فاس حاضرة القرويين

د. عثمان المودن

في وسط المغرب تقع مدينة تمتاز كما ذكر ابن أبي الزرع في كتابه "روض القرطاس" بعذوبة الماء، واعتدال الهواء، وطيب التربة، وحسن الثمرة، وسعة المحرث وعظيم بركته، وقرب المحطب وكثرة عدده وشجره. تلكم هي مدينة فاس المغربية التي أسسها إدريس بن عبد الله سنة 172هـ.
وتشتهر مدينة فاس بين جموع الدارسين بأنها العاصمة العلمية والروحية للمغرب، شأنها في ذلك شأن القيروان وقرطبة وغيرها؛ فقد عرفت بكثرة مراكزها العلمية، وبكثرة العلماء، وبتنوع المعارف التي تروّج بداخلها، وقد ذكر علي الجزنائي صاحب كتاب "جنى زهرة الآس في بناء مدينة فاس" أنّ العلم ينبع من صدور أهلها، كما ينبع الماء من حيطانها؛ بل قيل أيضاً للدلالة على مكانتها العلمية: وُلد العلم في المدينة، ورُبّي في مكّة، وطُحن في مصر، وغُربل في فاس .ولا غرابة في ذلك؛ إذ هي مقرّ جامعة القرويّين، الجامعة التي نهل منها الطلاّب من مختلف بقاع الأرض. كما كانت فاس تضمّ العديد من المدارس العلمية، تجاوزت شهرتها الآفاق، فضلاً عن احتضانها العديد من الأضرحة والزوايا، التي أضفت عليها مكانة روحية بامتياز.

وقد ذكرت كتب التاريخ أن بناء جامع القرويين كان بعدما أتى وفد من القيروان إلى المولى إدريس الذي أنزلهم بعدوة القرويين، وكانت فيهم امرأة مباركة صالحة اسمها فاطمة وتكنى أم القاسم بنت محمد الفهري القيرواني، أتت من إفريقيا مع أختها وزوجها فسكنوا بالقرب من موضع الجامع المذكور، فتوفى زوجها وأختها فورثت منهما مالا جسيماً حلالا طيباً، فأرادت أن تصرفه في وجوه البر وأعمال الخير، فعزمت على بناء مسجد تجد ثوابه في الآخرة، فاشترت موضع القرويين ثم شرعت في حفر أساسه وبنائه وذلك سنة خمس وأربعين ومائتين.

وتعد جامعة القرويين أقدم جامعة استغنت حتى نافست مداخيلها ميزانية الدولة نفسها بما توفرت عليه من جليل العقار، وفسيح الأراضي، حتى إن الدولة كنت تلجأ أحياناً إذا اضطرت إلى مال أوقافها لتسدد به خصاصها، وتغطي به عجزها، ولكثرة ما تعزز جانبها كان الأغنياء من أهل البلاد يضعون في مستودعها أموالهم ونفائسهم.

وجامع القرويين كما صرح المؤرخ المغربي عبد الهادي التازي هو الجامع الوحيد الذي يتوفر على أقدم صومعة لبثت إلى الآن، وعلى نفس التصميم الذي خط لها منذ أحد عشر قرناً، هذه الصومعة التي كانت قدوة لسائر مآذن المدينة الثمانمائة، كما أنه الجامع الوحيد الذي يتوفر على أثرى وأقدم منبر عملت فيه أيدي الفنانين من العلماء الذين كانوا يتابعون دروسهم بين أركان الجامع، منبر تنافس على اعتلائه كبار الشخصيات والعلماء من أجل الخطبة عليه، وهو الجامع الوحيد الذي توفر فيما مضى على خمسة مصادر للماء لتسديد حاجات المرافق طيلة فصول السنة، ولم نعلم عن شبكة للمياه متقنة التخطيط محكمة التوزيع كالتي سمعنا بها عند تزويد القرويين بهذه المادة الحيوية، وحتى في أحلك أيام الجفاف بفاس ظلت القرويين المعقل الوحيد الذي يتوفر على الماء. وجامعة القرويين هي وحدها التي عرفت منذ تاريخ قديم بعادة تنصيب سلطان للطلبة ربيع كل عام؛ يمتطي الجواد الأميري، وترفع فوق رأسه مظلة السلاطين، ويأمر بتأليف حكومة له من بين زملائه، ويزوره عاهل البلاد في يوم مشهود من أيام سلطنته التي تدوم زهاء الأسبوع.

وللقرويين ثمانية عشر باباً كانت مثلا في العظمة والروعة والإتقان، وفيها ما كان ملبساً بالصفر مطرزاً بالنقوش التي تحمل عبارات الشكر والثناء، وتسجل أسماء الصانعين. وقد شيدت إلى جانب القرويين مجموعة من المدارس الداخلية لاستقبال الطلبة، توفرت على عدد من قاعات الدروس، وقد طرزت ووشيت بروائع الفسيفساء. وقد عرفت القرويين نظاماً دقيقاً في أيام التدريس والعطل، وتقاليد فريدة في حلقات دروسها، فكانت منها الحلقة ذات الأستاذ الواحد، وذات الأستاذين، وكانت منها الحلقات التي لا يحضرها إلا المعممون، والحلقات التي لا يؤذن فيها للأحداث بالحضور.

وتضم جامعة القرويين أيضاً مكتبة جد غنية أسسها السلطان أبو عنان المريني، وهي تضم مخطوطات نادرة تعود إلى القرن السابع الهجري، يقدر عددها بحوالي أربعة آلاف مخطوطة مفهرسة بطريقة إلكترونية علمية، منها مصحف يعود إلى نهاية القرن الثاني الهجري مكتوب بماء الذهب، ونسخة من كتاب "العبر" لابن خلدون، بخط يده، أهداها إلى المكتبة حين كان يدرس في فاس، وقد اختارتها "منظّمة الأمم المتّحدة للتربية والعلوم والثقافة" (اليونسكو) ضمن التراث العالمي الإنساني. كما تحتوي على مخطوط نادر على شكل أرجوزة طبية كتبها ابن طفيل، وهي النسخة الوحيدة المعروفة في العالم لهذا المفكر والفيلسوف والطبيب، ومخطوط آخر لكتاب ابن رشد "البيان والتحصيل" مكتوب على رق الغزال ومذهّب، وإنجيل مكتوب باللغة العربية يعود إلى القرن الثاني عشر الميلادي.

فمدينة فاس ومعلمتها القرويين كانت وما تزال قطباً ومداراً لمدن المغرب الأقصى، وهي -كما قال الشريف الإدريسي- حاضرتها الكبرى ومقصدها الأشهر، تشد لها الركاب وإليها تقصد القوافل، ولها من كل شيء حسن أكبر نصيب وأوفر حظ، تستقطب العواطف، وتحبب إليها النفوس، بما احتضنته من أنواع المغريات التي كان من أبرزها الحركة العلمية الدائبة التي تكفي وحدها لإثارة هذا التغني بجمالها وحسنها.

والحقيقة أن اسم فاس يوحي بتاريخ زاخر بالحوادث والأمجاد، برجالاتها ومعالمها، وأن اسمها لا يوحي باسم مدينة فقط أو موقع جغرافي في جهة من الجهات، ولكنه يبعث في النفس ذكريات منارة متعالية، هدت بأضوائها الوهاجة أولئك الغابرين، وظلت تضفي بإشعاعها على هؤلاء الحاضرين، ولو حاول الباحثون أن يستقصوا ما قيل في حاضرة فاس لسجلوا صفحات ذهبية وهاجة ربما تنسي كل ما وصفت به سائر المدن الأخرى.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها