بما في ذلك كل ما هو مؤلم في الحياة، كالمعاناة والموت. يتعارض حب القدر إذن مع كل أشكال العزاء، وبصفة خاصة العزاء الديني الذي يقوم على التطلع إلى حياة أفضل بعد الموت.

إن حب ما هو موجود له بُعد استطيقي أيضاً، فأن نحب يعني أن نجد ما نُحِبُّه جميلاً، مثلما أن حُبَّ شخص ما يعني أننا نَجِدُه جميلاً. وبالمثل، فإن حب الحياة يعني الاستمتاع بجمالها.

يقول نيتشه في الفقرة 276 من كتابه "العلم المرح" Le Gai savoir: "أرغب دائماً في أن أتعلم أكثر كيف أرى الجمال في الضرورة التي تحكم الأشياء: هكذا سأكون واحداً من أولئك الذين يضفون الجمال على الأشياء. حب القدر amor fati: سيكون حبي الوحيد من الآن فصاعداً... أرغب أيضاً، وفي كل الظروف، ألا أكون سوى رجل يقول نعم [للقدر]".
يرتبط حب القدر بفكرة العود الأبدي ارتباطاً وثيقاً، ذلك أن الاعتقاد في العود الأبدي هو في حدِّ ذاته تأكيد وقبول أسمى بما هو موجود، أي تأكيد للضرورة وتَقَبُّلها، بما أن الاعتقاد في العود الأبدي يقوم أساساً على رغبة المرء في أن يعيش من جديد، وإلى ما لا نهاية، لحظات حياته، وأن يرغب في أن يَسْتَعِيدَ فيها كل شيء من جديد. بهذا المعنى، فإن العود الأبدي هو الاعتقاد الذي يجعل حُبَّ القدر ممكناً.

يقول نيتشه في كتابه "هذا هو الإنسان" Ecce homo، وتحديداً الشذرة الثانية من الباب المعنون بـ"مولد التراجيديا" «Naissance de la tragédie»: "هناك صيغة قبول من طراز عالٍ، صيغة تتولد عن الامتلاء والوفرة، إنها تلك الـ"نعم" التي تُقال، ودون تَحَفُّظ، في وجه الحياة والألم والذنب أيضاً، وتُرفع في وجه كُلِّ ما يُزعجنا ويخلق أمامنا العقبات في الحياة".
ويقول أيضاً في الشذرة العاشرة من هذا الكتاب، وتحديداً الباب المعنون بـ"لِمَ أنا على هذا القدر من الذكاء"1 «Pourquoi j’en sais si long»: "إن الصيغة التي أقترحها، والتي تُجسِّد ما هو عظيم في الإنسان، هي حُبُّ القدرِ: ألاَّ يرغب المرء في شيء آخر سوى ما هو موجود، سواء أكان هذا الشيء في المستقبل أو في الماضي أو حتى في الأزمنة البعيدة؛ وألا يكتفي فقط بمكابدة ما هو حتمي، أو العمل على إخفائه، وهو ما سيكون أقبح... بل ينبغي أن يُحِبَّه".

أما في كتابه "ما وراء الخير والشر" «Par-delà bien et mal»، وتحديداً في الشذرة 56، فيقول نيتشه: "إن النموذج الأمثل للإنسان الأكثر مرحاً، المُفْعَمِ بالحياة، هو ذاك الذي يقول بِفَخرٍ نعم للحياة، ذاك الذي لا يستسلم بسهولة لما يحدث ولما يوجد، ولا يكتفي فقط بتعلم كيفية تحمُّل هذا الذي يقع؛ بل يرغب، وعلى النقيض من ذلك، في عودته من جديد وإلى الأبد، على النحو الذي حَدَثَ به في الماضي ويَحْدُثُ به الآن، صارخاً بقوة وشوق: لِنعد من جديد Da capo".

"Da capo" في اللغة الإيطالية عبارة موسيقية تعني أن نعيد من جديد عزف القطعة الموسيقية من البداية، وهذا ما يُعزِّزُ الاستعارة الموسيقية [التي ذكرناها آنفاً]: ينبغي أن نكون قادرين على الاستمتاع بالحياة بنفس الكيفية التي نستمتع بها بالموسيقى، عندما نَرْغَبُ ونحب سماعها من جديد وإلى ما لا نهاية.
ما مصدر هذه الفكرة التي تقول بالعود الأبدي للحياة وتكرارها؟ إنها عقيدة كوسمولوجية نجدها في العصور القديمة، عند مجموعة من الفلاسفة اليونانيين، وتحديداً الفلاسفة الذين ينتمون إلى المدرسة الرواقية. هكذا يستعيد نيتشه هذه العقيدة كي يشحنها بمعنى جديد، ويجعل منها ما يشبه الامتحان الذي يضع فيه كل واحد نفسه أمام تحدّ ينبغي مواجهته: إلى أي حدٍّ نُحِبُّ الحياة؟ هل نحن على استعداد كي نريد عودة الحياة، بتفاصيلها كُلِّها، مرة أخرى؟

هناك نص أساسي وبديع يشرح هذه النقطة، ويتعلق الأمر بالشذرة 341 من كتاب نيتشه "العلم المرح":
العبء الأكثر ثِقلاً: تخيَّل أن شيطاناً تسلَّل إليك خِلسة، ذات يوم أو ليلة، وأنت في عُزلتِك التَّامة، ليقول لك: "إن هذه الحياة التي عِشْتَها، ستعيشُها من جديدٍ كما عِشْتَها من قَبْلُ تماماً، وإنك سَتُكَرِّرُ عَيْشَكَ لها إلى الأبد؛ وليكن في علمك، أن هذه الحياة التي ستعيشها من جديد لن تنطوي على شيء جديد، بل العكس، سيعود كل شيء كما كان في السابق، الألم والمتعة والأفكار وزفرات الحزن، وكل ما لا يقبل الوصف في حياتك، مهما علا شأنه أو صغُرَ، كل هذا سيتعاقب بنفس الوتيرة والتسلسل؛ ستعود أيضاً شباك العنكبوت هذه، وضوء القمر الساطع الذي يخترق الأشجار، ستعود هذه اللحظة أيضاً، وسأعود أنا. إن الساعة الرملية الأبدية للوجود، ومعها أنت، ما تفتأ تُقلَبُ وتُعاد، مُعيدة نفس السيرورة لحظة بلحظة". ألن تَسْتَبِدَّ بِكَ حينها رَعْشَةٌ فتسقط إلى الأرض وأسنانك تصطك وأنت تَصِيحُ وتَلْعَنُ الشيطان الذي وَسْوَسَ لك بهذا؟ أم أنك ستعيش لحظة رائعة ستجيب فيها هذا الشيطان إجابة تقول: "إنك إله، وما سمعت شيئاً أكثر ألوهية من هذا قطّ". إذا سيطرت عليك هذه الفكرة، فإنها ستُحَوِّلُكَ بالكادِ كُلِّية، وربما ستُحَطِّمُكَ أيضاً؛ هكذا فإن السؤال الذي يكون عليك طَرْحُه في هذا الأمر كَمَا في كل الأمور: "هل ترغب في أن تُعيد هذه التجربة مَرَّاتٍ ومَرَّات وإلى الأبد؟" هكذا فإنك ستضع عن كاهلك هذا العبء الثَّقيل. وكم ينبغي عليك أن تُحِبَّ ذاتَكَ وتُحِبَّ الحياةَ حتى لا تَطْمَحَ في شيءٍ آخر غير القبول بهذا الأمر، وأن تضع هذا الختم النهائي والأبدي؟
إن عنوان هذا القول المأثور يُوضِّح أنه يتعلق بِفِكرة هي الأكثر إحراجاً وصعوبة وحِدَّة، إنه تحدٍّ يُوَاجه به نيتشه قارِءَه دون مواربة، لكي يدفعه إلى البحث عمَّا هو أكثر حميمية فيه.

تقتضي منا هذه الفكرة أن نرغب في أن نعيش، وإلى الأبد، اللحظات الأكثر مرحاً، تماماً كتلك الأشَدِّ قساوة وألماً؛ أن نُحِبَّها بِشَغَفٍ وأن نستمتع بها. إن متعة العيش تكمن في أن يكون المَرْءُ قادراً على الاستمتاع بالمعاناة والألم والفناء، أن يقول نعم للحياة، لما هو بديع فيها ولما هو أكثر قبحاً أيضاً. يتعلق الأمر إذن بالفكرة الأكثر قساوة وثِقلا على النفس، لأنها تتطلب من كل ذات أن تكون على قدر مسؤوليتها: فليس هناك أيُّ خلاص أو توبة ممكنة. هكذا فإن مسؤوليتي لا نهائية وأبدية، لأن كل ما أقوم به أُعِيدُ تِكْرَارَهُ من جديدٍ إلى ما لا نهاية، دون أن تكون هناك إمكانية للعودة إلى الوراء من أجل تغيير سلوكي. إنه أمر لا رجعة فيه: كُلُّ فِعلٍ من أفعالي، وكل اختيار من اختياراتي، أتحمَّل مسؤوليته كاملة، لأنه سَيَحْدُثُ دائماً ولأنه سَبَقَ وأن حَدَثَ في الماضي مرَّات عِدَّة، حتى وإن كُنت لا أتذكَّرُهُ؛ ولأنه في كل بداية جديدة، أنسى أنني عِشْتُ هذه الحياة من قبل. إنّ ما أعيشه، سبق وأن عِشْتُهُ من قبل مرَّاتٍ لا حصرَ لها، وسأَعيشُه مرة أخرى وسَأُكَرِّرُ هذا إلى ما لا نهاية دون أن تكون لي قُدْرَةٌ على أن أُغَيِّرَ فيهِ شيئاً.
إن فكرة كهذه تُلزِمنا بأن نكون سُعَداء في هذه الحياة، وأن نكون فرحين هنا والآن؛ لأنه إذا كنتُ اليوم تعيساً، فإنني سأكون تعيساً مرة أخرى وإلى ما لا نهاية، حين سيكون من اللازم عليَّ أن أعيش هذا اليوم من جديد. ينبغي إذن أن نُحِبَّ القدر، وأن نحب الحياة في كُلِّ مظاهرها، لكي يتسنى لنا أن نعيش من جديد، وإلى الأبد، هذه السعادة التي عِشناها اليوم. ولأنني كنت اليوم سعيداً، هنا والآن، رغم أن الحياة قاسية، فإنني سأكسب سعادة أبدية، تتكرَّرُ دوماً وباستمرارٍ.
إن الاعتقاد في العود الأبدي يُبَدِّدُ كُلَّ تطلُّع إلى حياة بعد الموت يُفترَض أنها مختلفة عن حياتنا، ويبدد كل تطلع إلى تفكير يُبرِّرُ قساوة الحاضر، بدعوته إلى ضرورة الانتظار، لأن كل شيء سيكون فيما بعد على أحسن حالٍ. الأمر ليس كذلك [من منظور نيتشه]: ما ستعيشه فيما بعد، هو بالضرورة ما عشته من قبل. هكذا ينبغي أن نعيش حياتنا بسعادة، هنا والآن، أيّاَ كان ما سيحدث؛ وأنه لا سعادة أخرى ممكنة خارج هذا الإطار، لأننا محكوم علينا أن نعيش من جديد هذه اللحظة التي نعيشها الآن.

هكذا يدفعنا نيتشه بقوة إلى التحلّي بقدرٍ كبير من الشجاعة، وألا نَظَلَّ مكتوفي الأيدي ونحن ننتظر ما سَتَهبُه لنا الحياة، بل ينبغي أن نخلق سعادتنا بأنفسنا مهما كانت الظروف. ينبغي أن يُحِبَّ المَرْءُ الموت بدل أن يَيْأَسَ منه، لأنه سيكون مُلْزماً أن يموت مرَّات ومرَّات؛ ينبغي أن يُحب طفولته، لأنه سيعيد تكرارها من جديد؛ ينبغي أن يحب فترة شبابه وشيخوخته، وكل ما عاشه، لأنه سيعيد تكرار كل هذه اللحظات. وإذا وقع أَحَدُكُم في تجربة حُبٍّ فاشلة، فسيلزمه أن يُحِبَّها، لأنه سيتوجب عليه أن يعيشها من جديد وإلى الأبد.

لنُذكِّر بهذا الجزء من الشذرة التي نُشِرَت، ومعها شذرات كتاب "هذا هو الإنسان"، بعد وفاة نيتشه: "إن السؤال الذي يكون عليك طَرْحُه في هذا الأمر كَمَا في كل الأمور: "هل ترغب في أن تُعيد هذه التجربة مَرَّاتٍ ومَرَّات وإلى الأبد؟" هكذا فإنك ستضع عن كاهلك هذا العبء الثَّقيل. اخْتَرِ الحياة التي سَتَتَشَوَّقُ إلى عيشها من جديد وإلى تكرارها، وفي كل مرة تتصرف فيها بكيفية ما، قُلْ، في قرارة نفسك، أن ما أفعله الآن، سأفعله مرة أخرى وبصورة أبدية.

هذا المذهب، أعلن عنه نيتشه عن طريق رسوله زرادشت، في تحفته الرائعة: هكذا تكلَّم زرادشت Ainsi parlait Zarathoustra.


1. نشير هنا إلى أن صاحب المقال قد وقع في خطأ غير مقصود، حيث أحال على هذا النص بكيفية خاطئة، إذ اعتبر أنه يندرج ضمن الشذرة العاشرة من كتاب هذا هو الإنسان Ecce homo لنيتشه، وتحديداً الباب الذي يحمل عنوان: "لماذا أنا على درجة كبيرة من الحكمة" «Pourquoi je suis si avisé»، والحال أنه يقع في الشذرة العاشرة من الباب المعنون بـ"لِمَ أنا على هذا القدر من الذكاء"Pourquoi j’en sais si long ؛ لذلك ارتأينا تصويب هذا الخطأ وعدم الإبقاء عليه في ترجمتنا.
إتيان بينا Etienne Pinat: أستاذ فلسفة مبرز، جامعة باريس-السوربون، له مجموعة من الدراسات من بينها:
Heidegger et Kierkegaard - la résolution et l’éthique.
Les deux morts de Maurice Blanchot, une phénoménologie.
هذا النص ترجمة لمقال:  Nietzsche et la question du bonheur: éternel retour et amor fati
رابط مباشر لتحميل النص الأصلي: http://etiennepinat.free.fr/Nietzscheetlaquestiondubonheur.pdf 

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها