اجْتياح؟!

د. وفاء الحكيم

رغم تيقُنِي من إغلاقِ المنافذ كلِّها، إلا أنَّها نَجَحَتْ في الدخول والبقاء. انتابتني الحيرةُ متسائلةً مِنْ أينَ أَتَتْ؟ وكيف بقِيَتْ؟

كان اجتياحُها مقلقاً مريباً ومثيراً لدهشتي. بَنَتْ لها -على غفلةٍ مني- بيوتاً كثيرةً في أمكنة متفرقةٍ داخل بيتي، رغم إحكام غلقي الأبواب والنوافذ. رحت أُهمهم بداخلي: ربما أتت من كوَّةٍ صغيرةٍ أو انبثقت من ركنٍ مظلمٍ لم أحفلْ به. هكذا أضحت عاملاً مشتركاً بيني وبين الموجودات المبعثرة من حولي: أركان الغرف، خلف قطع الأثاث، بين أرفف المكتبة، خلف الفراغ المعتم للثلاجة، أسقف الردهات وأيضاً حول حافظة القمامة. لكنِّي تجاهلتها تماماً. رحت أمارس حياتي آكلُ، أشربُ، أقرأُ، أهاتفُ، أتناسى، أغضبُ وربما أُشْعِلُ غليونَ ذاكرتي وأَنفثُ الوجودَ كلَّه غير مكترثةٍ لوجودها. ورغم إصراري على التخلص منها إلا أنني لم أجد بداخلي رغبةً مُلحِّةً لاستخدام العنفَ معها..!!

ربما لأنها بَدَتْ أمامي هادئةً ومسالمةً وليس لوجودها ضررٌ يُذْكَرُ إلا إحساساً داخلياً ينتابني بالنفور كلما رأيتها. وبعد إمعان التفكير اخترت لها موتاً هادئاً وبارداً برشَّاتٍ متتاليةٍ من زجاجةِ المبيد التي اشتريتها خصِّيصاً لإزالتها. اختفتْ لأيامٍ ثم ظهرتْ مرةً ثانيةً في بعض الأركان الأخرى. سمعتها مرة تهمس في أذني معاتبةً وأنا بين اليقظة والنوم: مالكِ بي؟ أنا أقبع في إحدى الزوايا لا تسمعين لي همساً فلماذا تستعرضين فرط قوتكِ عَلَيّ؟ اتركيني وانتبهي لمَن يساومونكِ عن بيتِكِ وجسدِكِ، كتبكِ وصخبك، أحلامك وصمتكِ؟

ورغم حجتها القوية لم تفلحْ في أن تضعني في زاوية الطمأنينة إليها وأصبحتْ رغبتي في التخلُّصِ منها أكثر إلحاحاً.

ذات ليلة تذكرتها ورحت أتفحص أمكنتَها الجديدة، مثلما تذكرتُ "يونسَ" الذي هجر الشِّعرَ لأنه برأيهِ عالمٌ محدودٌ من الرُّؤى، وهجرني لأنني حياةٌ مكبَّلةٌ بالأسئلةِ، ودخل عالَمَهَا طوعاً وحبَّاً حتى أصبح شغوفاً بحياتها كلِّها: عالَمِها، أنواعِها، هندسةِ بيوتِها، أنواع شِبَاكِها، حياتها، مماتِها وعنادِها، فهاتفتُه مرتبكةً وسألتُه النَّصيحةَ فقد فشلتُ تماماً في التخلُّص منها رغم ما رَشَشْتُهُ عليها من المبيد الحشري، لكني لم أسمع منه سوى ضحكاتِهِ الفَجَّةِ التي جعلتني أندم كثيراً على مهاتفته! ويوماً صحوتُ على صوت جرس الباب وعندما فتحتُ وجدتُ أمامي كماً هائلاً من الكتب، باقةَ وردٍ بيضاءَ، ومجسماً مطاطياً ضخماً لعنكبوت أسود وبرفقته كارتٌ صغيرٌ بخط يونسَ الرَّدِيء مدسوسٌ بدقةٍ ومكتوبٌ فيه: إنها فلسفة وحياة! وضعتُ الورودَ في إناء الماء، رميتُ الكارت جانباً، فتحتُ أولَ صفحةٍ من أول كتابٍ وقد بَيَّتُ النية أنْ أُعيدَ إلى يونسَ كلَّ هداياهُ مُرْفَقاً بها بعضاً من كلماتي الجارحة. بدأتُ أقرأُ صفحةً تلوَ صفحةٍ وكتاباً بعد كتابٍ قرأتُ عن الأنواع وتعرفتُ على أَشْكَال الشِّباكِ، عرفت الخصال العامة والخاصة، وفهمت كيف تكون التفرقة بين الحيوات والألوان والأحجام.

حين أوغلت في المعرفة اكتشفت عالَماً غيرَ العالَمِ وتدريجياً تحررتُ من وِحدتي وأنانيَّتي ثم نفضْتُ عن كاهلي نزقاً عقيماً أصررتُ عليه يوماً .رحت أدخلُ في نوع وأخرجُ بصفاتٍ وأدخلُ في صفاتٍ فأتيقنُ تماماً من النوع، ثم بدأت أمتحن نفسي فأضع لها الأسئلةَ وأقيِّمُ الإجاباتِ وأحزنُ حالَ الرسوبِ، وأضحكُ وأرقص بَهجَةً للنجاح.. دخل هذا العالمُ أعماقي فكنتُ أُحادث يونسَ بالساعاتِ أسألُهُ عن أحد الأنواعِ أو واحدةٍ من الصفاتِ. كنتُ أبحثُ عنها بجديَّةٍ وأنظرُ إليها مغتبطةً حين أكتشف موضعاً جديداً قد اختبأت فيه وتأكدتُ أن عوالمَهَا قد دخلتني، سكنتني ومن ثَمَّ استوطنتْ أعماقي. وفهمتُ لِمَ عاش يونسُ سنواتِهِ الطويلةِ معهم دون كَلَلٍ أو فتورٍ؟

وأدركتُ بصدق معنى أَنْ تتوحدَ في الموجوداتِ التي لم تُعِرْهَا أبداً أدنى التفاتةٍ. و"تغيَّرتُ كثيراً" هكذا همسَ يونسُ في أذني يوماً على ضوء شموعِ المنضدةِ التي جمعتنا ومع مرورِ الوقتِ، امتزاجُ الصفاتِ، تلاقُحُ الأفكارِ.. ذاب الحدُّ الفاصل بيني وبين كل من حولي. تغيَّرَتْ ملامحي الحادة وكلماتي الموجِعَةُ فأصبحتُ كائناً خُرافياً أكثر هدوءًا ورويَةً، ونظرتُ في المرآة فوجدتُني وقد نبتَتْ لي ثمانيةُ أزواجٍ من الأرجلِ وغَمَقَ لونُ بشرتي بعضَ الشيءِ وأحسستُ أنَّ عيوناً كثيرةً ملأتْ رأسي!! وعُمِّقَتْ تجربتي فتعلَّمْتُ كيف أنسجُ الشِّبَاكَ، وكيف أصنع خيوطَها المطرزةَ الواهيةَ الممتدةَ برفقٍ، واختلفَ كثيراً معنى الَّلمْسِ والبصرِ عندي وفهمتُ كيف تكونُ الرُّؤْيةُ بعدَّةِ عيونٍ، وكيف يكونُ الإبصارُ في أحيانٍ كثيرةٍ بلا عيونٍ؟ وتيقَّنْتُ من جَدوى التفرقةِ، وكيف أكونُ الفريسةَ والصيادَ في آنٍ واحدٍ، وكيف أنسجُ الشِّباكَ الممتدةَ من ذاتي بِتُؤَدَةٍ، وكيف أُوقِعُ الفريسةَ في الشَّرَكِ وكيف أرشُّ السُّمَّ بهدوءٍ وثباتٍ، وكيف ومتى يكون قرارُ القتل حاسماً لا رجعة فيه؟ وتوطَّدَتْ كثيراً علاقتي بيونسَ حَدَّ الإدمانِ، ولم أعدْ أستطيع الاستغناءَ عنه ولا عن عالمه، ووصلت إلى درجةٍ ليس منها رجوع فلبستُ ثوبَ الفريسةِ لشِبَاكِهِ وجعلتُه صيداً لشَرَكِي الممتدِّ على مَهَلٍ. وتزوجنا.. سافرنا لعدة أيام ثم رجعنا عندها قمت بتنظيف البيت جيداً، ووضعتُ ستائرَ جديدةٍ وأصررتُ على قتلِها دَهْسَاً دون هوادةٍ أو ترددٍ وأعلنتُ عدم رغبتي في رؤية واحدة منها ماكثةً في بيتي.

راح يونس يمسك "الزعَّافة" ذاتَ اليَدِ الخشبيةِ المتصلبَةِ يضرب بها الأركان والزوايا الجافةَ والرَّطبَةَ، وكنتُ أقرأ له بصوتٍ عالٍ عن فكرة قتل الذَّكَرِ؛ لأنه عنصرٌ غيرُ فعَّالٍ لبناء البيوت ورعاية الصغار، فيضحك يونس مرتعداً ويكمل نشطاً ما كان قد بدأه. واستعملتُ كلَّ طاقتي للإبقاء على فريستي داخلَ شِباكي أتأمَّلُهَا في كلِّ أحوالها وهي تئنُّ، تصرخُ، تضحكُ، تبكي وتدقُّ على الشَّبابيكِ تحلمُ بالهَرَبِ دونما جدوى، بينما كنتُ أنا مكتظةً برغبة البقاء الغير قابلةٍ للدَّهْسِ أو تقويض الشِّبَاكِ، وكنتُ دائماً مشغولةً في صُنعِ الشَّبَكِ بتمهُّلٍ ورويَّةٍ واحتلال الزوايا المختبئة والمعلنة، وكنتُ كثيراً ما أُطيلُ التَّحديقَ في عَيْنَيْ يونسَ بينما، أُخَطِّطُ في القريبِ العاجلِ لإنجابِ طفلٍ وأَهْمِسُ بدلالٍ في أذنه ضاحكةً: إنها فلسفةٌ وحياةٌ!

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها