من الرتابة إلى الفعل الجريء!

أنطون تشيكوف وتحرير المسرح

عبدالله بن محمد

يعتبر أنطون بافلوفيتش تشيكوف (1860 - 1904) Anton Pavlovich Chekhov من كبار الأدباء الروس، وأفضل كتّاب القصة القصيرة في العالم. كتب مئات القصص القصيرة، معظمها إبداعات فنّية كلاسيكية، ومسرحيات كان لها عظيم الأثر على دراما القرن العشرين.
 

عمل تشيكوف طبيباً وكاتباً مسرحياً وروائيّاً كبيراً. ويُعدّ من أفضل كتّاب القصص القصيرة عبر التاريخ، ومن أبرز مؤسّسي الأدب الروسي. ألّف مئات القصص القصيرة الناجحة، كما كان لمسرحياته تأثير واسع على الدراما في القرن العشرين. بدأ تشيكوف تجربته في الكتابة عندما كان طالباً في كلية الطب في جامعة موسكو، وواصل مسيرته الإبداعية بنجاح حتى أصبح من أعظم الأدباء، دون أن يتخلّى عن مهنة الطب.

لكن بعد كارثة عرض مسرحية "النورس" سنة 1896 قرّر الابتعاد عن الإنتاج المسرحي. وبعد سنتين من الحادثة الدرامية، أعاد قسطنطين ستانيسلافسكي عرض المسرحية سنة 1898 في مسرح موسكو للفنون، الذي احتضن في وقت لاحق أيضًا مسرحية "العم فانيا" لتشيكوف، ومسرحيَّتان جديدتان لتشيكوف عرضتا لأول مرة: "الأخوات الثلاث" و"بستان الكرز"، وشكّلت هذه الأعمال الأربعة تحدياً لفرقة العمل وللجماهير على حد سواء. يحتل أنطون تشيكوف مكانة بارزة في الآداب الروسية والعالمية، فهو في أدب القصة رائد ومؤسّس، إلى جانب الفرنسي غي دو موباسان، والأميركي إدغر ألان بو. لذلك تأثّرت به أجيال كثيرة من كتّاب القصة في العالم، وهو في المسرح مجدّد ومبتكر بعد أن أحدث ثورة هادئة في الكتابة الدرامية بتخلّيه عن التقنيات الكلاسيكية، واستبدالها بصور حيّة عن المجتمع الروسي في عصره، وما زالت مسرحياته تعرض بانتظام في مسارح العالم وتحصد النجاح تلو النجاح. ألّف أربع مسرحيات كُبرى وهي: "النورس" و"العم فانيا"، و"الأخوات الثلاث" و"بستان الكرز".

في البداية كان تشيكوف يكتب لكسب بعض المال فقط، ثم سرعان ما تطورت طموحاته الفنية، وقام بابتكارات رسمية أثّرت بدورها على تطوير القصة القصيرة الحديثة، تكمن أصالتها في الاستخدام المبتكر لتقنية تيار المشاعر الإنسانية، اعتمدها فيما بعد جيمس جويس والمجدّدون. لكن تشيكوف أكّد أنه غير ملزم بالاعتذار عن الصعوبات التي يتعرض لها القارئ، مصراً على أن دور الفنان يقتصر على طرح الأسئلة وليس البحث عن الإجابة. وقد تعلّم الكثير من كتّاب المسرحيات المعاصرين من تشيكوف كيفية استخدام الإطار العام للقصة، والتفاصيل الدقيقة الظاهرة، وتطويع الأحداث الخارجية في القصة لسبر أغوار الشخصيات. تُرجمت أعماله إلى لغات عديدة، آسيوية بالأساس. وترجم الكاتب الأوزبكي الشهير عبد الله قاهور العديد من قصص تشيكوف إلى اللغة الأوزبكية. وقد تأثّر قاهور بتشيكوف واعتبره قدوته وأستاذه.
 

كان تشيكوف في أوج عطائه وقمة مجده حين ألّف مسرحية "الأخوات الثلاث" عام 1990، بطلب من نميروفيتش دانتشنكو، وقسطنطين ستانيسلافسكي لتدشين مسرح موسكو للفن، ولكن النّقاد الذين أثنوا على أعماله السابقة اختلفوا في تقييم عمله، منهم من انتقده بسبب عدم الاحتفاء بالبطل، وغياب الأحداث المهمة في المسرحية، وتخليه عن العقدة والتصعيد الدرامي. وآخرون تحمّسوا للعمل ورأوا فيه براعة في تصوير الحياة اليومية لشريحة من المجتمع الروسي، وجرأة في طرح بعض القضايا النسوية في عصر لا تزال فيه حرية المرأة موضع جدل، وما يزال عملها -خارج البيت- غير مطروح. بين نقاشات عبثية وجدل فلسفي عميق، وبين زيجات مجهضة وعلاقات غرامية خائبة، يعالج تشيكوف ثيمات الزمن الذي يمضي، ويدمّر في مساره الرهيب كل الأحلام والآمال والأعمال، وحتى الاستقلالية والملل عند غياب أسباب النجاح والعلاقات العاطفية.

أما الشخصيات المحورية في هذه الدراما الرباعية والبعيدة عن البنية الكلاسيكية المعهودة - كما يدل عليها عنوانها– فهن ثلاث نساء شابات، قدمن إلى مدينة صغيرة في عمق أحد الأرياف الروسية مع أخيهنّ أندري، الذي سيتزوج فتاة من صغار البورجوازية، ووالدهن الضابط بروزُروف الذي التحق بثكنة عسكرية بالجوار. بعد وفاة الأب، لم يعد للبنات سوى حلم واحد هو العودة إلى موسكو، رمز الفردوس المفقود حيث قضين طفولتهن، ومشروع مستقبلي لبلد يقف على حدّ فاصل بين الأصالة والحداثة. وأثناء مناقشتهن الحلول من كل الجوانب، تلوح بوادر انفراج لتبدّد رتابة الأيام الكئيبة مع ظهور جنود شبان بدؤوا في التردّد على بيتهن، فإذا بماشا -التي تزوجت في ريعان الشباب رجلاً ثقيل الدم- تقع في حب عسكري برتبة مقدّم، وأما إيرينا فيخطبها ضابط آخر برتبة ملازم أول، فيما أختهما أولغا تضج بأحلام وردية مستجدة لا تعرف لها مستقرّاً. ولكن سرعان ما تعود الحياة إلى سالف رتابتها برحيل الفِرق العسكرية، ومقتل الخطيب الشاب إثر شجار، لتجد الأخوات الثلاث أنفسهن في وحدتهن الكئيبة، وتتراكم الخيبات عليهن جميعاً.

في فترة تشهد تحوّلات مجتمعية وشخصيات تتجاذبها التقاليد المترهلة وطوباويات التاريخ، استطاع تشيكوف أن يلتقطها بعين عالم الحشرات، وما ذلك بغريب على من اهتم بالحياة أكثر من اهتمامه بطبائع الأفراد على حدّ عبارة جيمس جويس، الذي يكنّ لتشيكوف تقديراً يفوق ما يكنّه لتولستوي ودستويفسكي وتورغنييف وسائر الكتّاب الروس.

لكن نجاح مسرحية "الأخوات الثلاث" يعود، في جانب كبير، للمخرج الفرنسي ألان فرانسون، أكبر رجل مسرح في روسيا بعد بيوتر فومينكو. ولئن نجح دودين في تنزيل الأحداث موضع الواقع الروسي، مع الحفاظ على تقاليد في المسرح السيكولوجي الروسي، معتمداً في ذلك على سينوغرافيا بارعة؛ فإن فرانسون اختار العودة إلى الجذور واستفاد من مقاربة ستانيسلافسكي في المعالجة الركحية، كما فعل من قبل مع "بستان الكرز" عام 2009، مستخدماً ديكور نهاية القرن التاسع عشر، وأعاد للواجهة ما حرص تشيكوف على إبرازه من مراوحة في الخطاب بين الجوهري والمبتذل، الذي لا معنى له لإضفاء مسحة واقعية ساحرة تتجلى في سائر أدبه المسرحي، الذي لا يختلف كثيراً عن كتاباته النثرية المتميزة.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها