قصُّ الأثر فـي تحـولات القصيدة ومصيرها

قراءة في كتاب {البقع الشعرية والأرجوانية}

سعيد نوح


"البقع الشعرية والأرجوانية مقاربة جمالية في ديوان لا حرب في طروادة، كلمات هوميروس الأخيرة" عنوان مجازي لكتاب نقدي صدر مؤخراً للباحث العراقي محمد صابر عبيد، عن دار خطوط بالأردن، حيث يقرأ فيه تجربة شعرية مميزة في المدونة الشعرية العربية، وهي تجربة ديوان" لا حرب في طروادة: كلمات هوميروس الأخيرة" للشاعر اللبناني نوري الجراح.


 

ويعد هذا الكتاب إضافة نوعية للمكتبة النقدية العربية، حيث اشتمل على عدد من المباحث المعرفية بدأت بمبحث تحت عنوان: "شاعر قصيدة النثر: تجربة قصّ الأثر"، يكشف فيه الفروق الجوهرية بين شعراء قصيدة النثر والتفعيلة والشعر الموزون، حيث يقول: "يختلف شاعر قصيدة النثر اختلافاً جوهرياً كبيراً عن شاعر قصيدة الوزن، وعن شاعر قصيدة التفعيلة أيضاً، ليس في نوع القصيدة –وهو أمر أساسي وجوهريّ- فحسب، بل في طريقة التعامل البالغة الخصوصيّة مع اللغة ومع مفهوم الشعر وأسلوبيّة الأداء وطريقة التعبير وأفق التشكيل، إذ يخوض شاعر قصيدة النثر تجربة نوعيّة خطيرة شئنا أن نطلق عليها هنا "تجربة قصّ الأثر"، بالمعنى التشبيهيّ الذي يتنكّب فيه هذا الشاعر مهمة الدليل في صحراء شاسعة لا تقود إلا إلى مزيد من التيه، فاللغة التي يتحرّى شاعر قصيدة النثر استثمار طاقاتها هي لغة ثانية غير اللغة الشعريّة المتعارف عليها في تجربتي قصيدتي الوزن والتفعلية.

كذلك يقدم رؤية جديدة لمعنى الشعرية، ويستجلي فيه وعيه بالرؤية الشعرية، التي يرى أنها: "جوهر الفعل الشعريّ، ولا شعر من دون رؤية شعرية تحدّد طبيعة القصيدة وتوجهاتها وتركيباتها وجواهرها ومقاصدها".

ولا يكتفي عبيد بذلك بل يواصل استقصائه لمفهوم "الرؤية الشعرية"، الذي يتعدى حدود وجهة النظر في العالم والكون والأشياء إلى دليلِ عملٍ شعريّ له علاقة بتحوّلات القصيدة ومصيرها، فهو يرى أنه مثل ما ترسم الرؤية صورة القصيدة بمختلف طبقاتها وهيآتها وتفاصيلها وتطلّعاتها ومضمراتها وتشكيلاتها العليا والدنيا.

ولا يبالغ عبيد حينما يصف التجربة الشعرية بأنها: "السلاح الفنيّ والجماليّ المُدافِع عن وجودها والحامي لرسالتها وخطابها. لا يمكن فهم وجودٍ حقيقيّ حيّ للقصيدة بلا دفاعات ذاتيّة تصدّ هجماتٍ شرسةً متوقّعةً ضدّ هذا الوجود وتسعى إلى تفكيكه ونثره وإنقاص شعريّته، بما يجعل الرؤية الشعرية على هذا النحو الحاملَ الأساسَ الذي ينهض بشعرية القصيدة وانطلاق خطابها في منطقة القارئ، بما تنطوي عليه القصيدة من أطروحات ومقولات وقضايا ونُظُم بناء وتشكيل وتعبير متعدّدة تتفاعل فيما بينها، وبما تعلنه من مواقف وما تضمره من قيم لا يمكن الوصول إليها بسهولة إلا بقدرات قرائية نوعية قادرة على فكّ شفراتها".

ويفسر عبيد مقصوده بالعنوان "البقعة الأرجوانية"، ويبرر استخدامه مع تجربة ديوان "لا حرب في طروادة.."، فيقول: "لا تتوقّف عتبة العنوان عند هذه الجملة المنفيّة بل تمتدّ كي تعبر إلى الجانب الآخر حيث يمكث هوميرس بجانب ملحمته المهدّدة بالإلغاء والنفي، فيظهر اسمه مقترناً بكلماته الأخيرة "كلمات هوميروس الأخيرة" التي لا يمكن أن تكون سوى اعتذاره عن ابتكار حرب لا وجود لها، سخّر لها جهداً ملحمياً إبداعياً هائلاً استمرّ مدوّياً طيلة قرون، فالكلمات الأخيرة هي كلمات ما قبل الموت عادة حيث يدلي القائل بآخر ما تحتويه جعبته من كلمات، يمكن أن تقال على سبيل طلب العفو والتوبة على ما اقترفه من ذنوب يكبر حجمها إلى أقصى حدّ في هذه اللحظات، على النحو الذي تتوازى فيه جملتا العنوان:
"لا حرب في طروادة: كلمات هوميروس الأخيرة" إذ تقابل مفردة "حرب" في الجملة الأولى مفردة "كلمات" في الجملة الثانية، وتقابل مفردة "طروادة" مفردة "هوميروس" مثلما تقابل "لا" النافية للجنس مفردة "الأخيرة"، في معادلة كلامية لا تبتغي فعالية التوازي الدلاليّ التناظريّ المجرّد، بل التعاشق الدلاليّ التفاعليّ في توحيد الصورة باتجاه تشكيل شعريّ مشترك".

ويرى عبيد أن موضوع القصيدة وحده لا يؤسّس للقصيدة التي تسعى إلى تمثيل تجربة نوعيّة تُخلصُ لأطروحتها وتستجيب لمقولتها، بل لا بدّ من عناصر تشكيل وتعبير حيويّة مصاحِبة تلتقط جوهر الموضوع وتمضي فيه على طريقة قصّ الأثر، كي يكون بوسعها بناء سلسلة من البقع الأرجوانيّة تنتشر على مساحة القصائد بأسلوبيّة حِرَفيّة عارِفة وقادرة على احتواء حركيّة الوجدان، وحساسيّة الرؤية، وأفق الفكر، وجوهريّة الثقافة، ونزاهة الأيديولوجيا، وطرافة التجربة.

أما في مبحث "الاندفاعة الأولى: أسطرة التجربة الشعريّة" يحلل فيها إحدى قصائد الديوان باحثاً عن البقعة الأرجوانية، فيقول: "ثمة مفارقة عالية الوضوح في عتبة عنوان الاندفاعة الأولى في شاشة الانطباع القرائيّ الأوّل بين "الملهاة الدمشقيّة" و"لسان الجحيم"، فمصطلح "الملهاة" في الفضاء المسرحيّ داخل الثقافة الأدبية الإغريقية هي عكس "المأساة"، إذ تحيل الملهاة على الكوميديا في حين تحيل المأساة على التراجيديا، والعنوان الثاني: "لسان الجحيم" هو عنوان تراجيدي بامتياز، لا يتلاءم منطقياً مع ما يحمله العنوان الأوّل "الملهاة".

كما أنه يكشف عن مفهوم "حساسية الصوت الشعري" بأنه "لا يكتفي الصوت الشعريّ في حساسيّة اشتغاله على المصير الكونيّ للبشريّة بالوقوف عند عتبة صوغ الإيقاع حتّى تتحرّك الأفعال الشعريّة داخل حدود قابلة للفهم والإدراك، بل تحشد طاقاتها كي تستعيد الزمنَ في لعناته التاريخيّة الضارية والضاربة في أعماق الضعف البشريّ".

كذلك يحلل عبيد مفهوم "الإيقاع الصوتي" الذي يؤسس لإيقاعية جديدة لقصيدة النثر تنبع من طبيعة الموضوع الشعري والرؤية الشعرية.

أما مفهوم" التنويرُ الصوريّ: من البقعة إلى اللقطة الشعريّة" فيقارب من خلاله إحدى قصائد الديوان، فيرى أن "رِيَاشٌ سَوْدَاءْ" في مقاطعها المتلاحقة تحفل بعناقيد متشابكة من البقع الشعريّة الأرجوانيّة التي تُنتِجُ لقطات شعريّة تشعّ بالتنوير الصوريّ، إذ في كلّ مقطع من مقاطعها تكمن مجموعة من البقع وتعمل بوصفها مساحة شعريّة صالحة لتكوين صور، وهذه الصور تتكاتف فيما بينها لترسم التشكيل السيميائيّ العام لصورة أكبر تسعى نحو بناء مقولة شعريّة خاصّة.

أما عن تجليات الفنون الأخرى في الديوان، فقد بحثه في محور بعنوان: "المحكي الشعريّ وسردنة التنوير" حيث تناول فيه بالنقد والتحليل قصيدة "سَرَابْ"، فيرى عبيد أن" نوري الجرّاح يتحرى ابتداءً من عتبة العنوان خاصيّة التشكيل العلائقيّ بين صفة المحكي في طبقة القول وصفة الشعريّ في طبقة الكلام، فالعنوان المفرد المنكّر "سراب" ينفتح على طاقة هائلة من الاحتمالات الدلاليّة والسيميائيّة والرمزيّة، من حيث قدرة المفردة على تشكيل صورة دلاليّة ذات ذخيرة مرجعيّة متعدّدة ومتنوّعة تتشظّى في السلّم الدلاليّ الصاعد إلى هالات لا حصر لها، وتحاول كلّ هالة مفردة منها أن توهم المتلقّي وتصرف نظره باتجاه أهميتها وصلاحيتها للاعتماد التحليليّ، وهي صفة تنويريّة تساعد على توسيع دائرة النور في هذه العتبة الابتدائيّة".

أما "المكان الشعريّ التنويريّ وتشكيل البقع الأرجوانيّة" فيتضح بحسب الباحث في قصيدة "السَّائِحُ فِي اللَّيلْ" حيث يرى أنها "تبدو من عتبتها العنوانيّة أنّها قصيدة لا مكانيّة؛ لأنّ طبيعة الدال الخبريّ "السائح" تلغي على نحو ما فكرة الاستقرار المكانيّ، وتعبّر عن فكرة التحوّل المكانيّ واختراق ثباته وتموضعه حول صورة معيّنة قارّة، لكنّها توحي بالمكان في استثارة طاقته التنويريّة وهي تتأتى من سلسلة البقع الشعريّة الأرجوانيّة المكوّنة للقصيدة".
 

وينهي محمد صابر عبيد كتابه بخاتمة عنوانها: "البقعة الأرجوانيّة الختاميّة" حلل فيها القصيدة الأخيرة من الديوان والتي جاءت بعنوان: (ما بعد القصيدة)، كشف فيها عن سيميائية العنوان ودلالته الكلية التي يمكن أن تنسحب على بقية الديوان، كما أنه يقرأ العنوان بوعي نقدي مغاير، فيقول: "عنوان (ما بعد القصيدة) عنوان مثير على صعيد فهم معنى "ما بعد" بوصفه إحالة على ما هو غير شعريّ خارج جسد القصيدة؛ لأنّ القصيدة على وفق دلالة هذه الجملة العنوانية تبدو وكأنّها قد اكتملت واستوت على ما تنوي إثارته من مقولات ورؤى وقيم وأفكار وحساسيات، ليكون ما بعدها شيئاً آخر لا يمكن البتّ بحساسيته الفنية قبل امتحانه واختبار نصّه على وفق بيانات أكيدة وراسخة، إذ تبدأ رواية الحدث بوساطة راوٍ بدا موضوعياً خارجياً يسعى إلى تقرير الأشياء وتثبيت معالمها، ويتشبّع استهلالها بتناصّ قرآنيّ يحيل على إتمام التجربة "الرسالة" وإشباع القصّة القائمة على الرؤيا اليوسفيّة، ضمن مسارات وخطوط وتشكيلات وهيآت يتمّ تنويرها بفعل هذا التوازي السيميائيّ بين طرفي التناص".

إنه نص مواز كتب بلغة نقدية تتوسل ببلاغة اللغة الشعرية بما يناسب قراءة مختلفة لديوان شعر متميز.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها