لَمساتٌ أندلسيّة.. على المساجد الإفريقية

عبدالله بن محمد

رغم تراجع النفوذ الإسلامي ​​أمام حملات الاسترداد التي أفضت إلى سقوط الخلافة في قرطبة سنة 1031، حافظت إسبانيا إبّان حكم المسلمين على إشعاعها الثقافي والفنّي والمعماري. وقد خلق التوحيد السياسي الذي شهدته شبه الجزيرة الإيبيرية على أيدي المرابطين والموحدين مناخاً ملائماً لازدهار التراث الأموي والإسلامي عموماً، وانتشاره حتى خارج إسبانيا.

لفترة طويلة كانت مراكش التي أسّسها المرابطون على سفح جبال الأطلس جنوب المغرب، مركز سيادة تحت حكم الموحّدين. وقبل نهاية القرن الحادي عشر، كانت بوّابة المغرب الأقصى مفتوحة على مصراعيها أمام التأثيرات الإسبانية المشبعة بالتراث الفنّي الأموي، حيث توسّع نشاط الفنّانين الإسبانيين، أفراداً أو جماعاتٍ ضمن ورش عمل بأكملها، إلى جنوب المغرب، لتصبح بذلك مراكش مركزاً للفن الأندلسي. وفي تلك الفترة أيضاً، مثّلت بلدان المغرب الإسلامي وحدة سياسية وفنية متميّزة، ويتجلّى ذلك بالخصوص في المساجد وهندستها الفريدة التي ما تزال قائمة إلى حد الآن.

وقد حظيت المساجد هناك، المتكوّنة من ممرات متعامدة مع القبلة، بإشعاع ومكانة متميّزة ضمن المعالم الرئيسة لبلدان المغرب وشمال إفريقيا. ومن أبرز الأمثلة على ذلك الجامع الكبير بقرطبة، وكذلك الجامع الكبير في القيروان الذي أعاد الأغالبة بناءه سنة 836، واعتمدوا فيه ولأول مرة على هندسة الطوب، بعد تعطّل وصول الإمدادات من الحجارة التي كان الحصول عليها متاحاً بأيسر السبل بفضل الغنائم. كما يعتبر مسجد ابن طولون، الذي بُني بين 876 و879، بالإضافة إلى مسجد الحكيم، الذي تأسّس في 990، أبرز مثال على التحوّل من الهندسة المعمارية في الشرق، تحت حكم العباسيين إلى الفن المعماري الجديد في المغرب. وفي جانب آخر، عرف المشهد الهندسي للعباسيين، المرتكز بالأساس على الدعامات، وربما المستمد من التقاليد الشرقية القديمة، تراجعاً إلى حد كبير في المغرب، ليفسح المجال بذلك لصيغة الأبعاد القياسية المعتمدة في ورش عمل الموحدين.

ويعتبر الجامع الكبير في الجزائر العاصمة، الذي شُيّد في حوالي 1097، مثالاً واضحاً عن كيفية تحول قاعة الصلاة من التقليد الأموي إلى النمط الموحدي؛ حيث يشير المبنى الضيق، والمصلى على شكل (T) وشكل الدعامات، وأقواس الأروقة وتوزيعها الهرمي إلى لمسة الموحدين. وكانت العناصر المعمارية الأموية والزخارف المعتمدة بارزة بشكل لافت هناك، إلا أنها لم تبلغ بعد المرحلة المهذبة والمصقولة للشكل (T)، كما هو الحال في الجامع الكبير بالقيروان، بل ركّز المعماريون بالأساس على التوسعة التي أمر بها الحكم المستنصر بالله في الجامع الكبير بقرطبة، مع الأقواس المتقاطعة بالطول والعرض، وربما المستمد من تقليد المسجد الأقصى في القدس.

أما مساجد المرابطين فتتميّز بشكلها المستطيل على غرار الجامع الكبير بتلمسان، ومساجد الأندلس ومسجد سيدي رمضان، الكائن بالقصبة السفلى بالعاصمة الجزائرية، حيث زُيّنت جدران الجامع بزخارف بسيطة في شكلها جميلة في رونقها، فأضفت عمقاً وإشعاعاً حضارياً. وعلى السور المحيط بالجامع الكبير بالعاصمة تبرز عدة مداخل، أهمها مدخلان رئيسيان أحدهما مفتوح مباشرة على فناء المسجد والآخر بمحاذاته، إضافة إلى بابين آخرين يخترقان جدار القبلة أحدهما على اليمين، ويمثل مدخل قاعة الصلاة، والآخر يمثل مدخلاً إلى مقصورة الإمام. ويلاحظ كذلك أن فناء الجامع الكبير كان أيضاً مستطيل الشكل، أما باحة الصلاة فتتكون من 11 بلاطة عمودية على جدار القبلة، وتِسع بلاطات موازية يتوسطها المنبر.

أما السقف فيتقوّس من جهتين يكسوهما قرميد تنحدر منه أقواس موصولة بالحائط العمودي وموازية للمحور الأكبر. وقد اتّخذ الجامع شكلاً هندسيّاً يشبه إلى حد كبير ملامح الجامع الكبير بتلمسان والمسجد الكبير بقرطبة. لكنّ ما يجلب الانتباه إلى الزخارف التي تغطّي مساحات الخشب، والممزوجة بمستقيمات ومنحنيات هي تلك البصمة المرابطية الساحرة، التي زادت الجامع جمالاً وبهاءً.

كما خلّف المرابطون مَعْلميْن بارزين آخرين هناك وهما: المسجد الكبير الذي اكتمل بناؤه حوالي 1136، والجامع الأصغر بكثير في ندرومة (في غرب الجزائر). ويعدّ الجامع الكبير تحفة معمارية رائعة الجمال تتوسط مدينة تلمسان، بني في عهد علي بن يوسف بن تاشفين ثم أتمّه الموحدون. ويحتوي الجامع على ثمانية أبواب، وقاعة كبيرة للصلاة تشمل 72 سارية عظيمة من حجر الصلد، وأروقة داخلية وقبّة واحدة في الوسط، وأخرى أمام المحراب متشابكة الأقواس، وتحمل صفحات لامعة، وعلى يمين فتحة المحراب ويسارها وتحت الزخرفة، توجد صفحتان مستطيلتان كل واحدة منهما محاطة بحاشية منقوشة بخطوط كوفية. وفي الزوايا الأربع المحيطة بقوس المحراب تبرز زخرفة مكثّفة على شكل أزهار، ومحراب يشبه في زخرفته فائقة الإتقان محراب جامع قرطبة الأعظم. أما صحن المسجد فهو واسع ومفروش بالرخام، يتوسطه حوضان وصحن يتوسّط الأبواب الخشبية.

في المغرب؛ ورغم عمليات التوسيع والتنميق التي أجريت على مسجد القرويين في فاس، حافظ المعلم على تصميمه الأصلي الذي يعود إلى القرن التاسع؛ والمستوحى –ربّما- من هندسة المسجد الأموي في دمشق: قاعة صلاة مجنحة بالعرض مع صحن مركزي عمودي يتوسّطها. اليوم لا نجد سوى ملحقات مسجد المرابطين الكبير في مراكش، وأهمها القبّة المركزية لمجمع الوضوء، وهو مثال بارز على ديكور المرابطين (مثال قبة علي بن يوسف، وتسمى أيضاً قبة البرديين).

وقد حافظ الموحدون إبّان حكمهم على الإرث السياسي والفنّي للمرابطين في منتصف القرن الثاني عشر، ولكنهم وسموا الفن، وخاصة عمارة المساجد، بعلامتهم كمجدّدين ومصلحين. فأضفوا بساطة وتجرّداً على أنواع المباني مع توجّه للتقليص من الزخرفة والديكور، الذي ما يزال مستمداً إلى حد تلك الفترة في الغالب، من ورش العمل للمهنيين الأندلسيين أو المسلمين الإسبان. وكان لتأثير الخلافة الموحّدية دور في اندماج المغرب والأندلس ضمن كيان واحد، وخاصّة في المجال الفنّي. وليصبح بذلك المركزان السياسيان -مراكش وإشبيلية- قِبلتةً للحياة الفنّية والمعمارية في ذلك الوقت.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها