مجازات في أفعال القراءة والفهم والتأويل

لدى كافكا وبارث وكالفينو

د. عبد الكريم الفرحي

كتب فرانز كافكا (Franz Kafka) -قبل أن يستريح في سرير السكينة الأبدية بعامين- ما يلي: "إن ما تنوي جميع هذه المجازات في الواقع قوله هو أنّ المبهم مبهم؛ وهذا ما عرفناه، إلا أن المشاكل التي نصارعها كل يوم هي أشياء أخرى".
حول هذا الموضوع سأل أحدهم: "لماذا هذا العناد؟ إذا قمتم بملاحقة المجازات ستصبحون أنتم أنفسكم مجازات، وتحلّون بهذه الطريقة جميع مشاكلكم اليومية".
قال آخر: "أراهن على أن هذا أيضاً مجاز".
قال الأول: "لقد ربحت".
قال الثاني: "لكن للأسف مجازياً فقط".
قال الأول: "كلا، في الحياة الواقعية؛ أما مجازياً فقد خسرت"1.
قبل ذلك بسنوات، كان كافكا قد كتب إلى صديقه أوسكار بولاك (Oskar Pollak): "على المرء ألا يقرأ إلا تلك الكتب التي تعضه وتُوخِزه. إذا كان الكتاب الذي نقرأه لا يوقظنا بخبطة على جمجمتنا فلماذا نقرأ الكتاب إذاً؟ على الكتاب أن يكون كالفأس التي تهشم البحر المتجمد في داخلنا"2. إثر ذلك، ردد أحد النقاد مُؤكِّداً: "إن كتابات كافكا هي ضربة فأس ضد البحر المتجمد فينا"3. لكن ما المتجمد فينا حقاً؛ بحر الواقع، أم بحر المجاز؟ نُقدِّرُ أن الجواب ليس اختياراً بين ذَيْنِكَ الحَدَّيْن، وإنما هو برزخ واقع بين بحرين، إنه الغوص في بحر الواقع مجازياً من خلال فعل القراءة، كما لدى فرانز كافكا(Franz Kafka) ورولان بارث (Roland Barthes) وإيتالو كالفينو (Italo Calvino) حيث كل واقع ليس إلا نصاً مجازياً، وكل مجاز ليس إلا واقعاً نصياً.
 


أولا: القراءة من الفهم إلى تقويض الفهم

1- مجازات دوّارة
في مدارات فعل القراءة ومجازاته، يرتسم الواقعُ نصّاً والنصُّ واقعاً، وينتظم العَالَمُ كِتاباً والكِتابُ عَالـَماً، وينتصب الكَاتِبُ قارئاً والقارئُ كاتِباً... إنها لعبة المجازات الدوّارة بين المتن وحوافه، القاعدة فيها: حين ينكتب الأول متنا، ينتحي الثاني إلى مقام الحواف. وحين يغدو الثاني متناً، يروح الأول إلى مَرَابِع الهوامش الحافة به. إننا إزاء مرآة هذا التناوب في شرك "مجازات دوارة للانهائية القراءة"4.
خذ حذرك أيها القارئ... ههنا "كل شيء مختلف عما يبدو عليه في الظاهر، كل شيء بوجهين"5؛ وجه للحقائق ووجه للمجازات. ونحسب أن ثمة وجهاً ثالثاً للبرزخ بينهما. يلاحقه فعل القراءة في محاولة للإمساك بكل الظلال؛ "ظلال الخيال وظلال الحياة"6. وهل فِعلُ القراءة -وفقاً لمقولة ابن الهيثم- إلا استجلاءٌ "لما قد تفصح عنه الكتابة من تلميحات وظلال"7.
أما عن حكايتنا مع فعل القراءة فهي حكاية عن محاولة العثور على معنى في كل شيء نقرؤه، "في المناظر الطبيعية، في السماوات، في وجوه الآخرين، وبالطبع في الصور والكلمات التي يخلقها جنسنا. نحن نقرأ حياتنا الخاصة وحياة والآخرين، نقرأ المجتمعات التي نعيش فيها وتلك الواقعة وراء الحدود، نقرأ الصور والأبنية، نقرأ ما يكمن بين دفتي كتاب"8. نقرأ كل "خطاب دال (...) يقول شيئاً عن شيء"9. إننا نقرأ -وسنقرأ- ما دام هنالك كتاب. والكتاب -بعين الحقيقة والمجاز- كتابان: أحدهما مسطور، والآخر منظور. أحياناً يكون الأول "المعادلَ للعالم غيرِ المكتوب مترجماً إلى كتابة"10. وأحياناً يكون "نظيراً للعالم غير المكتوب، موضوعه هو بالضرورة ما لا يوجد، وما لا يمكن أن يوجد، إلا عندما يُكْتَب"11. أما عن انسحاق المكتوب تحت وطأة اللامكتوب فيمكن أن يستشف من مقطع بديع نجتزئه من الرواية الطليعية "لو أن مسافراً في ليلة شتاء" لإيتالو كالفينو: "أضع عيني في النظارة المقربة، وأصوبها نحو القارئة. بين عينيها والصفحة فراشةٌ بيضاءُ ترفرف. أيّاً كان ما تقرؤه، فمن المؤكد الآن أن الفراشة هي التي تستولي على اهتمامها. العالم غير المكتوب بلغ ذروته في هذه الفراشة"12 إذاً، ها أنت ترى أن العالَمَ المكتوبَ يتضاءل حدَّ الانسحاق بإزاء مرآة العالم غير المكتوب، فتأمل.

إن تاريخ النوع البشري مُثْخنٌ بالأدلة على استبطاننا لكفاية عشْقٍ جبار للقراءة، كما أن أحرف الكتاب المفتوح أمامنا -مسطوراً كان أم منظوراً- لا تفتأ تستبد بخلدنا لما تستضمره من قابليات منفتحة للقراءة. وإن شئت الاستقراء، قلنا مستعيرين كلام ألبرتو مانغويل (Alberto Manguel): إن "عالِمَ الفلك يقرأ في السماء النجومَ التي اندثرت منذ زمن بعيد مضى، ويقرأ المهندسون المعماريون اليابانيون طبيعةَ قطعة الأرض كي يبنوا عليها بيتاً بطريقة تحميهم من الأرواح الشريرة، ويقرأ الصيادون والباحثون الطبيعيون آثار الحيوانات في الغابة ويتقفون خطاها (...) ويقرأ الآباءُ في وجوه أطفالهم علاماتِ السعادة أو الخوف أو الاندهاش، ويقرأ العرافون الصينيون رسوماتٍ موغلةً في القدم محفورةً على درع سلحفاة، ويقرأ المحبون جسد العشيقة في الظلام تحت الغطاء، ويساعد علماء النفس مرضاهم في قراءة آلامهم الغريبة، ويقرأ صيادو السمك في جزر هواي التيارات البحرية بوضع أيديهم داخل الماء..."13. إذاً، لا نستطيع أن نجزم أننا الوحيدون في مراتع القراءة. إننا جميعاً نقرأ... نقرأ أنفسنا والعالم من حولنا من أجل أن نستنير، أو كي نقترب من أن نستنير، وربما من أجل أن نُقوّض وهمَ الاستنارة الذي كاد يغشي أعيننا ببطانة من ظلام.

2- مجازات وهم الفهم
في رسالة من كافكا إلى صديقته فيليس باور (Felice Bauer)، كتب ما يلي: "كانتْ ليلةَ سهادٍ وأرقٍ يُقلّب فيها المرءُ نفسَه في الساعتين الأخيرتين منها كي ينام نوماً إجبارياً متخيلاً، ليلةً ليست الأحلامُ فيها أحلاماً، والنومُ ليس نوماً"14. حسناً، كيف يكون النوم متخيلاً؟ والأحلام كيف لا تكون أضغاثَ رُؤى في الأذهان بل تغدو حقائقَ في الأعيان؟ هل هي نبوءة ليلة انمساخ البطل في رواية المسخ؟ حين "أفاق غريغور سامسا ذات صباح من أحلام مزعجة، فوجد نفسه قد تحول في فراشه إلى حشرة ضخمة..."15. إن هذا التناظر بين ما ورد في الرسالة وما ورد في مستهل الرواية يرسخ انطباعاً بوجود تعالق بين وعي المنظور ووعي السرد، لا، بل يكاد يتجذر إلى حد التماهي بين أحلام المتخيل الواقعي لفرانز كافكا في ليلة السهاد والأرق، وأحلام المتخيل المجازي لبطله غريغور سامسا (Gregor Samsa) في ليلة الانمساخ، الذي تأكد لاحقاً أنه "لم يكن حلماً"16، وإنما كان تحولاص حقيقياً وانمساخاص.

إن مقتضى مجازات فعل القراءة في مثل هذا النص المفتوح يستوجب إدراكَ أن إقامة المعنى يتطلب أكثر من مجرد تشخيص هوية الكلمات خطياً. فمن أجل الفهم، نحن "لا نقرأ بالمعنى الحرفي للكلمات، بل إننا نقوم بإنشاء معنى لها"17. وفي سياق سيرورة إنشاء المعنى، يعالج القراء النص، ويقومون بخلق صور وتحولات من أجل إدراك ترابطاته. المثير في هذه السيرورة هو أن القراء "لا ينشئون المعنى أثناء القراءة إلا عند إقامة علاقات بين معارفهم وذكرياتهم وخبراتهم وبين الجمل والعبارات والمقاطع المكتوبة"18. ولذا لا جرم أن يتعدد الكتابُ كلّما تعدد قُرّاؤه.

كتب ألبرتو مانغويل مدلياً برأيه حول تعدد قراءات "المسخ" لكافكا: "عندما كانَتْ في سن الثالثة عشر، قرأَتْ ابنتي راحيل "المسخ" لكافكا، فوجدت الروايةَ مسليةً، وقرأ غوستاف يانوش الرواية كحكايا دينية وأخلاقية، ورأى برتولت بريشت فيها عمل "الكاتب البلشفي الحقيقي الأوحد"، وسماها عالم الآداب والناقد الهنغاري جورج لوكاتش "الإنتاج النموذجي للبرجوازي المنحط"، وفهمها بورخيس على أنها تتمة لتناقضات زينون الرواقي، وامتدحت فيها الناقدة الأديبة الفرنسية مارتا روبرت فصاحة اللغة الألمانية، وبدت لفلاديمير نابوكوف (جزئياً) كمجاز للخوف أثناء المراهقة..."19. غير أن المؤكد يواصل مانغويل هو "أن روايات كافكا الغنية بتجاربه في القراءة تولد وهم الفهم وتحطمه في الوقت نفسه"20. إن الأغبياء –يقول أمبرتو إيكو- "هم الذين ينهون السيرورة قائلين: لقد فهمنا"21.

ثانيا: ما بعد الصفحة الأخيرة والبياضات المنسية

1- مجازات ما بعد الصفحة الأخيرة
بعد كتابة الصفحة الأخيرة، يغدو المؤلف مجرد اسم على واجهة الغلاف، عتبة من عتبات المكتوب، قدحة من نار تتلاشى في أتونِ لهيبٍ يُذكي مراجلَه قارئٌ متربصٌ لا يخشى قواعدَ الاشتباك، تماماً مثل لودميلا (Ludmilla) في رواية "لو أن مسافراً في ليلة شتاء"؛ المرأة التي تقرأ دوماً كتاباً آخر بجوار الكتاب الذي أمام عينيها؛ "كتاباً لم يوجد بعد، لكن، لأنها تريده، فلا يمكن أن يمنع عن الوجود"22. لودميلا القارئة لا تعبأ بأركيولوجيا العلامات السوداء النحيلة التي يتشكل منها المكتوب، لودميلا القارئة تلاحق شيئاً لا يزال قيد الصيرورة، تمضي نحو "ما سيكون، ولا أحد يعرف بعد ما الذي سيكون"23. أو مثل المارقة لوتاريا (lotaria)، تلك التي تقرأ قصص كاتبها المفضل بإخلاص، غير أنها تقرؤها فقط لتجد فيها ما تقتنع به قبل القراءة. وحين يبادر الكاتب بمساءلتها حول إصرارها ومشاكستها، ترد باندفاع وبغَيْظٍ غيرِ مكظوم: "ولماذا؟... أتريد مني أن أقرأ في كتبك ما أنت مقتنع به فحسب؟"24.
بين موت المؤلف وانبعاث القارئ تكمن مفارقة مجازية: مُحْتضِرٌ يَهَبُ الحياةَ في لحظة الموت... عندما اختلق المؤلف دور القارئ فإنه مَهَّدَ السبيلَ إلى حتفه. ومقتضى هذا أنه "عندما يختتم نصه يتوجب عليه الابتعاد عنه والتوقف عن الوجود"25. فطالما بقي المؤلف موجوداً فإن النص يظل غير مكتمل، وما أن يُطلق سراحُ النص بكتابة الصفحة الأخيرة حتى يُعْلَن عن تكبيل المؤلف. في هذه اللحظة يغدو النصُّ الـمُسَرَّحُ وحيداً منسياً مفتقراً إلى سخاء القارئ المنبعث لتوه. يموت المؤلف ليحظى النص بالتبجيل، يختفي المؤلف إلى الأبد "تاركاً النص يأخذ مجراه"26، وفق توصيف جاك دريدا (Jacques Derrida). الكتاب يمنح القارئ أملاً من خلال الكتابة، والقارئ يمنح الكتاب أملاً من خلال القراءة. أمل مشروط باستبدال قصدية القارئ بقصدية الكاتب، والاستعاضة عن مجد الكاتب بمجد القارئ، إن مجد القارئ يبتنى على فرضية تقول: "إنه بإمكان النصوص أن تقول كل شيء باستثناء ما يود الكاتب التدليل عليه"27. وهذا وجه من أوجه مجازات ما بعد الصفحة الأخيرة.

2- مجازات السطح والعمق
أنت أيها القارئ، "لا تثق بالسطح المتألق للكلمات بل نَقِّبْ في الظلمة"28. فكل قراءات السطح هدامة، وكل قراء السطح واهمون، وزبد السطح يذهب جفاء... ضع ثقتك في العمق، فصيادو الأعماق قليلون، في العمق مَغَاصُ الدرر غير المكتوبة. وكثافة اللامكتوب أبلغ –قطعاً- من شفافية المكتوب، والجوهري دائماً غير باد للعيان. القراءة مثل أفعال التفكير والإبداع والغوص وصيد الدرر... تحتاج إلى زمن وعمق.
قراءة السطح لا تقدم شيئاً "سوى ما يمكن للأحاسيس أن تدركه فوراً، فجأة، وعلى نحو سريع الزوال"29، أما قراءة العمق فَتَخُصُّ كتباً مصفوفة في رفوف الذاكرة، تشتبك معها، تناورها، تحاورها، تتناص معها لأجل تنضيد الكتاب المثالي لقارئ مثالي... قراءة العمق تحمينا من سقوط الأجوبة السطحية على جماجمنا. قارئ العمق يقرأ لا من أجل العثور على الأجوبة، لا، بل "من أجل أن يطرح الأسئلة"30، وفق ما قرر كافكا.
إن المعرفة السرية معرفة عميقة، ذلك أن ما يوجد تحت السطح –يقول أمبرتو إيكو- "وحده يظل مجهولاً لفترة طويلة. وبناءً على ذلك فإن الحقيقة ستكون هي ما لم يقل، أو هي ما قيل بطريقة غامضة، ويجب أن تفهم في ما هو أبعد من ظاهر النصوص"31. أما إيتالو كالفينو فقد كان يمجد قارئه المثالي بالقول: "أيها القارئ... أنت الشخصية الرئيسة بالمطلق في هذا الكتاب"32. قارئ العمق المثالي يبحث في كل قراءة عن كتابٍ كُتِبَ له حصرياً. ولأن كالفينو يُدرك ذلك جيداً، فإنه خاطب قارئه قبل البدء في فعل القراءة، أنْ "استرخ، ركز واحتشد، بدد أية أفكار أخرى، دع العالم حولك يتلاشى"33. القارئ العميق قارئ مستغرق متربص بنفائس العبارات وأرواح الكلمات الشارداتِ خلف الأسطر الطافية، والثاوياتِ في البياضات المنسية.

3- مجازات الثقوب البيضاء
يتضاءل النص المسَوَّدُ أحياناً، لينتهي به الأمر إلى هامش على متن مجازات الثقوب البيضاء. الثقوب البيضاء هي الإحداثيات الأكثر نصاعة في النص، الناضحة بألف معنى ومعنى لكنها جميعاً مخاتلة، لا تتكشف إلا لمن "يستطيع أن يقرأ أكثر" ومن "يستطيع أن يرى ضعف ما يراه الآخرون"34، لمن يرى العلامات السوداء، ويرى أكثر الثقوب البيضاء. الثقوب البيضاء هو بوابة الدخول إلى المناطق النائية والمخفية في عوالم النص. قارئ مجازات الثقوب البيضاء "يقيم صلات وروابط ضمنية ويسد ثغرات، ويتوصل إلى استنتاجات وتجارب من أحاسيس باطنية، وذلك يعني الاعتماد على معرفة ضمنية بالعالم عموماً وبالأعراف الأدبية على وجه الخصوص. والنص ذاته ليس في الواقع سوى سلسلة من الإلماعات"35. وإن شئنا توظيف مصطلحات نظرية التلقي، قلنا: "إن القارئ يملمس العمل الأدبي" والذي مهما بدا متماسكاً فهو "مُكَوَّنٌ فعلياً من ثقوب"36.
قراءة الثقوب أو الفراغات أو "ضروب اللاتحديد" -وفق اصطلاح رومان إنغاردن (Roman Ingarden)- هي وظيفة قارئ مجازات الثقوب البيضاء. في هذه المساحات الفارغة المغفلة من قبل مؤلف حاول التغلب على ما دعاه ستيفان مالارميه (Stéphane Mallarmé)" البياض المخيف للصفحة"، يمكن للقراء "ممارسة قوتهم"37. في تلك الفجوات يكمن "جوهر الإثارة"38، وفق ما قرر رولان بارث. من سماكة السواد نحاول أن نكسو عري البياض، ومن نصاعة البياض نسعى إلى التنوير على السواد. لذا نقدر أنه ما لم تُقرأ مجازاتُ الثقوب البيضاء لصار الكتاب قاحلاً كالأرض اليباب. إذا؛ طوبى لقارئ البياض وتبّاً للسواد.

ثالثاً: شبقية النص وأجنحة التأويل

1- مجازات الاشتباك مع النص
إن استيهامات الاشتباك مع النص قد تبلغ مجازياً مقاماً شبقياً. فمن منظور نظرية لذة النص ونص اللذة، يغدو فعلُ القراءة استيهاماً مجازياً للاشتباك الشبقي. من هذه الزاوية لم يكن باولو وفرنشيسكا (Paolo & fracesca) "قارئين مثاليين"39 -يقول ألبرتو مانغويل- بما أنهما اعترفا لدانتي (Dante Alighieri) أنهما بعد قبلتهما الأولى كفا عن القراءة؛ لو كانا قارئين مثاليين حقا لما كفّا عن الاشتباك مع الكتاب حتى لو بلغا حداً شبقياً. إن لذة النص ليست أقل اشتهاءً، يقول بارث إنها: "شبيهة بتلك اللحظة غير المستقرة، وغير الممكنة، والروائية البحتة، إنها تلك اللحظة التي يتذوقها الداعر في نهاية مؤامرة جريئة، وهو يقطع الحبل الذي يشنقه، في اللحظة التي يلتذ فيها"40.
في برزخ مجازات فعل القراءة -كما يُقرأ النصُّ جسداً- يُقرأ الجسدُ نصاً أيضاً، تماماً مثل جسد لودميلا في رائعة إيتالو كالفينو، وتحديداً في المقطع التالي، فتأمله... "لودميلا، أنتِ الآن تُقْرَئين، وجسدك عرضة لقراءة ممنهجة (...) غشاوة عينيك، ضحكاتك، الكلمات التي تقولينها، طريقتك في لَمِّ وفَرْدِ شعرك، مبادراتك وتكتماتك، وكل العلامات التي تقع في تخوم الحدود ما بين الاستعمال والعادات والذاكرة وما قبل التاريخ، وكل الشفرات ومنظومات الرموز، كل الأبجديات البائسة التي يظن بها كائن إنساني –في لحظات معينة- أنه يقرأ كائناً إنسانياً آخر"41.

قراءة الجسد تتماهى مع قراءة النص، كلاهما ينتظران لحظة احتدام الاشتباك الشبقي، من أجل اختراق الامتلاءات والفراغات وانتهاك تخوم السوادات والبياضات... لكن خذ حذرك أيها القارئ، لا تفرط في استيهاماتك، فلودميلا تستقرئ جسدك أيضاً، "تمر بسرعة على الفهرس، وفي بعض اللحظات تعود إليه، كأنما وُوجهت بأوجه غموض مباغتة ومحددة... تسائله وتنتظر..."42 ألا إن للسؤال لَلَذَّةً وهَزّة، ألا إن اللذة هي "هزة السؤال"43، وفق عبارة بارث.
ما يجعل النصَّ جسداً والجسدَ نصاً هو أن كليهما يستبطنان أسئلة وأزمنة وأمكنة مفتوحة. لكن مهلاً، قد تكون ثمة فروق بسيطة؛ في نص الجسد القراءة لا تكون أبداً خطية، إنها تبدأ من أية نقطة "تقفز، وتكرر ذاتها، وتذهب إلى الخلف، تتشبث، تتشعب في رسائل متزامنة ومختلفة، ثم تلتقي من جديد في نقطة واحدة، لها لحظات من التهيج، تقلب الصفحة، تجد مكانها، يسكن الفقدان؛ اتجاه يمكن تمييزه في ذلك، طريق لنهاية، لأنه ينزع صوب ذروة، وبهذه النهاية في المشهد يرتب مراحل منتظمة الإيقاع، أبيات شعر مقطعة إلى تفعيلاتها"44. لكن الذروة ليست في الوصول إلى النهاية، الذروة تكمن في الاقتراب من النهاية، لكن دون الوصول إلى نهاية.
كذلك الحال في جسد النص، ما دام أن له تجلياً إنسانياً، ولنقل بعبارة بارث: إنه "جناس تصحيفي للجسد"45. إنه نص مِغْناج، يحاول إغواء قرائه، بيد أن القراء لا يحترمون كمال النص ولا خطيته، فنحن "لا نقرأ كل شيء بكثافة القراءة نفسها"46، بل إن إيقاع قراءاتنا يكون محكوماً بالتعطش إلى بلوغ "مواضع الطرفة المحرقة"47؛ هنالك حيث الجسد واللغة يتمفصلان ويحترقان في آن.

2- مجازات أجنحة التأويل
هنالك خمس قواعد منهجية لتأويل كل أنواع النصوص تقريباً، لكن لسوء الحظ لا أحد من القراء أو النقاد يعرف ما هي... في حفريات الهيرمينيوطيقا48 والظاهراتية وسيرورات التأويل، بدْءاً من فقه لغة النصوص الكلاسيكية، تحديداً نصوص العصور الإغريقية واللاتينية القديمة والنصوص المقدسة ومقالات الإشراقين والعرفانيين المسلمين، ووصولا إلى فريدريك شلايرماخر، وفلهالم ديلتاي، ومارتن هايدغر، وإدموند هوسرل، وهانس جورج غادامر، وبول ريكور، وجاك ديريدا، وأمبيرتو إيكو... ثمة قاعدة تكاد تكون ثابتة هي: حيث يكون المجازُ يكون سوءُ الفهم، وحيث يكون سوء الفهم يكون التأويل.

في نهاية رواية المسخ لكافكا، نفق غريغور سامسا في عتمة التقزز والنسيان، وصاحت الخادمة مبتهجة بأعلى ما يكون الصوت: "انظروا لقد نفق، إنه يستلقي هنا وقد نفق... ودفعت للتدليل على كلامها جثة غريغور -إلى ناحية ما مسافة طويلة- بعصا مكنستها"49. لقد مات غريغور سامسا –يقول فلادمير ناباكوف (Vladimir Nabokov): معلما تلاميذه كيف يقرؤون كافكا- لأنه لم يدرك أن الحشرة التي مُسِخ إليها كانت "تحمل جناحين تحت ظهرها المدرع، ولو قُدِّرَ لغريغور اكتشاف هذه الأجنحة لكان قادراً على الهرب" من موت تراجيدي. ثم يستطرد نابوكوف قائلاً: "الكثير من الناس نَمَوا مثل غريغور، غير واعين أنهم أيضاً يملكون أجنحة ويمكنهم الطيران"50. طوق نجاة المسخ كان مخبوءاً تحت جناحيه، ووفاة غريغور سامسا لم تكن قدراً مقضياً، وفق مجازات أجنحة التأويل.

كتب جي. كي. تشسترتون (G.K. Chesterton) في إحدى مقالاته: إن "في كل كتاب هناك خمس أو ست كلمات مطمورة في مكان ما، والتي من أجلها في الواقع ستكون كل الكلمات الباقية مكتوبة"51. نحسب أن كلمة "الجناحين" واحدة من الكلمات المطمورة، لا، بل غير المكتوبة أصلاً في مسخ كافكا، التي اهتدى إليها نابوكوف من أجل دفع حتمية الموت القدري لغريغور سامسا. قد لا يكون ثمة دليل على أن الكاتب قصد متعمداً طمر كلماته السرية، لكن من منظور مجازات فعل القراءة "يمكن لكل قارئ العثور عليها في الكتب التي يحبها حقاً"52. وتلك -لا شك- مفارقة مرحة من مفارقات هيرمينيوطيقا النصوص والمجازات المخبوءة تحت أجنحة تأويل حقائقها السرية.
 

:: على سبيل الختم ::

كان توما الكمبيسي (Thomas a Kempis) يلقن تلاميذه: "خذوا الكتاب بأيديكم كما أخذ الشيخ سمعان الطفل يسوع في حضنه بالحنان والتقبيل. وعندما تنتهون من القراءة عليكم غلق الكتاب، وأن تشكروا على كل كلمة تلقفتموها من فم الرب، نظراً لأنكم وجدتم كنزاً مخفياً من حقل الرب"53. إننا نقرأ، ما دام ليس ثمة ما يمنعنا من الوصول إلى كنوز مكتوبة تستحق القراءة، وإذا مُنِعْنا، فحتماً "في المرسوم الذي يحظر القراءة سيبقى شيء ما مقروءاً من الحقيقة التي لا يُراد لها أن تُقرأ"54. لقد حظر بينوشي (A. Pinochet) كتاب دون كيشوت، لأنه اعتقد أنه يحرض على العصيان المدني. بيد أن مجازات دون كيشوت غير قابلة للحظر. إن الأنظمة الشمولية ليست الوحيدة التي تخشى مجازات فعل القراءة، بل "حتى في ساحات المدارس وفي خزائن الملابس وفي دوائر الدولة والسجون... تجري مراقبة جمهرة القراء بعين الارتياب، نظراً لما يشعر به المرء من سلطان القراءة وقوتها الكامنة"55.
إن الدفع بالقراء إلى الأصقاع النائية والرغبة في نفيهم إلى سديم ما قبل فعل القراءة لَيقتدحُ في دواخلهم شبقيةً متأججةً أكثر لمعانقة كل أجساد النصوص، تماماً مثل ما كتبتْ الأديبةُ اليابانية ساراشينا واصفةً لحظةً من لحظات شبابها "عندما كنتُ معزولةً في ذلك الريف النائي، طرق سمعي نبأُ وجود كتب في هذا العالم، وسرعان ما أصبَحَتْ أكبر أمنياتي أن أقرأ هذه الكتب... وفي حيرتي هذه، اقتنيتُ تمثالا لبوذا كان بحجمي، وعندما أَجِدُني وحيدةً، كنت أغتسل وأتسلل إلى غرفة المعبد ملقيةً بنفسي على الأرض أمام التمثال، وأُصلّي: آه يا بوذا، ساعدني على الانتقال إلى العاصمة، هناك حيث توجد كتب كثيرة، وساعدني رجاء على قراءتها جميعاً"56. إنه بالإمكان أن نتصور أنه في مقدورنا قراءةُ كل كتب العالم إلى آخر صفحة منها، لكن مجازياً علينا الإقرارُ بأنه ليس في مقدورنا أبداً أن نصل إلى الصفحة الأولى.


لائحة المراجع والمصادر
1. تاريخ القراءة: ألبرتو مانغويل، ترجمة سامي شمعون، دار الساقي، بيروت، ط 1، 2001.
2. التأويل بين السيميائيات والتفكيكية: أمبرتو إيكو، ترجمة وتقديم سعيد بنكراد، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط1، 2000.
3. صراع التأويلات دراسات هيرمينيوطيقية: بول ريكور، ترجمة منذر عياشي، دار الكتاب الجديد المتحدة، ط 1، بيروت، 2005.
4. فرانز كافكا: الآثار الكاملة مع تفسيراتها، ترجمها عن الألمانية إبراهيم وطفي، توزيع دار الحصاد للنشر، دمشق، ط2، 2003.
5. فن القراءة: ألبرتو مانغويل، ترجمة عباس المفرجي، دار المدى، ط 1، بيروت، 2014.
6. لذة النّص، رولان بارت، ترجمة منذر عياشي، مركز الإنماء الحضاري، ط 1، حلب، سوريا، 1992.
7. لو أن مسافرا في ليلة شتاء: إيتالو كالفينو، ترجمة حسام إبراهيم، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، 2013.
8. من النص إلى الفعل، أبحاث في التأويل: بول ريكور، ترجمة محمد برادة وحسان بورقية، ط منشورات عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية، القاهرة، ط 1، 2001.
9. نظرية الأدب: تيري إيجلتون، ترجمة ثائر ديب، دار المدى للثقافة والنشر، بيروت، ط1، 2006.
الهوامش
1. تاريخ القراءة: ألبرتو مانغويل، ترجمة سامي شمعون، دار الساقي، ط 1، 2001، بيروت، ص: 103.
2. تاريخ القراءة، ص: 112.
3. فرانز كافكا، الآثار الكاملة مع تفسيراتها، ترجمها عن الألمانية إبراهيم وطفي، توزيع دار الحصاد للنشر، ط2، 2003، دمشق. ج1، ص: 5.
4.تاريخ القراءة، ص: 202.
5. لو أن مسافراً في ليلة شتاء: إيتالو كالفينو، ترجمة حسام إبراهيم، الهيئة العامة لقصور الثقافة، 2013، القاهرة. ص: 287. 
6. المرجع نفسه، ص: 78.
7. أوردها ألبرتو مانغويل في: تاريخ القراءة، ص: 52.
8. فن القراءة: ألبرتو مانغويل، ترجمة عباس المفرجي، دار المدى، ط 1، 2014، بيروت. ص: 11.
9. صراع التأويلات دراسات هيرمينيوطيقية: بول ريكور، ترجمة منذر عياشي، دار الكتاب الجديد المتحدة، ط 1، 2005، بيروت. ص: 34.
10. لو أن مسافراً في ليلة شتاء، ص: 226.
11. المرجع نفسه، ص: 227.
12. نفسه، ص: 227.
13. تاريخ القراءة، ص: 17 – 18.
14. فرنز كافكا، الآثار الكاملة: ص: 432.
15. رواية المسخ، فرانز كافكا، ضمن: فرانز كافكا، الآثار الكاملة، ص: 327.
16. المرجع السابق، ص: 327.
17. تاريخ القراءة، ص: 51.
18. المرجع السابق، ص: 51.
19. المرجع نفسه، ص: 112.
20. نفسه، ص: 112.
21. التأويل بين السيميائيات والتفكيكية، أمبرتو إيكو، ترجمة وتقديم سعيد بنكراد، المركز الثقافي العربي، ط1، 2000، الدار البيضاء، ص: 43.
22. لو أن مسافراً في ليلة شتاء: إيتالو كالفينو، ص: 104.
23. المرجع السابق، ص: 105.
24. المرجع نفسه، ص: 244.
25. تاريخ القراءة، ص: 207.
26. أوردها ألبرتو مانغويل، في: تاريخ القراءة، ص: 211.
27. التأويل بين السيميائيات والتفكيكية: أمبرتو إيكو، ص: 43.
28. فن القراءة، ص: 25.
29. المرجع السابق، ص: 27.
30. أوردها ألبرتو مانغويل، في: تاريخ القراءة، ص: 107. 
31. التأويل بين السيميائيات والتفكيكية: أمبرتو إيكو، ص: 31.
32. لو أن مسافرا في ليلة شتاء، ص: 287.
33. المرجع السابق، ص: 19.
34. استوحينا الجملة من قول مأثورللشاعر الأثيني مناندر (القرن الرابع ق.م) إذ قال " من يستطيع أن يقرأ يرى ضعف ما يراه الآخرون".
35. نظرية الأدب: تيري إيجلتون، ترجمة ثائر ديب، دار المدى للثقافة والنشر، ط1، 2006، بيروت، ص: 126- 127.
36. المرجع السابق، ص: 127.
37. فن القراءة، ص: 192.
38. المرجع السابق، ص: 192.
39. المرجع نفسه، ص: 231.
40. لذة النص:، رولان بارت، ترجمة منذر عياشي، مركز الإنماء الحضاري، ط 1، 1992، حلب، سوريا. ص: 28.
41. لو أن مسافرا في ليلة شتاء، ص: 206.
42. المرجع السابق، ص: 206.
43. لذة النص، ص: 111.
44. لو أن مسافرا في ليلة شتاء، ص: 207.
45. لذة النص، ص: 42.
46. المرجع السابق، ص: 34.
47. المرجع نفسه، ص: 34.
48. من ضمن تعريفات كثيرة للهيرمينيوطيقا، آثرنا تقديم تعريف لبول ريكور، نظراً لكونه مختصراً وموافقاً لسياق دراستنا. يقول: "إن الهيرمينيوطيقا هي نظرية عمليات الفهم في علاقتها بتأويل النصوص: "ينظر كتاب: من النص إلى الفعل، أبحاث في التأويل: بول ريكور، ترجمة محمد برادة وحسان بورقية، ط منشورات عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية، 1، 2001، القاهرة، ص: 58.
49. فرانز كافكا، الآثار الكاملة، ص: 391.
50. فن القراءة، ص: 242.
51. المرجع السابق، ص: 42.
52. المرجع نفسه.
53. تاريخ القراءة، ص: 19.
54. لو أن مسافرا في ليلة شتاء، ص: 314.
55. تاريخ القراءة، ص: 34.
56. المرجع نفسه، ص: 260.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها