التطبيقات الذكية!

كيف أضحت خير جليس في الزمان؟

د. العربي إدناصر

التطبيقات الذكية على الهواتف النقالة بالخصوص أو على أجهزة الحاسوب، هي كثيرة ومتنوعة وتختلف وظائفها وما تصلح له، فمنها المرئية ومنها السمعية ومنها الكتابية، ومنها ما يجمع بين كل ذلك، كاليوتيوب والتوتير والفايس بوك والانستغرام والسكايب كلها خدمات تُشغل بالإنترنيت وتعمل كتطبيقات فورية، أي تعتمد التراسل الفوري والتواصل الآني، والسرعة في تقديم الخدمات عن بعد.
وفي زمن "كورونا/كوفيد 19" أصبحت هذه التطبيقات لسان حال العالم، وتبوأت منزلة كبيرة في حياة الناس، فقد غدت شريكاً حيوياً لمختلف الفاعلين في الحياة اليومية، في الاقتصاد والسياسة والإدارة والتربية والقضاء، بل إنها أضحت قضية فقهية في أمور العبادة والتدين.

 

اجتماع الأذهان يغني عن اجتماع الأبدان

فبفضل هذه الطفرة التكنولوجية والتقنية أصبح بالإمكان عقد مفاوضات ولقاءات واجتماعات، ومن ثم ضمان استمرار المرفق العمومي أو الخصوصي دون تعطيل المصالح الحيوية للمواطنين والزبناء، وكل هذا من غير حاجة إلى اجتماع الأبدان والتقاء الأيدي، بل يكفي الدخول في العالم الافتراضي والنقر على التطبيقات التي توفر خدمات التواصل عن بعد، بالصورة والصوت والكتابة حسب نوعية التطبيق المستخدم.
فقد هيأت هذه التطبيقات مجالس افتراضية وغرفاً مغلقة ومفتوحة للشركاء الاقتصاديين والزملاء الإعلاميين، وأفراد العائلة فيما بينهم والأسرة التربوية فيما بينهم والمنتخبين فيما بينهم، وغيرهم من خلق الله في أرجاء المعمور، فينحشروا في أجهزتهم اليدوية مختارين ومفعمين بروح العمل والمداومة، أو لأجل صلة الرحم والتزاور دون استخدام وسائل النقل، بل في إطار الوجود الذهني المجرد الذي تتيحه تقنيات الصورة والصوت والكتابة في الألواح الذكية، التي أصبحت شرعة المتواصلين، وآلة السفر عبر الزمان والمكان، كما تتخيلها أفلام الخيال العلمي.

فقد حلّت هذه التطبيقات مشكلة الالتقاءات والمعانقات المباشرة، وأفضت إلى ما يمكن تسميته بالعناق الإلكتروني الافتراضي، وخصوصاً في أيام العيد الذي تحصل فيه مبادلة التحايا والتهانئ، فتستعيض عن الالتحام الجسماني بالالتقاء الافتراضي عبر ملاقاة الصور والوجوه وتبادل النظرات والمشاعر والكلمات، وكأنه جزء من اتحاد المكان والزمان في صيغة ما في إطار الوجود بالقوة.
والاجتماعات الإدارية هي بدورها في زمن العزل الصحي وجدت طريقة فريدة لتعويض هذا الحصار، وانقلبت إلى اجتماعات افتراضية عبر الإنترنيت داخل الهواتف والحواسيب، حيث تنعقد هذه الاجتماعات وتناقش جدول الأعمال وتستمر في العمل المهني، وكأن المرفق العمومي أو الخصوصي مفتوح ومستمر في وظيفته الاقتصادية أو الاجتماعية أو الثقافية، وهذه التقنية لجأت إليها المؤسسات الاقتصادية والتعلمية والحكومية والخصوصية والبرلمانات والحكومات وغيرها من المؤسسات.

أما المدارس والجامعات التي تم إغلاقها في زمن الحجر، فقد شكل التعليم عن بعد إنجازاً لمختلف الحكومات والوزرات المشرفة على قطاع التربية والتعليم، وأصبح بالإمكان استمرار العملية التعلمية عن بعد، عبر تسجيل الدروس والمقررات في شكل فيديوهات مصورة يلقن فيها الأساتذة دروسهم بشكل يومي، أو عبر تسجيل هذه الدروس صوتياً، أو حتى عبر إنشاء نوافذ تسمح بدخول أفراد الفصل أو القسم والمشاركة الفورية في الدرس نقاشاً وتحليلاً، بحضور الأستاذ ومع التلاميذ أو الطلبة، فهي نوع من الدروس التفاعلية غير التلقينية.
فأصبح بالإمكان توفير مدارس متنقلة وفصول دراسية متنقلة، لإعطاء الدروس وضمان سنة دراسية مستمرة، ولتفادي سنة بيضاء بغير تحصيل، في انتظار انتهاء زمن الحجر واتخاذ القرارات المناسبة لكل دولة على حدة في فتح المؤسسات التعلمية كلياً أو جزئياً وحسب إجراءات خاصة، لأجل الاستمرار في العام الدراسي أو فقط لأجل إنجاز الامتحانات خصوصاً لأقسام البكالوريا، حتى لا يمضي هذا العام دون نتائج، وبعض الدول أعلنت بالفعل نجاح التلاميذ وفي غياب الامتحانات اعتمدت نقاط الدروس الحضورية والمراقبة المستمرة.

وبفضل هذه التطبيقات أيضاً، انتشر التسويق الإلكتروني وأصبح بديلاً عن التسويق في المتاجر بعد إغلاقها وفرض الحجر، وأصبحت المنتوجات المختلفة أجهزة كانت أو خدمات الأداء أو غيرها متوفرة في الإنترنيت تباع بأثمة السوق، كما أصبحت الأغذية والمأكولات أيضاً متاحة عبر طلبيات توجه إلى المطاعم المفتوحة ويتم التسليم في البيت عبر العنوان الموضوع في الطلبية.
 

القراءة والمشاهدة وفتوحات التكنولوجيا

الجسم الصحفي والإعلامي باعتباره ممن تعرض لهذه الجائحة، ومن ضحايا غياب المشترين والزبناء من القراء اليوميين، وخصوصاً الصحف الورقية اليومية، وكذلك بعض المجلات الشهرية أصبح لزاماً عليها أن توقف النشر الورقي وتحوله إلى النشر الإلكتروني بصيغة "البي دي إف" (pdf)؛ لكي تضمن الاستمرار في العمل، ومواكبة الجائحة ومختلف الأحداث المتصلة بها، إضافة إلى تغطية مختلف الأخبار العامة المحلية والدولية وما أكثرها، وهذا طبعاً لا يدر عليها المال ولا يسمح بتقوية موارد الصحف، بل يزيد من معاناتها المالية ويفرض عليها مجهوداً جديداً.
وما دام وقت الحجر في أغلبه وقت فراغ قاتل أحياناً، فكّرت بعض المتاحف والمكتبات في فتح أرشيفها ومنتوجاتها في وجه العموم للقراءة والمشاهدة دون تحميل المحتويات، لمواكبة الإقبال على مواد هذه الأرشيفات وضمان فعل القراءة والمشاهدة والاستمتاع بمحتوياتها، دون التنقل إلى مقرات المتاحف والمكتبات التي قد يؤدي فتحها إلى الاختلاط بين المصابين والمتعافين، فينتشر الوباء على أكثر من صعيد جراء الاختلاط. وهذه الخدمة تفيد الطلاب في الحصول على المصادر والمراجع التي يحتاجونها في بحوثهم، وبعضها مخطوط غير متوفر في الأسواق، مما يشجع على فعل القراءة والمطالعة الحرة.

ودور السينما التي بدورها أغلقت أبوابها في وجه روادها، توجد بعض التطبيقات التي تقدم عروضاً سينمائية للمشاهدين، وهي منتوجات حديثة توضع رهن المشاهدين، عبر الاشتراك في تلك البوابات الإلكترونية (netflix)، ومن خلالها توجد مكتبة هائلة من المواد التي يختار منها المشاهد ما يشاء، من الأفلام السينمائية والأعمال التلفزية والمسلسلات والبرامج.

وما ينطبق على المتاحف والمكتبات والسينما يجري على المساجد ودور العبادة في زمن الخوف والجائحة، إذ حتى الصلاة والشأن العبادي أصبح قريباً إلى العالم الافتراضي، إذ ثار نقاش فقهي حول إمكانية الصلاة خلف المذياع أو التلفاز أو غيرهما، وشكل موضوع "اتحاد المحل" موضوعاً للاجتهاد في غياب المساجد وغلقها، بسبب خشية تفشي كورونا مع الازدحام الحاصل فيها، ففي رمضان أثير مشكل صلاة التراويح خلف الأجهزة الإلكترونية والصلاة خلف إمام حقيقي، ولكنه ليس قريباً من المأمومين ولا يشترك معهم في الصلاة بالمسجد، وهذا الموضوع يعتبر نازلة فقهية جديدة موضوعة للاجتهاد.
كما شكلت هذه التطبيقات نوافذ جديدة وسريعة الخدمة، لمتابعة كل ما يتعلق بالوباء، إما مع المؤسسات الرسمية الأمنية أو الطبية أو الإعلامية، ولكن بعضها صار ينشر الأكاذيب والإشاعات اليومية التي تزيد من هموم الناس وترعب الجهات الرسمية والأهلية؛ لأن نقل لأخبار دون تمحيصها يفضي إلى نقل الأكاذيب وترويجها على أوسع نطاق، وقد يؤدي نشرها إلى تصرفات غير محسوبة وإلى نشر أخبار من شأنها عرقلة العمل الحكومي، أو إلى اتخاذ إجراءات صحية مكذوبة تضر بالصحة وتزيد من انتشار المرض.

ومن التطبيقات الذكية التي رأت النور ما يتعلق بمراقبة تطبيق الحجر الصحي، حيث تم استخدام تقنيات تراقب التطبيق الحرفي لهذا النظام الوقائي، عبر استخدام طائرات بدون طيار تسمح بالدخول إلى الأحياء والأزقة وتغطي أسطح المنازل، كي تعطي صوراً حية ومشاهد فورية عن مدى استجابة المواطنين للحجر، وهناك تطبيقات تثبت في هواتف المصابين لمتابعتهم وأخرى تثبت في أجهزة كل مواطن، تراقب حرارة جسمه لتؤشر عند الضرورة على وجود الفيروس في الجسم في حالة ارتفاع درجة الحرارة.

وإجمالاً فعلى عكس الحالات الوبائية التي شهدها العالم قديماً وحديثاً، بشأن ظهور المرض الهائل أو الجائح أو القاتل أو الأسود كما تعنون كتب التاريخ عن الطاعون وغيره من الأوبئة المعدية، فقد تطور الوعي الصحي للناس بفضل تطور التكنولوجيا وتطبيقاتها الفورية وسعة انتشارها، وكثرة وتنوع الأجهزة المستقبلة التي تثبت فيها، مع القدرة على اقتنائها لعموم الناس، بما يسمح بتبادل المعلومات ونشر الأخبار وتحقيق إجماع فيما يتعلق بالإجراءات الصحية.
لكن يعاب على هذه التكنولوجيا المتطورة أنها وسائل غير آمنة بشكل قاطع، وأنها سلاح ذو حدين حين تغدو وسائل للنيل والابتزاز والتجسس، فمن العيوب التي تسجل هذه التقنيات أن الاجتماعات التي تعقد من خلالها توجد إمكانية تسريب وقائعها وتسجيل هذه الجلسات والتجسس على ما يدور فيها، إذا لم تكن التطبيقات المستعملة محمية ومؤكدة الخصوصية، لأن بعضها سهلة الاختراق ورخيصة التكلفة، وتتولاها شركات صغير أو ليس لها إمكانيات هائلة في الحماية، مع العلم أن نسبة الاختراقات والتجسسات والبرامج التي تعمل على ذلك كثيرة في زمن كورونا، لأن أغلب المعاملات تمر عبر الإنترنيت، مما يغري الجواسيس ومحترفي السرقات إلى الاستيلاء على المحتويات الخاصة، وربما تعرضوا إلى سرقة شيفرات وحسابات بنكية، أو تحويل أموال الغير إلى حساباتهم وأرصدتهم، أو ربما تتيح هذه التطبيقات إمكانية انتحال صفة شخص ما والتحدث وإجراء العقود باسمه.

وهذه الثغرات هي موضوع سياسي وأمني وتكنولوجي، ربما يغدو حديث المستقبل الرقمي في ظل الخوف من عودة أزمنة أخرى من الأزمات، والحاجة إلى استخدام العالم الرقمي في مواكبة العمل العادي للمؤسسات، حين الاضطرار إلى غلق المقرات والمباني التي تجرى فيها الأنشطة الرسمية لهذه المؤسسات، وفي ظل ازدياد المخاوف من عودة هذه الأمراض الفتاكة والمعدية مع ما تحدثه التكنولوجيا من مخاوف تتعلق بالثقة والأمن، فإن القادم من الأعوام ستكون هذه التحديات بالفعل العناصر المؤسسة للعنوان الحصري للمستقبل الذي هو "زمن الخوف" بامتياز، وهو ساحة مفتوحة للصراع على القوة والنفوذ بوسائل مجهرية ودقيقة، إما فيروسات تصيب الأبدان وتفتك بالأرواح، وإما فيروسات تصيب الأجهزة وتفتك بالألواح، وفي المحصلة فإن المناعة الذاتية والمناعة الإلكترونية هي الكفيلة بضمان العيش في الواقع الملموس والافتراضي، وتحصين الأنظمة الصحية والرقمية معاً من تسرب العناصر الغريبة والدخيلة عليها.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها