هُوية الذات وتجاوز العزلة

قراءة أدبية من منظور نفسي في "وادٍ غير ذي بوح"

د. رشا الفوال


على افتراض أن الكتابة تبحث عن (هوية الذات) كنتاج اجتماعي يعبر عن استجابات الإنسان في مواجهة مواقف الحياة مقارنة بالآخرين، والانحياز لحقوقه وجدارته بحياة بعيدة عن خطاب الوصاية وسطوة الأنساق المجتمعية التي تلاحقه؛ فإن للمرأة حضورها الأدبي البارز الذي تجاوز قضية النوع الاجتماعي وتمرد عليها، منفتحاً بذاته على عالم أرحب من الإنسانية؛ مفهوم (الذات) هُنا دال على التكوين المعرفي المتعلم، ولأن الهوية ترتبط بالفكر؛ فهى بالضرورة مشروع متشابك مع الواقع والتاريخ، وظيفتها تتلخص في حماية (الذات) من عوامل التعرية والذوبان.

 

نسعى في القراءة الحالية لمجموعة "واد غير ذي بوح" الشعرية، الفائزة بجائزة الشارقة لإبداع المرأة الخليجية عام 2018م إلى فهم أدب الشاعرة: بدرية البدري على مصباح من علم النفس، مع التعويل على البُعد الاجتماعي ودوره في إدراك العلاقات الخفية التي منحت القصائد خصوصيتها، وأدت إلى خلق تآلف بينها وبين المتلقي بما تبعثه من دفقات شعورية، وكأننا نعني بفهم الاقتران بين معطيات العمل الإبداعي وأسلوب الشاعرة في تجاوز عزلة (الذات)، وسعيها لخلق تمازج مفعم بالحيوية بين تلك المعطيات؛ ولأن الأدب لا يتعامل مع الهوية كجوهر ثابت أو ماهية متكاملة سابقة على وجود الإنسان؛ بل حقيقة مصنوعة من خلال الواقع والتاريخ؛ ففي الهوية الثقافية تشتعل جدلية (الذات/ الآخر)، وبالتالي تُعيد كل جماعة بشرية تأويل ثقافتها1، والتي سنتناولها من خلال المحاور الآتية:

أولًا: عقلانية الذات وثنائية (الصمت/ البوح)

على افتراض أن "المسافة النفسية التي تُحافظ على التوازن الأنطولوجي للذات كفيلة بأن تجعلها تُمسك باللحظة التاريخية"2؛ فوظيفة (الأنا) في الزمان والمكان جاءت دالة على درجة وعي الشاعرة بتبادل أدوار الإنسان كذكرى في معادل موضوعي بين الحنين و(الاستلاب) عندما تقول في قصيدة "الثالثة والنصف ما قبل الرحيل": "أهدهد قلبي المذعور كي يغفو.. إذا خان الحنين حكاية النسيان في صدري وناجاكِ"، وبين اليقين بهاجس الفجيعة وخطاب الوصاية عندما تقول في قصيدة "ياعيد عدني لا تعُد": "غن/ وأيقظ من غفا/ وخيال من رحلوا احتضن/ ياعيد عدني لا تعد/ إلا وقد ضحك اليمن"، فرادة صوت الشاعرة هُنا تردنا إلى الوعي الجمالي المرتبط بأحاسيس (الوحدة)، و(القلق) كدوافع لخلق علاقة حميمة بين واقع المرأة ومعطيات (الخيال الشعري) من ناحية، و(التمرد) من أجل تفكيك الترتيب القيمي من ناحية أخرى؛ فتقول في قصيدة "غمازة في الخد الأيسر" معبرة عن الجسد بوصفه إعادة طرح لطاقات (الذات المكبوتة): "كلما سقطت على جسدي السنون/ جريت أحتضن الشوارع في الظلام/ أهش أشرعة المواجع"، وفي قصيدة"جُرح" تقول: "جئت أحمل في دمي جرحًا وأخشى أن أموت ولا تموت جراحي/ يقف الحديث بطرف جفني حائرًا/ ويضم صمتي غصة الأفراح". فالتداخل الزمني جاء دالًا على وعي (القلق) القائم على "الحضور المركزي للذات في العالم؛ فوعي الذات يمثل لحظة امتلاكها لفاعليتها الراهنة"3.

ولأننا في محاولات جادة لاستقراء (الأنا) الشاعرة ودورها في (المونولوج)؛ نجد (الإفصاح الذهني) عن حالة التعارض بين نمطية الواقع وصياغة جوهر الذات القائم على (التخييل) حيث الطابع التحويلي بين الأنا (الخارجي/ الداخلي) بارزًا في قصيدة "لا ما شاء حراسي"؛ فتقول: "لي الأحلام/ لي ما شئت/ لي التاريخ/ أنا النقص الذي تلقاه مكتملًا". وفي قصيدة "مصباح النبوات" تقول: "أنا الصغيرة العابي على كتفي/ عني أفتش/ علي أقتفي أثري/ نصف الأحاديث يلهو فوق حنجرتي والنصف أسلم للتأويل أبياتي"، حيث الخطاب مرتبط هُنا بفكرة ذلك الواقع الذي تتخيله، كما أن المناجاة الداخلية أيضاً تفترض وجود آخر (مخاطب) في قصيدة "لوزية العينين" حيث تقول: "لا يغريك غير توتري/ شغف احتراقي/ واشتباه تبعثري" لنكتشف أن (الأنا) الفردية في حواريتها الغارقة في الذاتية، لا بد أن يكون لها (آخر) تستدعيه كمقابل (تخييلي)، وقد ترى الشاعرة في هذا (الآخر التخييلي) جزءاً من (الأنا) الفاعل.

ثانياً: توترات الراهن والوحدة النفسية

على افتراض أن صوت (الأنا) التخييلي المسكون بالماضي في قصائد المجموعة هو الإطار الجمالي الذي جاء متشبعًا بطاقات لغوية ساهمت في كشف علاقة (الذات/ الآخر)؛ نجد أن هناك وعياً منشقاً عن ذلك الصوت منطلق في (الحُلم) حتى وإن لم يتحقق، اعتراضًا على القيود المجتمعية، اتضح ذلك في قصيدة "سلام علينا" حيث تقول: "سلام علينا/ فلا الحب نبغي/ ولا الحلم أمَّ الوفاء وصلوا علينا/ فماذا تبقىَّ؟/ وماذا ارتأينا؟". وفي قصيدة "حكاية منسية" تقول: "يا طفلتي في القلب ألف رصاصة/ لكن نبضي والحشا أحرار". وفي قصيدة "للموقد حطبا" حيث تقول: "تكسرني الرجفة/ والأطفال/ حديث الصمت مع البارود يقض الملعب والعتبا"، هُنا يتضح (المعنى الحضاري للرمز) الذي "ينشأ من نزوع المبدع إلى التجسيد وإلى رؤية الأفكار في شكل شخوص يحركها"4، من خلال الانخراط في ثنائية (الممكن/ المستحيل) اعتماداً على آلية (الاستباق) في قصيدة "سيأتي" حيث تقول: "يوماً ما سيقول الشِعر حكاياه". والتركيز على (وعي الذاكرة) من ناحية أخرى؛ فنجد أن الشاعرة في قصيدة "انعتاق" تعبر عن وحدتها النفسية معتمدة على آلية (الاسترجاع) حيث تقول: "الليل في جفني وما انعتقا/ وأنا الغريق بضعفه غرقا/ كل المدائن ودعت شفتي/ وأهيم في أمسي ويربكني/ صمت يخالج خافقًا قلقاً". وهذا ما يقودنا إلى طرح إشكالية تتعلق أساسًا بــ(الوحدة النفسية) كموضوع للكتابة، وكيف استطاعت الشاعرة أن تجعل منها فلسفة قائمة بذاتها في (التفرد)، وهو الأمر الذي مكنها ربما من تجاوز الصراع القائم بين الواقعي والمتخيل5، ورصد حالة التردد بين الأفكار المختلفة بحيث تكون كل فكرة ممهدة للفكرة التي تليها.

✧✧✧


على اعتبار أن كل قصيدة وحدة قائمة بذاتها إلا أن قصائد المجموعة في مجملها تحدثنا عن إفصاح الشاعرة (الذهني)؛ وحالتها النفسية التي شكلت وحدات (عرفانية) لا تتجزأ؛ يقابلها في الذهن حالة (وعي) تتجلى عندما تتحول الملامسات الحسية إلى ملامسات لغوية، تعبر عن الجسد بوصفه تجسيدًا شعريًا للغة؛ ولأن أعضاء الحِس أعضاء انتخاب؛ جاء الانفعال كحالة وجدانية عنيفة تصحبها اضطرابات فسيولوجية وتعبيرات حركية مختلفة، كانفعال الخوف والحزن والخجل ورثاء الذات"6. وفي إطار علاقة (الأنا) الشعرية بــ(الآخر) جاء التجاوب الانفعالي الدال على قدرة الشاعرة على التعبير بتلقائية عن انفعالاتها؛ ليجد المتلقي نفسه أمام كتابة تسعى منذ البدء لمواجهة العالم من خلال وجهة نظر خاصة تركز على (الأنا) بوصفها أهم مصادر المعرفة في علاقتها مع (الآخر)، تلك التي تتصف بــ(الذاتية المتبادلة)؛ في ظل واقع اجتماعي تمثلت دوافعه في (دوافع الغاية)، التي تعني بآلية (الاستباق) والتي تم تفسيرها في ضوء أهداف الشاعرة، عندما تقول: "يومًا ما/ سيقول الشِعر حكاياه"، و(دوافع السبب) التي تعني بآلية (الاسترجاع)، والتي تم تفسيرها في ضوء ميول الشاعرة عندما تقول: "وأهيم في أمسي ويربكني/ صمت يخالج خافقًا قلقاً".

كما لاحظنا كيف جاءت لغة الشاعرة المضمخة بـالتوتر والتحدي والتمرد المضمر متأرجحة بين طغيان (الأنساق الاجتماعية)، والسعي إلى (الفردانية) من جهة، و(أرق الحرية) من جهة أخرى، خاصة فيما يتصل بدلالات المعاناة التي كرست (قلقًا داخليًا) برز من خلال العبارات المأزومة التي انعكست في الملفوظ (اللفظي/ النفسي)، إلا أن الرغبة في تحقيق (فردانية الذات) في اللحظة الزمنية الحاضرة جعلت الشاعرة تقف موقف المتسائلة الحائرة في كثير من قصائد المجموعة؛ عندما تقول: "من أنا؟/ عيناك روحي كيف أنزعها؟/ كالحكايات التي صمتت قبيل الفجر ماتت شهرزاد فمن سيكملها؟/ هل للحرب أجراس فنطرقها لنحيا/ من الموت للموت نرتد، نمضي، فمن ذا يجيب إذا الكل نادى"؟ فإذا بالمشهد اللغوي يتحقق من خلال فهم المتلقي للتزامن بين رؤيتها لمعنى القصيدة كموضوع، وطلبها للمعرفة اليقينية بحال التوتر والقلق؛ ذلك التزامن الذي يعني تكوين علاقة بين موضوعين فأكثر؛ هما الموضوع المكاني والموضوع الزماني.

ولأن (فلسفة التفرد) يحركها البحث عن الانسجام بين الطبيعة والإنسان؛ فظواهر الطبيعة المأخوذة بعين اعتبار الشاعرة في المجموعة، يمكن اعتبارها إضاءة لتكوين عالم القصائد؛ وكأن العالم الذي يعنيها هو عالم (التأمل الروحي)، تزامن ذلك مع تصورها للطبيعة على أنها ظواهر محسوسة تجسدت في تحليلها المنطقي للأحداث؛ ليصبح ظهور الاستعارات والخيالات من أجل تخفيف الاختلافات بين (الواقعي) و(المتخيل)، فنراها تتجاوز العزلة وتنهي جدل (الصراع) من أجل الحرية والتآلف ليخرج الاستفهام عن معناه الحقيقي إلى معناه المجازي إلى إرادة نفسية ليفيد إثارة الانتباه، ويتحول البكاء بتجلياته إلى دعوة صارخة لإعادة النظر في موروث الكلمات التي تتحدث عن الحزن؛ فالديوان يبدأ باستهلالة قائمة على تبني الشاعرة لخطاب يحمل ثنائية (الألم/ اللذة) فتقول: "كنت أكتب الشِعر عندما اخترقت قلبي رصاصة/ فرحت كثيرًا لأن الحبر كان يوشك على النفاد/ لم أمت/ أكملت كتابة الشِعر/ وصادقت الرصاصة". ففي قصائد المجموعة تتجلى معاني (القلق)، ومعاناة (الذات) التي تترجم الفاعلية النفسية الحاضرة باستمرار من خلال التوتر المهيمن على القصائد، والتي تعد معادلًا موضوعيًا لكثافة التجربة الشعورية ورهافة (الألم)، الذي تم التعبير عنه من خلال الإيحاءات؛ فالكلمة لها ضغط على الوعي، وبحث الشاعرة عن (هوية الذات) جاء كاستجابة طبيعية للظروف الإنسانية التي سعت إلى تجاوزها، من خلال توكيد صورة الهوية في مضمونها الداخلي من جهة وعلاقتها بالآخر من جهة أخرى.

 


الهوامش: 1. حكيمة بو لعشب (2010)، "تحديات الهوية الثقافية في ظل العولة"، جامعة جيجل، الجزائر.2. محمد الحرز (2005)، "شعرية الكتابة والجسد"، ط1، دار الانتشار العربي، بيروت، ص: 72.3. عبد الصمد الكباص، وعبد العزيز بومسهولي (2002)، "الزمان والفكر"، ط1، دار الثقافة، المغرب، ص: 41.4. نبيلة إبراهيم (1979)، "الرمز في الأسطورة"، سلسلة الموسوعة الصغيرة، وزارة الثقافة، بغداد، ص: 85.5. أندريه لالاند (2001)، "موسوعة لالاند الفلسفية"، تعريب خليل أحمد خليل، وأحمد عويدات، ط2، منشورات عويدا، ج 3، بيروت، باريس، ص: 1427.6. أحمد عزت راجح (1999)، "أصول علم النفس"، ط11، دار المعارف، ص: 531.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها