من عيون تُراث مراكش الحمراء

قَصْرُ البَدِيعْ.. التحفة الحضارية

محمد العساوي


لقد اعتاد سلاطين المغرب أن يُخَلدوا انتصاراتهم الكبرى في مختلف المعارك والحروب، بتشييد مبان مَعْلَمِية تكون في مستوى تلك الانتصارات، وهكذا فعلى نحو ما فعل يعقوب المنصور المُوَحِّدِي من بناء الجوامع الثلاثة: الخِيرالدا في إشبيلية، والكُتُبِيَّة في مراكش، وحَسَّان في الرباط، في أعقاب انتصاره بموقعة الأَرَك بالأندلس، على نحو ذلك شرع أحمد المنصور السعدي المُلقب بالذَّهبي، بعد انتصار الدولة السعدية على البرتغال في معركة وادي المخازن (معركة الملوك الثلاثة)، التي دارت رحاها يوم الاثنين في (30 جمادى الأولى سنة 986 هجرية/ 4 أغسطس 1578 ميلادية)، ببناء أفخم قصر بعاصمة المغرب آنذاك "مدينة مراكش"، وقد أَطْلَق عليه اسم "البَدِيعْ"، الذي وصفته المصادر التاريخية بـ"أُعْجُوبة العجائب" أو بـ"جَنَّة على أرض مراكش".


مرحلة البناء

مَثَّل بناء هذا القصر إشارة قوية لبداية عهد جديد في تاريخ السعديين خلال القرن (16م)؛ إذ بعد خمسة أشهر على نهاية الصراع المغربي البرتغالي، انطلقت أعمال البناء في (شوال 986 هجرية/ دجنبر 1578 ميلادية)، وقد تطلب هذا المشروع الكبير استمرار الأشغال طيلة ستة عشرة سنة، حيث لم تكتمل التهيئة العمرانية إلا في سنة (1002 هجرية/ 1594 ميلادية)، بل إن بعض الإضافات التكميلية تم إنجازها بعد ذلك.
وكانت غاية أحمد المنصور الذهبي من بناء هذا القصر هو جعله مقراً دائماً لإقامة السلطان وحاشيته وللاستقبالات الرسمية، سواء للوافدين المغاربة على الحاضرة السلطانية أو للبعثات الأجنبية وخاصة السفراء، وبذلك كانت هيئة القصر المَهيبة رسالة لكل من زاره لاستشعار الأُبهة والعظمة وهيبة السلطان، إضافة إلى الرغبة المُلِحَّة من الدولة السعدية في حجب ما خلفته الدول والحضارات السابقة المتعاقبة على حكم المغرب من عمران.

أصل التسمية

كلمة "البَدِيعْ" أو "لْبْدِيعْ" حسب اللهجة المحلية والتي اقترن بها اسم هذا القصر، لها دلالة على كل ما هو جميل وحسن، وقد كان كذلك فقد زُيّنت أرضيته وجدرانه وأسقفه بالزخارف والتُّوشِيات من الزليج والفسيفساء، وأبدع الصناع في بناء وتجميل مختلف مرافقه مُطابقة لهذه التسمية، وقد استُمِد هذا اللفظ حسب المصادر التاريخية إما من اسم إحدى القِبَاب التي كانت تُزَيِّن قصر قرطبة بالأندلس، أو كناية على رياض من رياضات الحماديين في بجاية، والذي لحقه الخراب ثم أُعيد ترميمه من قبل الموحدين، ورغم تعدد التفسيرات فقد طابق الاسم المُسَمَّى؛ لأنه تضمن فِعلا كل ما هو بديع وغريب وعجيب.

هندسة معمارية فريدة

اختار المنصور الذهبي موقعاً جغرافياً استراتيجياً لتشييد قصره، إذ كان في الركن الشمالي الشرقي من قصبة مراكش، فوق مساحة مستطيلة الشكل، وتتوسط بناياته ساحة مكشوفة طولها (135 متراً)، وعرضها (110 أمتار)، وفي وسط هذه الساحة صهريج كبير طوله (90.40 متراً) وعرضه (21.70 متراً)، تتوسطه بدوره نافورة فخمة، وتحده من جَانِبَيه الكبيرين مساحتان مغروستان تنخفضان عن مستوى الصهريج ببضع عشرات من السنتيمات، وفي كل زاوية من زوايا الساحة الأربع نجد صهريجاً مستطيلاً صغيراً، كُسِيَّت أرضيته بقطع الزليج المُلَوَّن، ويُنزَل إليه بسُلم من ثلاث درجات.

كما ضم البديع أيضاً الدار الكبرى الخاصة بإقامة الأسرة الحاكمة وحاشيتها، إضافة إلى كامل المُجَمعات الأميرية بأجنحتها التي شملت العديد من القِبَاب، كان لكل منها دورها الوظيفي المرتبط بها، فأسماؤها لها دلالات تُعَبر عن ذلك بوضوح، حيث نجد قبة النصر، وقبة التيجان، والقبة العظمى، وقبة الخمسينية، وقبة الزجاج، وغيرها من القباب التي ذُكر أنها بلغت العشرين قُبةً، وقد اسْتُعْملت في أغراض مختلفة، فمنها ما خُصص لاستقبال الوفود من الداخل والخارج، ومنها ما خصص لتنظيم احتفالات النصر وتقديم فروض البَيْعَة والطاعة، ومنها ما كانت رحابها للاحتفال بالمناسبات والأعياد الدينية وتلقي التهاني.

وتم تنصيب أبراج في غاية الارتفاع على زوايا القصر، وانفتحت في أسواره أبواب رئيسة وثانوية، كان أروعها ما عُرِف بباب الرُّخَام، وتم إنشاء تحت أرضيته عدد كبير من السراديب، اشتملت على مخازن المؤن وعلى المقصورات والمطابخ والمغاسل، وعلى مختلف المرافق التي تُسَهِّل تقديم ما يحتاجه من يقيم به، وكانت الزخارف التي وُشِي بها البديع تستعصي على الوصف، حسب من شاهدوها من الكُتَّاب، سواء المغاربة أو الأجانب، حيث كانت تُحفة فنية تجلت في روعة الأساليب والطُّرز والأنماط الزخرفية، فكان منها ما هو هندسي يُبهر الناظر بتناسقه، وما هو توريقي، رُسمت عليه أغرب النباتات وأجمل الأزهار وأشهى الثمار، وما هو خطي، تضمن مقطوعات شعرية نُقِشَت بطرق فنية رائعة، وما هو حيواني تتقابل فيه أنواع الطيور، وتصطف فيه مختلف الحيوانات.

ولِيَجْعل المنصور قصره يَتَفَرَّد عن غيره من القصور فقد زوَّده بأحدث الأنظمة، التي كانت تُعتبر في تلك المرحلة من قبيل الخيال والخرافات، فقد ابتكر مبدعوه ما يمكن أن نسميه بنظام التدفئة المركزية، التي كان يتم تشغيلها عبر أنابيب نحاسية تمر منها المياه الساخنة في أوقات القر، والباردة في أوقات الحر، كما زود القصر أيضاً بحمام أقيم بناؤه على خمسين عموداً من الرخام، ووضعت داخله مجسمات لأسود يتدفق الماء من أفواهها في أحواض مهيأة لذلك.

إن هذه المعلمة العمرانية الضخمة شارك في إنجازها جمع غفير من العمال، استُقْدِموا من مختلف مناطق المغرب ومن أوربا، فكانت هذه الجموع من أصحاب الصنائع ومن ذوي المهارات في البناء والتشييد ومن المستخدمين، يجتمعون كل يوم بباب القصر، وكانت مصادر تمويل هذا المشروع تتشكل أساساً من ذهب السودان الغربي، ومن عائدات تجارة السكر التي كان المغرب مشهوراً بها آنذاك، إضافة إلى الجبايات النقدية والعينية، ومن لم يكن يستطع الإيفاء بذلك كان ينخرط في عملية البناء لزمن معلوم، أو يسهم في نقل المواد الأولية من أماكن مختلفة، أما مواد البناء فتنوعت مصادرها حيث جُلِبت من مختلف أرجاء المغرب، كما تم استيراد ما لم يتوفر محلياً من السودان الغربي أو أوربا أو الهند، وقد جُلب الرخام من إيطاليا حيث كان المنصور يقايضه بالسكر وزناً بوزن، أما الجبص والجير وباقي المواد الأولية، فقد جُمعت من مختلف المناطق المغربية.

وعندما اكتملت أشغال بناء قصر البديع، وأصبح بالصورة التي ارتضاها المنصور الذهبي له، أقيمت احتفالات ضخمة مواكبة لافتتاحه، استُدعِي إليها كل أكابر وأعيان المغرب، كما حضرها الشعراء الذين أنعم عليهم السلطان بسخاء، نظير ما نظموه من أشعار في جمال البديع، بل إن المنصور نفسه أنشد في وصف محاسن القصر وجماله قائلاً:
بُستان حُسنِك أَبْدَعَت زَهراتُه ** ولَكمْ نَهِيت القلب عَنْها فما انْتَهى
وقِوَامُ غُصْنِك بالمَسَرَّة يَنْثَني ** يا حُسْن رُمَّان للمُشْتهى

معلمة ضائعة

لم يبق قائماً من البديع اليوم سوى جدرانه الخارجية وبعض أجزاء بيوته، فلقد اندثر مجموع البنايات وأصبحت في خبر كان، ويظهر أن سبب هذا الاندثار لم يكن بفعل الزمان، أو ضعف صلابة مواد البناء؛ وإنما بتدخل الإنسان، ذلك أنه بعد وفاة أحمد المنصور الذهبي سنة (1012 هجرية/ 1603 ميلادية)، دخل المغرب في مرحلة من التقهقر السياسي، بسبب الصراع حول الحكم بين أبنائه، وهو ما انعكس سلباً على أوضاع قصر البديع الذي كان عُرضة للتخريب والنهب، لكن يمكن اعتبار حدث وصول السلطان المولى إسماعيل العلوي إلى الحكم بمثابة بداية نهاية البديع، إذ أمر بهدمه وإتلاف محتوياته في سنة (1019 هجرية/ 1707 ميلادية). وبذلك فقد دام هذا القصر من نشأته إلى تخريبه مائة وسبع عشرة سنة.


المصادر والمراجع المعتمدة
1. الفشتالي أبي فارس عبد العزيز: "مناهل الصفا في مآثر موالينا الشرفا"، تحقيق: عبد الكريم كريم، الرباط: مطبوعات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية والثقافية، المغرب، دون تاريخ النشر.
2. التازي عبد الهادي: "قصر البديع بمراكش"، مطبوعات وزارة الدولة المكلفة بالشؤون الثقافية، الرباط، 1977م.
3. كريم عبد الكريم: "المغرب في عهد الدولة السعدية: دراسة لأهم التطورات السياسية ومختلف المظاهر الحضارية"، جمعية المؤرخين المغاربة، الرباط، الطبعة. 3، 2006م.
4. الجمعية المغربية للتأليف والنشر، موسوعة معلمة المغرب، مطابع سلا، 1991م، الجزء 4، مادة "قصر البديع"، توري عبد العزيز.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها