العقل الحجاجي.. بين الإقناع والمغالطة

عبد الصمد زهور

 

 تشكل العقلانية الحجاجية المعاصرة 

يعبر الحجاج المعاصر عن استجابة لمختلف التحولات التي وقعت على مستويات مختلفة في الحياة المعاصرة، فقد عرفت ازدهار الاتجاهات المعرفية الوضعية إلى جانب العقلانية. كما ظهرت فيها على المستوى السياسي والاجتماعي مجموعة من الحركات السياسية والاجتماعية، مما تطلب الرجوع بقوة إلى دراسة العقل الحجاجي مند لحظة انبثاقه مع السفسطائيين.

رافقت الدراسات حول العقل الحجاجي في منتصف القرن العشرين تراجع فكرة البداهة الرياضية، وانهيار مجموعة من المفاهيم على المستوى الإبستمولوجي من قبيل مفهوم اليقين، حيث تم الإقرار بالنسبية مع ألبيرت آنشتاين Albert Einstein، وأصبحنا نتحدث عن الاحتمال داخل ميدان العلوم الحقة.

رافق ذلك انهيار مفهوم الواقع الصلب الذي كان يعتبر أساساً صلباً للمعرفة مند أرسطو Aristote، بظهور نظرية العوالم الممكنة، وصارت العقلانية في مستواها المنطقي مفهوماً منفتحاً على الخيال وليس على البداهة والوضوح فقط. كما أن انتعاش النظم والحركات السياسية والخطابات المختلفة حول الديمقراطية، أدت إلى الإقرار بالانفتاح والتعدد ونبذ الأنظمة الكولونيالية، بشكل ربط السياسة بالفضاء العمومي والنقاشات العمومية عبر وسائل الإعلام التي عرفت ازدهاراً كبيراً. فأصبحت سمة العصر ككل هي التواصل "وبالأساس التواصل الحجاجي الذي يسعى فيه الفرد إلى إقناع غيره بوجهة نظره"1.

إن التواصل بمختلف تجلياته وفي جميع المجالات يفترض حركية العقل الحجاجي إذ "لا تواصل من غير حجاج"2، خصوصاً في الحياة المعاصرة التي عرفت "ميلاد فرع علمي جديد سمي تارة بالخطابة الجديدة، وتارة أخرى بالحجاج... [و] وُصِل الحجاج بكثير من الفروع العلمية والإنسانية، كاللسانيات وعلم الاجتماع وعلم النفس والاقتصاد..."3.
 

✧ انبعاث العقلانية الحجاجية.. عود على بدء 

كانت البداية مع شايم بيرلمان وأولبريخت تيتكا Chaïm Perelman et Lucie Olbrechts-Tyteca من خلال كتابهما المشترك العنون بـ"دراسة الحجاج: الخطابة الجديدة"، وكذلك كتاب "استعمالات الحجة"4 لستيفان تولمين سنة 1958.

حاول بيرلمان تجديد النظرية الحجاجية الأرسطية بجعلها منفتحة أكثر، فغدت معه حاضرة في جميع تمظهرات الحياة الإنسانية حيث "الحياة اليومية والعائلية والسياسية توفر لنا كماً هائلاً من أمثلة الحجاج البلاغي"5، المنفلت من الاستدلالات الصورية الأرسطية، وفي هذا ما يبرر العودة إلى السفسطائية بروح مختلفة، وهو الأمر الذي يبرر أيضاً الجمع بين الحجاج والعاطفة، كما يعبر عن ذلك ميشيل جيلبيرت Michael Gillbert بقوله إنه "لا فرق بين الحجج المنطقية والحجج العاطفية"6.

المهم في هذا السياق هو تأكيد رواد الدرس الحجاجي المعاصر على ضرورة الانفتاح على درس السفسطة، بما هي الوجه السالب من الحجاج الذي يقابل الوجه الموجب منه، وهنا أيضاً تظهر بعض أثار الموقف التقليدي من السفسطة، على الموقف الحجاجي المعاصر. هذا الموقف متضمن في الترجمة الإنجليزية Facllacy لكلمة سفسطة، حيث تحيل على معاني الكذب، والخداع، والتغليط.


✧ العقلانية الحجاجية والمغالطة المنطقية 

رغم ذلك تجدد البحث في السفسطة من خلال كتابات متعددة منها: "كتاب هاميلين... والمعنون بـ"السفسطات"، والمؤلف المشترك بين وودز ووالتون "الحجج: منطق السفسطات" سنة 1982"7. فقد اهتم هؤلاء بدراسة السفسطة لأجل الإعلاء من شأن معقولية المحاورة النقدية، التي أكد روادها المنظرين أن للحوار أنماطاً، فقد يتخذ شاكلة مقارعة شخصية، أو منازعة جدلية، أو مساومة أو مباحثة، أو محاورة نقدية، وهذه الشاكلة الأخيرة هي التي دافع عنها هؤلاء من حيث هي مرتبطة بالحوار الإقناعي "تحدث فيها مواجهة بين طرفين، ويكون هدف كل طرف هو إقناع الطرف الآخر بدعواه، ويتم لأجل ذلك اعتماد مسلك التدليل على الدعوى، وينبغي فيه إقناع الطرف الآخر بدعواه، ويتم لأجل ذلك اعتماد مسلك التدليل على الدعوى... بالاستناد إلى المقدمات التي يقبل أو يسلم بها المحاور"8، وتتخذ هذه المحاورة نمطين الأول تناظري، حيث يكون كل طرف ملزم بالدفاع عن دعواه بالدليل، والثاني لا تناظري، حيث يكتفي أحد الطرفين بالتساؤل والآخر بالتدليل.

إن المحاورة النقدية حسب هؤلاء هي النموذج الأمثل للمحاورة المقبولة والمعقولة، وهي محاورة تمر بأطوار مختلفة، أولها يكون مطبوعاً بالنزاع، والثاني يتخذ فيه القرار بحل هذا النزاع، والثالث يقوى فيه دفاع العارض عن دعواه، وإلحاح السائل على المزيد من التوضيح وهو الطور الحجاجي، ثم الطور الختامي الذي ينطبع بإعراض أحد الطرفين بعد الوصول إلى حل.

هكذا تكون السفسطة كما ينظر إليها رواد المحاورة النقدية هي: "أفعال اللغة التي تعوق بوجه كيفما كان حل منازعة ما في سياق المحاورة... ففي هذا المنظور لا يعني ارتكاب سفسطة ما إقداماً على سلوك مقدوح فيه أخلاقياً، ولكنه سيشكل غلطاً من حيث كونه يعيق الجهود التي تبذل من أجل حل المحاورة"9.

هذا شكل من أشكال تمثل الحجاج المعاصر للسفسطة، من قبل المهتمين بالتأسيس الفلسفي للمحاورة النقدية بالانفتاح على نتائج فلسفة اللغة والتداوليات مع غرايس وأوستين وسورل. ويُحتفى أيضاً بالسفسطة من قبل هؤلاء استجابة لمطالب الحياة المعاصرة المنفلتة من كل صرامة ممكنة، من خلال جمع الحجاج بالبلاغة.
 

✧ العقل الحواري والسلم الحجاجي 

تجدر الإشارة في هذا السياق، إلى أنه من بين أقوى اللحظات في الدرس الحجاجي المعاصر، تلك اللحظة التي يمثلها ديكرو Oswald Ducrot، وهي اللحظة التي سنحاول تقريبها من خلال الوقوف على مفهوم مركزي لديه هو مفهوم السلم الحجاجي.

ركز ديكرو بشكل كبير على تحليل الحجاج التداولي مستعملاً مفاهيم جديدة، من قبيل المراتب الحجاجية، ومفهوم السلم الحجاجي échelle argumentative، ويعرف هذا الأخير بكونه مجموعة غير فارغة من الأقوال تنضبط لشرطين هما:
1- كل قول يقع في مرتبة ما من السلم يلزم عنه ما يقع تحته، بحيث يلزم عن القول الموجود في الطرف الأعلى جميع المقولات الأخرى.
2- كل قول كان في السلم دليلاً على مدلول معين كان ما يعلوه مرتبة دليلاً أقوى10.

لهذا السلم قوانين ثلاثة:
• قانون الخفض: ومقتضاه أنه إذا صدق القول في مراتب معينة من السلم؛ فإن نقيضه يصدق في المراتب التي تحته، ومثاله أن عدم حصول زيد على الإجازة لا يفترض عدم حصوله على الباكلوريا، بل يبقى هذا القول الثاني صادقاً.
• قانون القلب: ومقتضاه أنه إذا كان القول دليلاً على مدلول معين؛ فإن نقيضه يكون دليلاً على نقيض المدلول الأول، ومثاله أنه إذا كان حصول زيد على الإجازة دليلاً على نجاحه العلمي؛ فإن عدم حصوله عليها دليل على عدم نجاحه العلمي؛ أي على فشله.
• قانون تبديل السلم: ومقتضاه أنه إذا كان هناك قولان أحدهما أقوى من الآخر في التدليل على مدلول معين؛ فإن نقيض الثاني أقوى من نقيض الأول في التدليل على نقيض المدلول الأول؛ أي أنه إذا كان حصول زيد على الإجازة أقوى من حصوله على الباكلوريا في التدليل على نجاحه العلمي؛ فإن عدم حصوله على الباكلوريا أقوى من عدم حصوله على الإجازة في التدليل على عدم نجاحه العلمي؛ أي على فشله العلمي.

هذه إذن هي الشروط والقوانين الأساسية التي تبين طبيعة هذا المفهوم الجديد الذي طعم به ديكرو الحجاج المعاصر. وهو الحجاج الذي شكل مصدر إلهام لنظرية أخلاق المناقشة التي جاء بها يورغن هابرماس، من حيث هي تأسيس لبراديغم تواصلي، مرتبط أساساً بالنقاش السياسي داخل الفضاء العمومي، ومتجاوز لبراديغم الصراع الذي أسست له الماركسية، فالبراديغم التواصلي يقوم أساساً، على نتائج هذا الدرس الحجاجي، فمن خلال ما انتهى إليه تولمين وألكسي سيضع هابرماس الشروط المعيارية لكل مناقشة ممكنة داخل الفضاء العمومي11. وتبرز علاقة ذلك بالسفسطة من حيث الاعتراف بكونها واقعاً لا يمكن رفعه، ولكن يمكن التعامل معه عبر معرفته، ومعرفة كيفية الاحتجاج عليه بطريقة تجعل السفسطائي يروم التمسك بالحق لا بظاهر الحق.

***


هكذا إذا يتضح أن دراسة الحجاج المعاصر يساهم في إقامة فهم جديد للدور الذي لعبته الحركة السفسطائية تاريخا،ً بشكل يجعلنا قادرين على وضع خطط جديدة للاستفادة منها، وردم الهوة التي وضعها بيننا وبينها كل من أفلاطون وأرسطو، فقد كان السفسطائيون أول من أقام الجمع بين الحجة والبلاغة والإقناع، ناظرين بذلك للإنسان في كليته.

إلى هنا نأتي إلى نهاية هذه الورقة، التي كانت غايتنا من ورائها لا تتجاوز إلقاء بعض الضوء على مختلف القراءات، التي تعرضت لها لحظة المهد التي مثلتها الحركة السفسطائية في المرحلة المعاصرة.


الهوامش:
1. الراضي رشيد، السفسطات في المنطقيات المعاصرة، التوجه الجدلي التداولي نموذجاً، عالم الفكر، العدد 2، المجلد 40، أكتوبر- ديسمبر 2011، ص: 145.
2. عبد النبي ذاكر، الحجاج: مفهومه ومجالاته، عالم الفكر، العدد 2، المجلد 40، أكتوبر- ديسمبر 2011، ص: 7.
3. الراضي رشيد، مرجع سابق، ص: 146.
4. Douglas walton, informel logic, a handbook for critical argumentation, Cambridge university, Press, 1989, P: 3
5. Chaïm Perlman, Rhétoriques, université de Bruxelles, 1989, P : 99
نقلاً عن: محمد الوالي، مدخل إلى الحجاج، أفلاطون وأرسطو وشايم بيرلمان، عالم الفكر، العدد 2، المجلد 40، أكتوبر- ديسمبر 2011، ص: 33- 34.
6. حاتم عبيد، منزلة العواطف في نظريات الحجاج، عالم الفكر، العدد 2، المجلد 40، أكتوبر- ديسمبر 2011، ص: 255.
7. الراضي رشيد، مرجع سابق، ص: 147.
8. نفس المرجع، ص: 150.
9. Frans Van Eemeren et Rob Crootendost, les sophisme dans une perspective pragmatic- dialectique, dans l’argumentation, liège, 1991, P : 189
نقلاً عن: الراضي رشيد، مرجع سابق، ص: 8.
10. طه عبد الرحمان، اللسان والميزان أو التكوثر العقلي، المركز الثقافي العربي، 1998، ص: 230.
نقلاً عن: رضوان الرقيبي، الاستدلال الحجاجي التداولي وآليات اشتغاله، عالم الفكر، العدد 2، المجلد 40، أكتوبر- ديسمبر 2011، ص: 93.
11. محمد عبد السلام الأشهب، أخلاقيات المناقشة في فلسفة التواصل لهابرماس، دار ورد الأردنية، 2013، ص: 49-56.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها