الفكر الأخلاقي علـى مِحكِّ التَّنـوع؟!

بقَلَم: كاترين هالبيرن Catherine Halpern

ترجمة: يحيى بوافي

يبدو أن الصراعات الأخلاقية أمر لا مفر منه سواء بين الثقافات، أو داخل نفس المجتمع، بل وحتى بالنسبة لكل فرد، بحيث يمكن أن تتناقض العديد من المبادئ الأخلاقية؛ أفليس هذا لغزاً مُحَيِّراً للفلسفة الأخلاقية؟
 

لفظ "الأخلاق" واحد من الألفاظ التي نستعملها عموماً ضمن اللسان الفرنسي بصيغة المفرد (la Morale). وهو ما لا يمكن أن يكون إطلاقاً مُجرَّد صُدفة؛ لأن الحديث عن "الأخلاق" بصيغة الجمع سرعان ما يصير مُربكاً، فإذا كانت هناك أخلاق متعددة، فأيُّها سنختار؟ هل ستكون لها جميعها ذات القيمة؟ إنها أسئلة حاسمة ومَفْصلية تطرح نفسها بكامل حدَّتها على العالم المعاصر، وفضلاً عن التبادلات والاتصالات التي تضاعفت؛ فإن الازدهار الذي تعرفه العلوم الإنسانية ليس بالغريب عن هذا الوعي، خصوصاً الأنثربولوجيا والتاريخ اللذان واجها إنسان المجتمعات الغربية الحديثة مع أنظمة قِيَّم أخرى. عندها يمكن أن يظهر كل من الخير والشر في صورة بناءاتٍ اجتماعية خاصة جماعة بشرية.

 عندئذ لا أحدَ سيكون بحاجة إلى اعتبار الثقافات البعيدة في الزمان والمكان. بل إن التنوع الأخلاقي يعشِّش حتى في قلب مجتمعاتنا، وفي العديد من الحساسيات والانتماءات التي تُشَكِّلُهُ. من هنا تنبع الصراعات الأخلاقية التي تعارض بانتظام بين أعضائه المختلفين؛ فالكاثوليكي المُمارس، المعترف بسلطة البابا والمقتنع بالطابع غير الأخلاقي للإجهاض، لا يمكن إلا أن يكون غير متفق مع المناضل الذي يدافع عن الإيقاف الطوعي لنمو الجنين باسم حرية النساء. وتعارضهم يبقى قابلاً لأن يُقرأ من الألف إلى الياء انطلاقاً من التبرير الأخلاقي الذي يلجأ إليه كل واحد منهما، فهل معنى ذلك أن الفلسفة الأخلاقية لا تعدو أن تكون عبثاً دون طائل؟ وما الذي يمكننا أن نرجوه منها؟

نحن مدينون للمفكر البريطاني إشعيا برلين 1Isaiah Berlin باعتباره أول من وضع فكرة تعددية أخلاقية في الصدارة، والتي يمكننا تحديدها بأنها رفض الاعتقاد في وجود نسق قيم وحيد يكون قادراً على توحيد جميع الناس من جميع الثقافات، والنزعة التعددية التي يدافع عنها أشعيا برلين جذرية جداً؛ فهو يعاين تنوعاً في القيم والمعايير والتبريرات الأخلاقية، لكنه يذهب أبعد من ذلك بدفاعه عن انعدام التَّقايس بينها. وبتعبير آخر، سيكون من المستحيل إبراز سُمُو نسق من القيم مقارنة مع نسق قيم آخر.

∵∴∷ بحثاً عن التوافق ∵∴∷

سواء صاروا إثر برلين أم لا؛ فإن العديد من الفلاسفة في العقود الأخيرة حاولوا بناء نظرية أخلاقية تُسلِّم بالتعددية، وبهذا المعنى يكون زمن الأنظمة أو الأنساق الأخلاقية الممتدة والجامعة قد وَلَّى إلى غير رجعة. ومسار الفيلسوف الأمريكي جون راولز يبقى نموذجياً بهذا الخصوص؛ ففي كتابه العمدة "نظرية العدالة" (الذي نُشر بالولايات المتحدة الأمريكية سنة 1971)، حاول أن يضع المبادئ التي يتعين أن تَحكم مجتمعاً عادلاً، انطلاقاً من وجهة نظر غير منحازة. وقد واجهت هذه الأطروحات انتقادات عديدة لاسيما من قبل المفكرين الجمعويين communautariens المقتنعين باستحالة تجريد الأفراد من اتنماءاتهم، وهو ما قاد راولز شيئاً فشيئاً إلى إعادة النظر في ادعائه وزعمه النزعةَ الكونيّة، ليدافع عن استحالة مذهب أخلاقي جامع وشامل يكون مقبولاً من طرف الجميع، عاملاً من خلال ذلك على تقليص حمولة ومضمون نظريته عبر حَصْر صلاحيَّتها في إطار المجتمعات الديموقراطية الحَديثة. فكان أن صار طموحه منذ الثمانينيات اقتراح نظرية للعدالة تكون على توافق مع المثل الأخلاقية والدينية المتنوعة، فمن وجهة نظره يمكنُ لأعضاء ديموقراطية حديثة، في إطار "تعددية معقولة"، أن يتفقوا حول عدد من مبادئ العدالة السياسة على الرغم من تصوراتهم المختلفة للخير، وأن يتوصَّلوا إلى "توافق بالتقاطع" يكون قادراً على ضمان نوع من الاستقرار السياسي والاجتماعي.

ويأخذ الفيلسوف الأمريكي مايكل والزر بدوره التعدديةَ الأخلاقيةَ بجدّية دون أن يتخلى عن إمكانية التوافق، وحتى يتمكن من مُصالحة الكونية والتَّنوع، اقترح تمييز أخلاق الحد الأدنى (morale minimale (thin، وأخلاق الحد الأقصى (morale maximale (thick)؛ أخلاق الحد الأقصى هي تلك التي تتوافق مع الأخلاق الملموسة والأنساق المعقدة والمتطورة والمطبوعة بالتنوع، بل وحتى بالصراع، لكن يبقى بالإمكان أن نستخلص من وراء هذا التعدُّد، أخلاقَ الحدِّ الأدنى، وبتعبير آخر، استخلاص أخلاقية مشتركة تكون عبارة عن نواة من المبادئ يمكن أن تتقاسمها كل الكائنات الإنسانية2. وفكرة عملية قَلْب أساسي هي التي تدافع عنها أيضاً مونيك كونطو- سبيربير Monique Canto-Sperber، من خلال طرحها لفكرة كونية مندرجة داخل سياق.

عديدة هي النظريات التي تروم إذن رفع الصراعات الأخلاقية ولو بشكل جزئي، وهي إذ تَقومُ بذلك، تُعيد تعريفَ طموح الفلسفة، مُنقذةً إيَّاها من التَّشويه الذي يبدو أن التعدديةَ قد أدانتها به؛ لأن التجريد الذي يَسِمُ النظرياتِ الأخلاقيةَ هو ذاتُه الذي سَمَحَ لها بتجاوز صراع المذاهب الخاصة الذي يبدو في الظاهر غير قابل للاختزال، وبالتالي فبعيداً عن أن يكون وسماً على فشل الفلسفة، يمثل التَّنوع الأخلاقي أحد أسباب وجُودِها؛ لأنه يُلزِمُها بأن تكون قادرةً على تلقِّي واستقبال تصورات متباينة للحياة الطيبة، أما النظرية الأخلاقية التعددية فعلاوة على مستوى العمومية المرتفع جداً الذي تتصف به؛ فإنها مُرغَمَة على إبداء تسامح كبير وأحياناً على إعادة تحديد حدود الأخلاق. خصوصاً ما قام به روفين أدجيان (Ruwen Ogien) حين دفاعِه عن إتيقا الحد الأدنى محاولاً مساءلة بعض المشكلات الأخلاقية الزائفة، مثل تربية الأبناء من قبل والدين من نفس الجنس، أو استنكار وشجب النزعة الأبوية.

∵∴∷ ثلاثة مبادئ أخلاقية ∵∴∷

لكن الصراعات الأخلاقية لا تظهر فقط داخل الصراع مع الغير، بل يمكنها أن تمزق الفرد عينَه. وذلك ما تشير إليه المعضلة الأخلاقية؛ فالاختيار ليس قائماً فقط بين التصرف والفعل بالامتثال للأخلاق، أو الفعل دون إعارتها اعتباراً. بل يمكن أن يقوم الصراع بين العديد من المبادئ؛ فالقاتل الذي جاء طارقاً بابي مطالباً بقتل الصديق الذي في بيتي، هل واجب علي الكذبُ عليه3؟ هناك مبدأ يُلزمني بألا أكذب، بينما مبدأ آخر يلزمني بأن أنظر في العواقب التي ستنجم عن فعلي، والتي يمكن أن تكون مميتة بأتم معنى، في حالة امتنعت عن الكذب.

بالنسبة للفيلسوف الأمريكي شارل لارمور4 Charles Larmore لا بد من القبول بالفكرة بتَبايُن الأخلاق على نحو تأسيسي. وهو يميز بين ثلاثة مبادئ أخلاقية؛ المبدأ الأول هو مبدأ الانحياز le principe de partialité، والذي يملي علينا الإلزامات التي تفرضها علينا بعض الرغبات وبعض المصالح، تجاه أصدقائنا وأسرتنا وزملائنا... فهي تنبع مما يعتبره الناس خيراً. والمبدأ القائم على اعتبار النتائج principe conséquentialiste، الذي يُلزمنا بأن نفعل ما ينتج عموماً أكبر قدر من الخير. فهو يعتبر إذن الفعل من زاوية النتائج التي ينتجها، والآثار التي تسفر عنه بالنسبة لأكبر عدد. وفي الختام نجد أن المبدأ الأخير الذي استخلصه شارل لامور هو المبدأ الديونطولوجيle principe déontologique، الذي يدعو إلى الخضوع بكيفية غير مشروطة لبعض الإلزامات الأخلاقية، مثل قول الحقيقة والوفاء بالوعود وعدم قتل البريء، مهما كانت العواقب.

 وإذا كان شارل لامور قد اقترح بعض القواعد الأمبريقية والسياقية؛ فإنَّهُ قد أَقصى إمكانية القدرة على حل الصراعات المباطنة لبنية وعينا الأخلاقي بشكل نهائي وحاسم.

إجمالاً؛ إن التأمل الأخلاقي الذي يعترف بتعددية القيم أو المبادئ الأخلاقية يؤدِّي إلى إعادة تعريف حدود التفكير الإتيقي. يمكن أن نأسف لذلك، لكن اختبار الصراعات الأخلاقية وعيش معاناتها لأنها تخلق وعياً منشغلاً وقائماً على الانهمام، يجعل منها، دون أدنى شك، أفضل حِصنٍ وملاذ ضد الوَعْظ الأخلاقي، وما يصاحبه من كثرة الأحكام المسبقة.



رابـط المقال الأصلي
La pensée morale à l'épreuve de la diversité (Catherine Halpern - Grands Dossiers N° 2 - Mars - Avril - Mai 2006)
هوامش
1 - I. Berlin, Éloge de la liberté, 1969, trad. fr. Calmann-Lévy, 1988
2 - M. Walzer, Morale maximale, morale minimale, 1994, trad. fr. Bayard, 2004
3 - يتعلق الأمر بحالة شهيرة خلقت تعارضاً بين كانط وبنجمان كونسطان. ويدافع كانط عن أنه حتى في حالة مثل هذه تجسد التمزق إلى أقصى حد، يلزمنا الواجب بألا نكذب.
4 - C. Larmore, Modernité et morale, Puf, 1993

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها