متحفُ النوبة بأسوان؟!

تاريخٌ من الفنون اليدوية والآثار الشعبية

فتحي أبو المجد

 

على هَضبةٍ جَبليةٍ مرتفعة بمدينة أسوان الساحرة، وعلى كورنيش النيل، أقامَ قِطاع المتاحف والآثار، بوزارة الثقافة المصرية "متحف النوبة"، ويُعد هذا المتحف آيـة في الروعة والهندسة المعمارية.

 

وصف المتحف

صُمِمَ متحف النوبة ليبدو مناسبًا مع الطبيعة الأثرية للمنطقة، والتي تضم خلف المتحف مجمع المقابر الفاطمية، وقد أنشأ المتحف بأسلوب المستويات المتدرجة، التي تتوافق مع طبيعة الأرض، وبواجهات تعمل على تخفيف دخول الضوء الشديد والحرارة.

 فكرة المتحف

جاءت فكرة إنشاء المتحف استجابة لنداء مصر والعالم بضرورة إنقاذ آثار النوبة، ومعبد فيلة ومعابد أبي سمبل من الغرق، بعد تنفيذ مشروع السد العالي، وتحويل مياه نهر النيل إلى بحيرة ناصر عام 1964، وثمرة للتعاون الثقافي بين مصر ومنظمة (اليونسكو)، وقد افتتح متحف النوبة رسمياً عام 1997، وهو مقام على مساحة 50.000 متر مربع، وُزعَت هذه المساحة على سبعة أقسام رئيسة، لتشغل مساحة مبنى المتحف نحو 7000 متر مربع، وتشغل قاعات الموقع الخارجي والعرض المكشوف 43000 متر مربع، وقاعات العرض المتحفي فتشغل مساحة 35000 متر مربع، وقد وُزعت المساحة الباقية لتشمل المخازن وقاعات الترميم وإدارة البحوث، وأماكن الإدارة والمكتبة والخدمات العامة1.

مقتنيات المتحف

ويضم متحف النوبة عدداً وافراً من المقتنيات الأثرية من شتى العهود التاريخية التي مرت ببلاد النوبة، بداية من العصر الفرعوني، مروراً بالعصر اليوناني الروماني والعصر القبطي، وصولاً إلى العصر الإسلامي الحديث، وقد عُنيت الأسر الحاكمة الفرعونية ببلاد النوبة، باعتبارها بوابة مصر الجنوبية على قارة إفريقيا، ويزين المتحف في مدخل قاعته الرئيسة تمثالاً ضخماً للملك المصري العظيم رمسيس الثاني، وَيُعد رمسيس الثاني من أروع الشخصيات في التاريخ، فهو صاحب شخصية خيالية عجيبة، ومما أورده عالم الآثار "برستد" في عظمة وقوة شخصية الملك رمسيس الثاني، وما يعني أن الإله بتاح قال: إنه قد خلق رمسيس الثاني عام 1194 قبل الميلاد، بسيقان من الكهرمان، وعظام من البرونز، وأذرع من الحديد2، ويقول عنه المؤرخ "ديو رانت" في كتابه قصة الحضارة: (إنه قلما عَرف التاريخ ملكاً أبهى منه منظراً، فقد كان وسيماً شجاعاً، أضاف إلى محاسنه إحساسه في شبابه بتلك المحاسن3، ومن النقوش التي مدحت محاسنه ما قاله أحد شعراء الفراعنة القدماء:
وزد في مباهجك أكثر من ذي قبل، ولا تترك قلبك يذبل، وسر وراء رغباتك وما فيه الخير لك، وهيئ أمورك على ظهر الأرض، حسب ما يأمر به قلبك أنت، حتى يأتيك يوم النحيب، حين لا يسمع الموتى نحيبهم، وحين لا يصغي من في القبور إلى حزنهم، واحتفل بيوم السرور، ولا تمل منه، انظر، ليس ثمة من يأخذ أمتعته معه، أجل، ولا يعود ممن ذهبوا إلى هناك أحد4.
 

أرض الذهب

وللإشارة ترد عدة آراء في أصل تسمية "النوبة"، فيطلق على منطقة النوبة بصفة عامة اسم " تاستي" بمعنى أرض القوس، إشارة إلى السلاح الرئيس الذي كان يستخدمه أهلها5، كما يُعد اسم النوبة مُشتقاً من كلمة "نوب" الكلمة المصرية القديمة، وتعني أرض الذهب، الذي استغله المصريون القدماء، وكانت بلاد النوبة تعرف أيضاً في العصور الفرعونية باسم "تانكست"، وهو اسم الكنوز الذي يُطلق حاليا ًعلى سكان شمال النوبة6، وورد اسم النوبة في النصوص الأدبية المصرية القديمة، وكان المصريون القدماء يقسمون هذه البلاد إلى خمسة أقاليم إدارية:
- وواوات: وتمتد من جنوب أسوان حتى قصر أبريم.
- وارتيت: وتمتد من قصر أبريم إلى أبي سمبل.
- سنمو: وتمتد من أبي سنبل إلى الشلال الثاني جنوب وادي حلفا.
- بلاد يام: وتمتد من الشلال الثاني إلى صولب.
- كوش: وكانت تمتد من صولب إلى أبي حَمَدْ أقصى حدود النوبة جنوباً7.

وهكذا؛ فإن اشتقاق اسم النوبة ما يزال غير يقيني، سواء كان "تا نبو" (أرض الذهب)، أو "خاسوت نبو" (بلاد الذهب) فقد أطلقت عدة أسماء، على أرض النوبة في العصور القديمة، وأغلبها يتصل بأصول عرقية مثل: "كنست -تا نحسيو – واوات – كوش- أيونت"، على أن أقدمها جميعاً "تا سيتي"8.

 

عصور المتحف

هذا ويزخر متحف النوبة بقطع أثرية عديدة، من مقتنيات وتماثيل، تمثل جميعها عصور الأسر الحاكمة، بداية من عصر بداية الأسر من 2700 - 3100 قبل الميلاد، ومروراً بعصر الدولة القديمة 2200-2700 قبل الميلاد، ومن عصر الدولة الحديثة1070 - 1550 قبل الميلاد، ثم العصر الكوشي 593 - 780 قبل الميلاد، وصولاً إلى العصر المروي سنة 593 قبل الميلاد إلى سنة 350 ميلادية، والذي شهد بزوغ حضارة مملكة مروي، والتي تقع على الضفة الشرقية للنيل، ما بين الجندلين الخامس والسادس، في المنطقة التي تعرف حالياً باسم "بوتانا"9، ثم عصر البطالمة والرومان، وتحول مصر إلى ولاية رومانية بعد هزيمة الملكة المصرية "كليوباترا" على يد القائد الروماني "أوكتا فيوس" أو أغسطس، ثم دخول المسيحية إلى النوبة ونشاط البعثات التبشيرية في عهد الإمبراطور جستنيان527-565 ميلادية10، حيث شهدت تلك الفترة تقسيم النوبة إلى ثلاثة ممالك "نوباديا –علوة– مقريا"، وكانت مقريا آخر الممالك التي تحولت إلى المسيحية.

ومع بداية فتح العرب لمصر، بقيادة عمرو بن العاص سنة 641 ميلادية، وُجهت عدة حملات إلى بلاد النوبة لكنها واجهت مقاومة شديدة، فلم تعط نتائجها المرجوة، ولكن حقناً للدماء عُقدت هدنة عرفت تاريخيًا باسم "البقط" في عهد الخليفة عثمان بن عفان، على أن ترسل النوبة عددًا من الرقيق مقابل قدر معين من المحاصيل الزراعية من مصر، واستمر الالتزام بهذه الاتفاقية حتى العصر الإخشيدي11، وفي زمن الحكم العباسي 868 -750 ازداد الوجود العربي في النوبة، وفي عهد الدولة الطولونية 905 – 868، تمكنت حملة بقيادة عبد الرحمن بن الحميد العمري من هزيمة ملك النوبة "جورج الأول" وتم إخضاع النوبة لحضانة الدولة المصرية، وقد شهدت النوبة في العهدين الفاطمي والأيوبي قيام إمارة عربية قوية واتخذت من أسوان مركزاً لها، حتى شهدت النوبة عصر الدولة المملوكية، وبدخول قوات السلطان بيبرس دنقلة عام 1276، وفرار ملكها داود إلى "علوة" تم تنصيب ابن أخته "شكندة" ملكاً على النوبة، حيث تم أخذ العهد علية بالولاء للسلطان المملوكي، وفي عهد السلطان ناصر بن محمد بن قلاوون لجأ إلى مصر أمير نوبي يسمى "نشلي" وكان قد اعتنق الإسلام، فأرسله السلطان على رأس حملة إلى النوبة لتأديب ملكها "كربيس" فهُزم في المعركة، فكافأ السلطان ناصر بن محمد الأمير نشلي أو عبد الله بن برشمبو، وهذا اسمه بعد أن اعتنق الإسلام12، بأن ولاه والياً على النوبة من قبل السلطان، إلا أنه سرعان ما لقي مصرعه على يد جماعة من قبيلة كنز، فأعادت الحملة الحربية السلطانية الهدوء إلى ربوع النوبة، وتمت إعادة ملكها السابق كربيس بعد أن اعتنق هو وأهله الإسلام، وتم بهذا انتشار الإسلام في كل بلاد النوبة مع بزوغ القرن السادس عشر حتى الآن.
 

معروضات المتحف

ومن أشهر المعروضات والقطع الأثرية التي يزخر بها متحف النوبة، مجموعة تماثيل ملوك وحكام بلاد النوبة، مثل: تمثال الملك الشهير شبتكا أو شيبتكو 690 -702 ق. م، وهو تمثال منحوت من حجر الديوريت لأحد ملوك مملكة كوش النوبية، التي تأسست على يد زعيمها الأول "ألارا" عام 780 ق.م، والتي نقلت عاصمة مملكتها من "نبتة" أو نباتا إلى مروي، حيث أصبحت مروي العاصمة الجديدة لمملكة كوش النوبية لمدة خمسة قرون قبل ميلاد السيد المسيح عليه السلام، وثلاثة قرون بعد ميلاده، وكانت كوش من أكثر الحضارات المتميزة بطابعها الإفريقي، فازدادت بها الرقعة الزراعية وتنوعت المحاصيل، وازدادت كميات الذهب المستخرجة من المناجم، وامتد العمران، خاصة بناء المعابد، ومما يذكر أيضاً للملك شبتكا، أنه واجه الأشوريين الغزاة، القادمين من شمال العراق على امتداد ساحل البحر الأبيض المتوسط، ونصب طهارقا ابن أخيه قائداً للجيش، إلا أن مرضاً ألم بالغزاة الأشوريين أدى ذلك إلى إنقاذ مصر، وتوفي شبتكا في مصر، ودفن في جبانة الأسرة مع أسلافه في الكرو بالقرب من نبته13.

كما يضم المتحف أيضاً تمثالاً شهيراً منحوتاً من حجر الجرانيت الوردي لرأس الملك (طهارقا)، أو تهارقا 664-690ق.م، وهو أيضاً من حكام مملكة "كوش" في عصر الأسرة الخامسة والعشرين، وكان محارباً عظيماً تولى قيادة الجيش وهو في سن العشرين من عمره، بطلب من الملك شبتكا، وذلك لمحاربة الغزاة الأشوريين، وتم تتويجه ملكاً في مصر، وحقق انتصاراً في المعارك ضد الأشوريين وصد بعض هجماتهم، إلا أنهم تمكنوا من أسر زوجته وابنه، فانسحب إلى نبته وتوفي بها سنة 664 قبل الميلاد14.

ومن معروضات المتحف الأثرية، بعض التماثيل الخشبية التي تزخر بتفاصيل وألوان غاية في روعتها، وهي تصور حيوان فرس النهر، كما عرضت بجانبها بعض التماثيل لملوك وشخصيات فرعونية، وأخرى من الأحجار الرملية النوبية ومن الجرانيت لرجال ونساء وملكات من عهود مختلفة، كما يضم المتحف بعض اللوحات الصخرية مُسجل عليها بعض الكتابات والرسوم والنقوش، لمجموعة من الأسر الفرعونية القديمة، ومما يزين قاعات متحف النوبة أيضاً، ما يزخر به المتحف من مجموعات رائعة من رؤوس تماثيل لملوك وأمراء وأميرات نوبيين، من الجرانيت والبازلت، ومن تحف للأواني الفخارية وتوابيت ومصنوعات جلدية يدوية، وبعض الحلي الذهبية والتمائم، وتيجان فضية وأدوات الزينة، والأباريق النحاسية الكمثرية الشكل والصناديق الخشبية (السحارات) والجعارين الحجرية والأسماك الذهبية، وأوعية الزينة الألباستر، ورؤوس الحراب والأنصال من أحجار الصوان، ولوحات من العاج المطعم بالأبنوس للعبة الداما، ووثائق الزواج النوبية من العصر الحديث.

خصوصية النوبة وتراثها الحضاري

وللنوبيين خصائص خاصة في لهجتين محليتين، ففي شمال أسوان يتكلمون اللهجة (الماتوكية) وتسمي الكنزية، وجنوباً من كرسكو إلى أدندان يتكلمون (الفادتيكا)، أما في المنطقة الوسطى من مضيق كرسكو فهناك عرب العقيلات الذين يتكلمون اللغة العربية15.

هذا وتتميز النوبة بالتراث الشعبي العريق، الذي يعكس حياة النوبيين الخاصة في معيشتهم، وفي عمارة المباني والأثاث والأزياء والفنون والصناعات اليدوية والنسجية، الزاخرة بالنقوش النباتية والقوسية والأهلة والنجوم وثراء الزخارف والألوان الزاهية والمبهجة، المنسوجة من الأقمشة القطنية والصوفية على الأنوال الخشبية، والتي تقوم بها النسوة عادة، كمشغولات الخرز والحصر والسلال من سعف نخيل البلح، كذلك صناعات الأواني الفخارية، والحلي بصفة خاصة كالقلائد والأساور والأقراط والخواتم، والخلاخيل وزمم الأنف، وتتجلى خصوصية النوبيين في منازلهم المبنية بالطوب اللبن على شكل قباب، لتلطيف درجة الحرارة الشديدة، واعتناء النوبيون بصفة خاصة بهندسة البوابات وزخرفتها، بأشكال هندسية ورسوم تعبيرية وعناصر فنية جمالية، ذات دلالات شعبية أو معتقدات سحرية، كالقط لجلب التفاؤل، والسيف رمزاً للقوة والشجاعة، والورود والزهور رمزاً للمحبة والصداقة، وسجادة الصلاة والإبريق رمزاً للنقاء والطهارة، ولدى النوبيين ولع خاص بالتمائم والأحجبة، لجلب الخير والمنفعة ودفع الأذى من السحر والحسد، بحسب المعتقدات المتوارثة، كما تتأكد خصوصية النوبيين في أشكال التعبير الفني في الموسيقى والرقص والغناء، في الأفراح والأعياد والمناسبات الخاصة، حسب الأعراف والعادات الاجتماعية المتوارثة، وأهم ما يميز الرقص النوبي، هو الحفاظ على الشكل التعبيري الجماعي، مشاركة ما بين الرجال والنساء من كافة الأعمار.


الهوامش:
1. النوبة تاريخ وحضارة: د. جاب الله علي جاب الله (متحف النوبة)، مطبوعات المجلس الأعلى للآثار، القاهرة 1997م. / 2. أبو سمبل: محمد فتحي عوض الله، دار المعارف، القاهرة 1971م. / 3. المرجع السابق. / 4. المرجع السابق. / 5. النوبة تاريخ وحضارة: د. جاب الله علي جاب الله (متحف النوبة )، مطبوعات المجلس الأعلى للآثار، القاهرة 1997م. / 6. أمجاد من تراثنا تأليف: عزيز مرقص منصور، مشروع الألف كتاب، مكتبة الشرق بالقاهرة. / 7. المرجع السابق. / 8. تاريخ وآثار النوبة: د. عبد الحليم نور الدين أستاذ اللغة المصرية القديمة كلية الآثار، جامعة القاهرة، إعداد مهاب درويش - منشورات مكتبة الإسكندرية. / 9. النوبة تاريخ وحضارة. / 10. المرجع السابق. / 11. المرجع السابق. / 12. المرجع السابق. / 13. تاريخ وآثار النوبة: د. عبد الحليم نور الدين أستاذ اللغة المصرية القديمة كلية الآثار، جامعة القاهرة، إعداد مهاب درويش- منشورات مكتبة الإسكندرية. / 14. المرجع السابق. / 15. أمجاد من تراثنا تأليف: عزيز مرقص منصور، مشروع الألف كتاب، مكتتبة الشرق بالقاهرة.
 

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها