دمج التاريخ في مجال العلوم والتكنولوجيا

كيف ننجح في إعداد مفكرين ناقدين؟

ترجمة: نعيم حيماد

بقلم: آينيسا راميريز Ainissa Ramirez

 

غالباً ما ينتاب القلقُ عدداً من مُدرّسي العلوم في الليلة التي تسبق حصة الدرس، لانشغالهم بالبحث عن طرائق تجعل حصّة الغد أكثر تفاعلاً. لكن الأدوات التي تكون في متناول المدرّسين ليست كلها سواء.
ذلك أن بعض المدرّسين يتوفرون على فضاءات صُنْعٍ مزوّدة بطابعات ثلاثية الأبعاد، بينما لا يتوفر عليها البعض الآخر. وبعضهم لديه معلومات علمية وافية، بينما يفتقر إليها آخرون. كما أن بعض المدارس تضم غرف مُعدّات توجد بها قوارير أرلنماير ومجاهر ذات قدرة عالية، لكن الأمر لا ينطبق على كثير من المدارس. ومع أن جميع الطلّاب يحتاجون لأن يصبحوا مفكرين ناقدين، وهو ما يمكن أن يُعزّزه تدريس العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات، فإن تطوير التفكير الناقد لا يتوقف فقط على فضاء صُنْعٍ مميَّز، أو درجة علمية عالية، أو حتى على موارد وفيرة.

يُعدّ إدراج النزْر اليسير من التاريخ في مجال التخصصات الأربعة إحدى الطرائق الجديدة لتعزيز التفكير الناقد. وقد تَوَلّد هذا المجال من الرغبة في محاكاة طريقة عمل الحياة في الواقع، بالدّمج بين التخصّصات الأساسية الأربعة: العلم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات. وهذه التخصصات تعمل معاً، في العالم الواقعي، بانسياب وبقليل من الصخب.

لكن إن كانت رغْبَتُنا هي إعداد الأطفال ليكونوا علماء المستقبل، فنحن بحاجة إلى تزويدهم بمعارف حول الماضي. وحالما نقوم بذلك، نكون خلّصنا التطورات العلمية من الغموض الذي يلُفّها، بكشفنا لحقيقتها التاريخية المخفيّة؛ ونُطلع الطلاب على طريقة اشتغال العلوم على المستوى الواقعي، ولدينا الفرصة لتسليط الضوء على العلماء الذين لم يُكتَب عنهم في التاريخ، وبالتالي نجذب المزيد من الطلّاب إلى عالم العلوم.

قوة قصص العلوم

يُعد سرد قصص علمية، من الوجهة التاريخية، إحدى أفضل الطرائق لنشر العلوم. ذلك أن القصص تبقى راسخة؛ فقد أظهرت الدراسات أنّ البشر شديدو الارتباط بها، وأن المعلومات المستخدمة لربط الاكتشافات العلمية بحكاية آسرة -على سبيل المثال- تساعد الدماغ على اكتساب مفاهيم جديدة. وبهذه الطريقة، تعمل القصص كما تعمل أحزمة التوصيل، إذ تجعل الدروس أكثر إثارة وتنقل على متنها معلومات بالغة الأهمية.

لكن القصص الجيدة يمكن أن تحقق غرضاً آخر أيضاً. فمشاهدة الطلّاب لطريقة تأثير أحد اختراعات الماضي على الحياة الحاضرة، تجعلهم يتعلّمون التفكير بشكل شمولي. فعلى سبيل المثال، إذا أُطلع الطلاب على طريقة تسريع الساعات للحياة، أو على التغيير الذي ألحقته أجهزة الكمبيوتر بطريقة تفكير البشر، يمكنهم حينئذٍ أن يروْا كيف تُشكّل التكنولوجيا الثقافة، أو حتى كيف تُغيّر إحساسَنا بالزّمن. على هذا النحو، تمتد العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات إلى خارج حدودها المعروفة، وتصبح على اتصال في أذهان الطلاب؛ ليس فقط بالتقنيات الأخرى؛ ولكن بجميع التخصّصات وميادين البحث.

كشف النتائج غير المقصودة للاختراعات

لما يربو عن عقد من الزمان، وأنا أبحث عن كتاب يضع الاختراعات في سياقيْها التاريخي والمجتمعي –ليخبرنا بقصص العلوم- ولكن لم يحالفني الحظ كما ينبغي. لقد انتابني قلق شديد جراء غياب هذه المقاربة لرعاية المفكرين الناقدين، إلى درجة أنني قررت تأليف كتاب "كيمياؤنا القديمة" (The Alchemy of Us)، وهو عن الاختراعات وتغييرها للحياة والمجتمع. ولقد تكشّفَتْ في الكتاب حياة جماعة متنوعة من المخترعين غير المعروفين -من القس هانيبال جودوين إلى ربة المنزل بيسي ليتلتون- وسُلِّط الضوء على الطرق العديدة التي غيّرت بهَا تلك الاختراعات العادية حياتنا.

كانت نتائج هذه الاختراعات، في بعض الأحيان مقصودة، وفي كثير من الحالات لم تكن كذلك. على سبيل المثال، سيرى الطلاب أن التلغراف يستخدم الكهرباء لنقل الرسائل لمسافات طويلة وبشكل سريع. لكنهم أيضاً سيدركون نقطة ضعفه: فهو عاجز عن التعامل مع العديد من الرسائل في وقت واحد. لذلك شَجّع مكتب التلغراف العملاء على اختصار رسائلهم. وسرعان ما استخدمت الجرائد التلغراف في غرف الأخبار التابعة لها، وطلب المـُحرّرُون من المراسلينَ الكتابة باقتضاب. كان استخدام الجُمل التصريحية القصيرة أسلوباً تعتمده الجرائد، وهو أسلوب تبنّاه أحد المراسلين الذي استمر في كتابة العديد من الكتب الشهيرة، وكان اسم ذلك المراسل إرنست همنغواي.

ههنا إذن، مثال لطريقة تغيير كل من التكنولوجيا والتلغراف للغة، وإنتاج أحد الأساليب الأدبية الأكثر شهرة في العالم، ويمكن توسيع هذا الدرس حول النتائج المتتالية وغير المتوقعة، ليشمل طريقة تغيير تويتر والرسائل النصية للّغة في الحاضر. فعندما يُدرَج التاريخ في العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات، يتعلّمُ الطلّاب العلوم، لكنهم يتعلَّمون أيضاً أشياء عن تأثير العلوم الأكثر شمولية.

تشكيل المستقبل عن طريق الماضي: تمرين

إحدى الطرائق التي تُمكّننا من بناء مهارات التفكير الناقد؛ هي وضع التكنولوجيا تحت المجهر. اجْعل الطلاب يفكرون في الاختراعات، مثل هواتفهم المحمولة أو الإنستغرام أو الإنترنت، والنظر في طريقة تأثيرها على الحياة على نطاق أوسع. يمكن للطلاب إنشاء قوائم بجميع التغييرات؛ اطلب منهم التفكير؛ ليس فقط في التغييرات التي تمس العالم المادي؛ ولكن أيضاً التغييرات التي تمس الأفكار والمفاهيم الملموسة بدرجة أقل، مثل علم النفس البشري والنظم العقائدية؛ دَعِ الطلاب ينتظمون في مجموعات صغيرة لمناقشة استنتاجاتهم وتشاركها. بدلاً من ذلك، يمكنك إثارة قضية منافية للواقع: اطلب من الطلاب إنشاء جدول زمني لتاريخ أحد الاختراعات، جنباً إلى جنب مع جدولٍ زمنيٍّ ثانٍ كما لو أن هذا الاختراع لم يكن موجوداً على الإطلاق. ماذا يحدث لو لم يُخترع الهاتف الخلوي؟

من الواضح أنه لا توجد إجابات صحيحة أو خاطئة، لكن المهام تَدفعُ طلابك إلى ملاحظة العالم ومواجهته بمزيد من الأسئلة -ومزيد من نزعة الشك- وتُهيّئُ عقولهم للتفكير في الأسباب وتأثيراتها.

وحتى تكون نظرتنا أكثر عمقاً: لنفترض أنك طلبت من طلابك فحص تأثير الإنترنت على الحياة العصرية. لقد غير الإنترنت بالتأكيد الحياة بشكل كبير. فحين نكون حديثي العهد بالإنترنت، يمكن أن نستمع إلى الموسيقى، ونشاهد مقاطع الفيديو، ونحصل على المعلومات، ونتواصل فيما بيننا بسهولة. اجعل طلابك يناقشون في مجموعات الحياة قبل اختراع الإنترنت وبعده، ثم يرسموا رسماً، أو يكتبوا مقالاً قصيراً. يمكنهم الإجابة عن أسئلة كهذه: كيف حصل الناس على أخبارهم؟ كيف سَـمِعوا؛ بعضهم من بعض؟ كيف استمع الناس إلى الموسيقى؟ أين خُزِّنت المعلومات حول الموضوعات المختلفة قبل اختراع الإنترنت؟ قد تكون الخطوة التالية هي إلقاء نظرة على إيجابيات وسلبيات الإنترنت، وتحديداً وسائل التواصل الاجتماعي. هل الاتصال المفرط بيننا يساعدنا أم يؤذينا؟ هل الإنترنت يجمعنا ببعض أم يبعدنا عن بعض؟ هل يجعل الإنترنت العثور على الحقيقة أسهل أم أصعب؟

حالما يُحفَّز الطلّاب ويستعدّون للتفكير في التكنولوجيا بهذه الطريقة، يمكن جعلهم يُـجرّبون الاضطلاع بدور المستقبليين. اطلب منهم البحث عن أجوبة لأسئلة تستفزّ التفكير، من قبيل: إذا كانت وسائل التواصل الاجتماعي تستند إلى "الإعجابات" و"المتابعات"، فما نوع المجتمع الذي سنكُونُه في المستقبل؟ هل سنستمع إلى مشاهير محبوبين لديهم ملايين المتابعين، أم سنُصغي إلى خبراء بعدد أقل من المتابعين؟ هل سيكون من الأسهل نشر معلومات كاذبة؟ يمكن للطلاب بعد ذلك رسم صورة أو كتابة مقال أو إنشاء مقطع فيديو يعكس التأثير المجتمعي للإنترنت، وما سيكون عليه شكل الحياة في المستقبل في ظل الحلول التي اقترحوها أو بدونها.

إشراك مواطني المستقبل

بينما تحظى مهارات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات في ذاتها بأهمية متزايدة في عالمنا الغني بالتكنولوجيا، فإنها أيضاً طريق لإشراك الطلاب كمفكرين ناقدين، بل وكمواطنين مستقبليين. فحين نُقحم العلوم في سياقها الأعم؛ التاريخي والثقافي، يمكننا تذكير الطلّاب بالدور الذي لعبتْه الاختراعات العلمية في تطويرنا للنظم العقائدية الثقافية وحتى الأخلاقية. وبمنح الطلاب مساحة لنقد الاختراعات، فإننا نمنحهم المهارات اللازمة لتشكيل المستقبل.

إن الخطوة الأولى الأساسية، لجعل الأطفال يطرحون أسئلة صعبة، هي تزويدهم بقصص علمية جيّدة. وحالما يصبح الطلّاب أكثر تفاعلاً مع الطريقة التي تجعل العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات جزءاً من نسيج أكبر، سيمتلكون المهارات اللازمة لرؤية العالم بشكل أكثر وضوحاً؛ وأيضاً المنظار الذي يحتاجون إليه للشروع في طرح أسئلة صعبة. وهذه المقاربة تتفق مع حكمة ويليام شكسبير، الذي قال منذ قرون: "الماضي هو تمهيد لما سيأتي". لقد كان محقّاً تماماً، لأننا إذا كنا ملاحِظين فَطِنين، فإن القصص القديمة تُوفّر لنا خريطة جيّدة لما ينتظرنا في المُستقبل.



رابط المقال الأصلي بالإنجليزية
https://www.edutopia.org/article/building-critical-thinkers-combining-stem-history
 

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها