اختفاءُ أُنثى

علياء الحسين

مضى شهرٌ كاملٌ على اختفاءِ أختي (ليلى)، وانعدامِ أيِّ أثرٍ لها حتى كأنَّ الأرضَ انشقّت وابتلعتها، وإنْ ظلّت ذكراها متعلّقةً في ذهنِ أمّي وأبي.. ولكنَّ أمي كانت في حالة انهيارٍ تامٍّ، وكلُّ الذي تردّده "لم أُشبِع ابنتي مِنْ حناني"، وأبي صامتٌ لا يتحدَّثُ... كلُّ هذا مع وجودِ النّاس الذين يحاولون وضعَ الطمأنينةَ في قلوبِهم، رأيْتُ كمْ يحترقُ فؤادُهم على فقدانِ ابنتِهم وهم على اعتقادٍ جازمٍ بأنَّ ليلى قد لقتْ حتفَها وإنْ لم يقم أدنى دليل على ذلك.

وكلّ ما كنت أعرفه أنَّها اختفتْ ذاتَ ليلةٍ وهي راقدةٌ في المستشفى، مغمضة عينيْها مع وجودِ بضعةِ قطراتٍ مِنَ اللؤلؤِ العالقةِ في جفنها تأبى النزول، وكانت هذه آخرَ ليلةٍ أراها فيها، وكلُّ الذي أتذكّره معاملة والدي وما يحدث لها من إهاناتٍ وتجريحٍ ومعاملة كالخادمات، ونداءها بأبشعِ الألفاظِ.. كل هذا لأنها أنثى وليست ذكراً.. نعم، فنحن في الصعيد قليل جدًّا من يتعاملُ مع الفتاةِ على أنَّها إنسانة، وبالمقابل هناك من لا يعترف بمكانة الأنثى وأنَّ لها حقوقًا وواجباتٍ مثل الذكر، ولكنَّ كلَّ تفكيرهم أنَّ الفتاة مركز للمشاكل وجلب العار، مع أنَّ (ليلى) كانت تملك قدرًا وافرًا مِنَ الذّكاءِ، ولكن لا أحدَ ينظر إلى ذكائها، بل ينظرون إلى جمالِها وكيفية الاستفادة منه دون التفكير فيها، ولولا اختفاؤها لكانت في كنفِ رجلٍ شائب يكبرها بواحد وخمسين عامًا متخلية عن تعليمها وكلِّ شيء من أجلِ المالِ..

نعم، فمع إتمام هذه الزيجة سوف تسد جميع الديون التي على أبي، فأبي كان يستلف من هذا وذاك حتى أغرق نفسه في بئر الديون. وفي يومٍ كنت أتمشى أنا وأبي وسط الغيطان وبجانبنا هذا الكهلُ وعلى وجهِهِ ابتسامةُ خبثٍ تصل إلى أُذنيْهِ، ويتحدث مع والدي على موعد سداد الدين، ولكن أبي اعتذر له عن دفع دينه؛ لأنَّه لا يملك المال الكافي ومع ذلك زادت ابتسامة هذا الكهل! وفي ليلةٍ مشئومة فيها غابت أمي عن البلدة؛ فقد ذهبت مع جدتي إلى القاهرة في زيارة قريبتنا المريضة، وبقيت أنا وأبي وليلى في المنزل، وقتها اتصل هذا الكهل بأبي ليذهب إليه، حينها طلب أبي أن أتجهز، والغريب أنَّه طلب ليلى لتذهب معنا -مع العلم أنّها لا تخرج من البيت إلا للدروس- هنا دقت هواجس الخطر بداخلي.. إنَّ وراء هذه الزيارة شيئًا كبيرًا؛ أختي تخرج معنا.. وهذا الكهلُ يدعونا إليه وهو معروف بعدم دعوته للناس في القرية إلا إذا وجد مصيبة ما. ذهبنا إلى منزله سيرًا على الأقدامِ، وعندما وصلنا إلى منزله وجدناه هادئًا وعلى وجهه ابتسامته المعتادة، وبدت هيئته كمَن اتخذ قرارًا في مسألة معينة، وبعد أنْ شربنا العصير اقترح الكهل على والدي أن يشترك معه في مشروع، وقبل أنْ يتحدّث والدي أشهر يده في الهواء وأنزلها قائلًا: "أعلم أنّه توجد عليك ديون كثيرة، ولكن.. ونظر إلى ليلى نظرة يتفحصها، وأكمل: لديك كنز ولا تعرف كيفية استغلاله".

هنا ظهرت علامات الاستفهام على وجهي ووجه أبي، ونطقت:
"ماذا تقصد"؟
الكهل: "أقصد هذا الكنز" قالها وهو يشير إلى ليلى: "أريد أنْ أتزوّجها مقابل سداد جميع الديون التي عليكم، ومشاركتي في مشروعي الجديد".

هنا ابتسم والدي ابتسامةً كبيرةً مما شجع هذا الكهل على الوقوف والتوجه نحو الأريكة التي تجلس عليها ليلى، وجلس بجانبها - كل هذا يحدث أمامي وأمام أبي دون أنْ يتحرّك.. هل لهذه الدرجة المال يذل نفوس الناس؟! لم أحتمل هذا الوضع كثيرًا وتوجهت إلى ليلى وسحبتها من يدها لنخرج، ولكن استوقفني العجوز قائلًا:
"لمَ تتعامل معي هكذا؟ يجب أن تتعامل مع زوج أختك بطريقة أفضل".

وحينما التفت تفاجأت بأبي يقول لي: "أعد أختَك؛ فهي ستصبح زوجته قريبًا.. لا يحق لك أنْ تأخذها دون إذنِه" حينها شعرت كأنَّ الساعة وقفت ولم أفق إلا عندما سمعت أبي وهو يهنئ الكهل، ويتفق معه على ميعاد الفرح، وهنا وجدت ليلى قد سقطت مغشيًّا عليها. نهض أبي والكهل معًا وجاءوا بجانبي وأنا أحملها...

 نطق البغيض - أقصد الكهل: "إلى أين"؟

لم أكلف نفسي عناء الرد عليه وخرجت من البيت، ولكن الذي جعلني أستغرب حقًّا حينما قال والدي: "توقف ولا تذهب بها إلى أي مكان.. اتركها وهي ستفيق وحدها"، ولكني أكملت طريقي إلى أقرب مستشفى، وأدخلتها قسم الطوارئ، فأخذوها مني على الفور، وبعد مرور وقت ليس بكثير خرج الطبيب وعلى وجهة علامات الاستفهام، قائلًا: "هل لك صلة قرابة بها"؟

قلت له: إنّها أختي!

هز رأسه باستياء وأكمل: "أختك تعاني من انهيار تام مما جعلها تدخل في غيبوبة، ومن الواضح أنها لا تريد الاستيقاظ منها بسبب شيء ما لا يجعلها تكمل الحياة، ولكن ما الذي أوصل هذه الطفلة إلى هذه الحالة"؟!

هنا لم أعرف ماذا أقول، كلّ الذي نطقت به: "هل من الممكن أنْ أدخلَ عليها"؟

هزَّ الطبيب رأسه بإيجابٍ وذهب، وبعدها دخلت عليها وجلست جانبها، أمسكت يدها وظللت أحدثها وأقول لها:
"استيقظي.. أنا أريدك معي.. أنا أحبك.. لا يمكن أنْ تتركيني.. استيقظي وأنا سوف أحميك من أيِّ شيء، أنا أعترف أني أخطأت في حقك عندما تركتهم يُهينوكِ".. وبعد أنْ أنهيت حديثي معها ذهبت إلى المنزل فوجدت أبي وهذا الكهل وأمي أيضاً نظرت لهم نظرة تحمل الكثير من الآلام وأردفت:
"ليلى جاءها انهيار تام ودخلت في غيبوبة من الممكن أنْ تفارقَ الحياة، وكل هذا بسببكم.. هيا جهزوا الفرح على شرف موتها سوف تخلصكم من همها إلى الأبد إذا لم تفق"!

ظهرت ملامح الصدمة على وجوهِهم، وهرعوا جميعًا إلى المستشفى وأنا معهم، وأبي ذهب إلى الطبيب لكي يتأكد من كلامي، وأمي دخلت إلى ليلى وهي منهارة من البكاء، وبعد مرورِ كثيرٍ من الوقت جاءت الممرضة تطالب بالمغادرة لانتهاء مواعيد الزيارة. عدنا جميعًا إلى المنزل وكل منَّا ذهب إلى غرفته لينام، ولكني لم يغمض لي جفن وليلى في المستشفى. أبدلت ثيابي وذهبت إلى الخارج لحين ميعاد الزيارة حتى أتى الصباح رجعت إلى المنزل لنذهب جمعيًا إلى ليلى، ولكننا تفاجأنا هناك بعدم وجودها، واختفاء كل شيء يخصها حتى عندما تفحصنا كاميرات المراقبة لم نجد لها أثرًا!

مرت عدة أشهر دون أثر لها إلى أنْ فقد جميع مَن في المنزل أملَ رجوعها. أقمنا لها عزاءً كبيرًا، ولبست أمي ثوب الحداد، وفي أحد الأيام كنت جالسًا في الشرفة مع أبي وأمي حينها قالت أمي بصوت حزين: "إلى الآن لم أصدق ما حدث لليلى.. إذا عاد بنا الزمن سأعاملها أحسنَ معاملة وأجعلها ملكة"!
وقال أبي: "نعم.. وأنا لنْ أفرض عليها شيئًا أيًّا كان السبب، إنني تعلمت أنَّ الأبناء قطعة من فؤادنا لا يمكن الاستغناء عنهم".

ابتسمْتُ ابتسامةً عريضة وقلت: "لمَ لا تعلمون قيمة ما بأيديكم قبل أنْ تضيعوه؟ ليلى في أمان وهناك شخص واحد يعلم أين هي"
أبي وأمي بصوت واحد: "مَنْ"؟
ابتسمت وقهقهت: "أنا مَن اختطفها مِنَ المستشفى لتعرفوا قيمتها، واللهُ لا يبتلي أحدًا بالإناث؛ إنّهنّ نعمةٌ مِنْ عندِه "الأنثى هي مَنْ تخلقُ السعادة والخير في المنزل، فالبيت الذي لا توجد به أنثى كالأرضِ البورِ المتعطّشةِ إلى السعادةِ.. تذكروا أنَّ الله كرّمَ المرأةَ وجعلَ الجنة تحت أقدامِها." الحياة قادرة على سحب أحبّتِنا بكلِّ سهولة دون أنْ ندريَ كم نحبهم إلا بعد فراقهم، ونتمنى حينها رجوع الزمن إلى الخلف لنظهر لهم كمَّ المحبة الموجودة داخل أنفسنا.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها