سقوطٌ بسيط!

د. فؤاد عفاني

الحلم خطيئتنا الكبرى، فالأبراج التي نشيّدها بأوهامِ أمنياتنا تتهاوى منذ البدء، الحلم هروب من الواقع نحو مجهول آمن، وخلال رحلة الهروب تلك، نودع اللحظات الراهنة ونحرق أنفسنا من الداخل فتكتمل الأحلام باكتمال الاحتراق... تلك بعض من الكلمات التي خطها مراد على كراسة لا تفارقه أبداً، بعد أن جافته الكتابة لأيام.. لا بد له من أن يكتب شيئاً حتى يأكل شيئاً؛ إنه كاتب، والكاتب أسير الكلمة.. يحيا بها ولها.. لقد قضى حياته ينافح عن المبادئ والقيم، مؤمناً بأن الكتابة رسالة.. تعبير عن موقف ووجهة نظر لبناء مجتمع الحلم، ولكن ها هو الآن مضطر لأن يكتب أي شيء ليأكل.. كل شيء فقد هويته ومعناه، والأغبياء وحدهم من لا يتغيرون.

في الصباح استيقظ مراد دون أن يريد شيئاً من يومه، كل ما أصبح يحلم به أن تنقضي أيامه في هذه الدنيا، أن يغادرها على عجل، كما جاءها على متن صدفة حمقاء.. ارتدى ثيابه على إيقاع بلاهة كل يوم.. في مساحة شقته التي لا ملامح لها قام بسلسلة أفعال متتالية موزعة بين نداءات الطبيعة الإنسانية، ونداءات الشارع اللاإنساني، الذي تقتضي منه أن يلمع حذاءه، ويتأنق في ملبسه، وينتقي كلماته، ويجمِّل نفسه قدر ما يستطيع، ليجد لنفسه موطئ قدم في هذا العالم.

الشارع على عادته الصباحية؛ ضجيج يتعالى رويداً رويداً ليصل أقصاه مع منتصف النهار، ثم يتراجع رويداً رويداً ليبلغ أدناه مع حلول الليل.. الباعة يفتحون محلاتهم، يكنسون ويرشون الماء، حالمين برزق وفير.. الكل ينفق يومه في أمر ما لتحقيق مكسب ما.. إنه منطق الحياة منذ البدء، منذ آدم الذي غامر بكل شيء من أجل الخلود.. مراد أيضاً يغامر بعمره ليصبح كاتباً مشهوراً رغم أنه يعرف جيداً أن زمن الكتابة انتهى ومضى وغادر دون رجعة.. هو متيقن من أن منزلة الكاتب تأتي خلف المغنيات والراقصات والممثلات ولاعبي كرة القدم ونجوم الروتين اليومي... لكنه مع ذلك، مصر على الكتابة، إنه يحلم والحلم حق مباح.. أحياناً حينما يكون مراد في حالة هدوء ودعة، يضع الكاتب في منزلة النبي؛ لأن كليهما لا يَنعم بالراحة وهما معاً يتوقان إلى التغيير، وإلى صناعة إنسان مفرط في إنسانيته. أما حينما تستبد حالات اليأس بمراد فهو يكتفي بخيط دخانِ أملِ حياةٍ بعد الموت؛ فيتذكر كافكا الذي لم تذع شهرته إلا بعد رحيله، ويتذكر أيضاً كيف أن قصيدة الغراب الشهيرة لإدغار آلان بو لم يتجاوز ثمنها وقت ولادتها تسعة دولارات، وقد مات كاتبها المسكين في إحدى مستشفيات لندن بعد أن عُثِر عليه مخموراً يهذي في الشارع. وتنفرج شفتا مراد عن أسنان رمادية حينما يتذكر فان جوخ الذي اتهمه سكان مدينته بالجنون، وكيف مات ولم يبع سوى لوحة واحدة في حياته، بينما تقدر اليوم قيمة لوحته "بورترتيه الدكتور غاشيه" بـما يناهز 152 مليون دولار.

- إنه العبث بعينه، قال مراد في نفسه دون أن تُظهر قسماته أي تعبير، أنا كاتب كبير، رغم أني لم أصل بعد إلى منزلة الجنون؛ والكتاب الكبار طبعاً يُجَنون، يُنفون، يُعدمون ينتحرون... كان مراد يمشي في الزقاق الشعبي الذي اعتاد صخَبَه ونفاياته التي تزكم الأنوف بمزيج من الروائح النتنه.

- أي حظ سيء هذا الذي يجعلني، أنا الكاتب القادر على فهم مشاكل العالم، أعيش بين هذه الكائنات التي لا تفكر سوى في التناسل وملء بطونها.. كان يلعن في داخله الزمن والقدر والناس، حالماً بغدٍ يرتقي فيه إلى مصاف النخبة التي تعيش حياة مختلفة.

العربات تملأ الطريق، والباعة يصرخون بأعلى أصواتهم، ومراد يستغيث بصوته المكتوم. الزحام على أشده والكل يريد أن يجد مسلكاً يتسلل منه للمرور للاتجاه الآخر. مراد يريد أيضاً أن يمرّ دون أن تعلق به روائح السمك، وبقايا الطين العالق بالخضروات. في هذا السوق العشوائي تجد كل شيء؛ الباعة واللصوص والزبناء، والخضر والفواكه وأشياء أخرى لا قيمة لها تباع بأي ثمن، المهم أن الكل يبيع أو يشتري.. يربح أو يخسر.. يَسرق أو يُسرق.. في السوق يلتقي الجميع..

كانت الأفكار تتزاحمُ في رأس مراد، وجسدُه يزاحم الناس ليجد مخرجاً. في أقصى اليسار انتبه مراد لوجود منفذ يمكّنه من ربح بعض المترات نحو الاتجاه الآخر. تدافَع ودَفع.. وكادت رجله تنزلق في ماء جار، ولكنه واصل طريقه لعله ينجو من هذا الموقف الذي يعيشه مرة كل أسبوع.. في كثير من المرات كان لا يخرج من بيته إلى بعد منتصف النهار حينما تخف حركة رواد السوق، أما اليوم فهو مجبر على الخروج في هذا الوقت كي يلاقي صاحب الجريدة، لعله يقنعه بكتابة العمود الأسبوعي، وينال منه ما يمكن أن يعينه على مواجهة تكاليف الحياة.

الطريق غير سالكة؛ فالماء الدافئ اللزج يعيق سير مراد، رغم تخلصه من أجساد الكائنات العابرة. لكن لم يكن يأبه بما يحدث حوله؛ لأنه متمسك بأحلام اليقظة التي تخفف عنه قساوة الوضع. كان يحس أن خطواته طارت به في الفضاء، فراقه ذلك الإحساس واطمأنت روحه؛ لأنه ظن بأن العناية الإلهية قد حلقت به بعيداً حيث يليق أن يكون. كانت البالوعة بطول مراد وماؤها الدافق يستر وجودها.. من هول السقوط لم ينبس مراد ببنة شفة فقد ظل يحلم؛ الكراسة غرقت، والملابس تبللت، والعمود الأسبوعي تناثرت حروفه، لم تبق سوى أيدي كائنات كثيرة تمتد نحوه: هات يدك يا أستاذ.. هات يدك.. إنه سقوط بسيط فلا تخف..

في الزقاق نفسه كان مراد عائداً إلى شقته واجمَ الوجه، وعيناه تحدقان إلى الأعلى وابتسامة بلهاء على شفتيه، وهو يردد بصوت خافت: سقوط بسيط يا مراد.. سقوط بسيط..

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها