فنّ الملحون.. في التراث الموسيقي المغربي

د. بودين عبد العزيز

 


لعلّنا لا نُغالي إذا قلنا إن التراث الشعبي هو أكثر المواضيع حاجة إلى الرعاية وبذل الجهد فيه والتطلع إلى النهوض به؛ لأنه ببساطة المعبر الصادق عن حياة الشعب، فالتراث الشعبي بما فيه الملحون -موضوع دراستنا هذه- ليس نوعاً من النتاج العبثي؛ وإنما له دوره الاجتماعي والثقافي المهم في حياة أي جماعة بشرية، فهو في أشكاله وأنماطه وأقاويله المختلفة ملازم لوجود ذاتها، من حيث إنه تعبير حي وضروري عن توجهات الجماعة ورأيها ورؤيتها، كما أنه تعبير عن تفسيرها للأحداث، وهو لا يقل أهمية عن التفسير الرسمي لها.
 

وعندما نتكلم عن "فن الملحون" نقصد به ذلك الفن الشعري الإنشادي الغنائي الشعبي، الذي يعبر عن احتياجات المجتمع وما يدور في خلد عامة الناس بواسطة قصائد وأبيات مسطرة باللهجة العامية المغربية، وذلك حتى تتمكن من تأدية معناها وتلتصق أكثر بالجمهور، وفي هذا الصدد يقول المؤرخ المغربي محمد المنوني في كتابه "ركب الحاج المغربي": "ولعلنا سنجد في هذا النوع من الشعر من دقة الوصف ما لا نطمح أن نجده عند شاعر أو كاتب بالعربية الفصحى".

وفن الملحون دخل إلى المغرب مع موجات الهجرة من الأندلس إلى شمال إفريقيا، واستقرت أغلب فرقه بالمدن الشمالية والوسطى؛ طنجة، تطوان، فاس، مكناس، سلا والرباط... ومن أشهر الفنانين في هذا الحقل في المغرب: عبد القادر العلمي شيخ متصوفة الملحون، وعمر اليوسفي، والجيلالي امتيرد، وسيدي قدور العلمي، والشيخ بن عيسى الفاسي، والحسين التولالي... وهؤلاء هم من طوروا الملحون من اللون الصوفي القديم القادم من الأندلس، ووضعوا عليه اللمسات المغربية وروجوه بين العامة والخاصة، وجعلوه فناً مغاربياً بامتياز، ومن المعاصرين: محمد الخياطي بوثابت، الحاج محمد الوالي، نعيمة الطاهري، ماجدة اليحياوي، عبد العالي البريكي وغيرهم كثير.

ولغة الملحون عموماً لغة بسيطة درجت على ألسنة العامة، وهي تساير حركة التطور العامة، والمتصفح لهذه اللغة يجد أنها تتراوح بين العامي الذي ليس له في اللغة العربية الفصحى جذر ولا أصل، وبين الفصيح بالوضع فقط دون الدلالة أو بالوضع والدلالة على حد سواء، وإما أن تكون ذات أصول فصيحة غير أنها أصيبت بشيء من التحريف على مستوى النطق أو البناء، أو الاشتقاق الصرفي أو غير ذلك.
 


الفيديو: نموذج لفن الملحون | YouTube©
 

وفن الملحون يقوم بالدرجة الأولى على الكلمات أكثر من قيامه على الموسيقى، فنصوصه المنشودة موزونة وقريبة من الشعر العربي الكلاسيكي، ومليئة بالبلاغات الأدبية، غير أنها تعتمد دائماً على الحكاية، فالسرد يشكل العمود الفقري لكل أغاني الملحون. وتتميز قصائده بتعدد بنياتها الإيقاعية التي تجاوزت بحور الشعر العربي الفصيح، غير أن مضامينها لم تخرج في معظم النصوص وأكثرها تداولاً عن موضوعين أساسيين؛ الموضوع الأوّل هو المدح، الذي يرتبط في الغالب بمدح الرسول صلى الله عليه وسلم، ويضم أيضاً الحِكم والمواعظ والمحكيات الدينية، والثاني يسميه أهل الميدان "العشّاقي"، ويضم كل النصوص الغزلية، سواء تلك التي تعبر عن مشاعر العاشق نحو محبوبته، أو تلك التي تتوقف بشكل مفصّل عند جماليات جسدها، إضافة بالطبع إلى قصائد أخرى تدخل في أغراض الشعر العربي القديم كالهجاء والرثاء، فضلاً عن الفكاهيات والخمريات التي يطلق عليها أهل هذا الفن اسم "الدالية".

ومن أشهر القصائد المغناة والتي تندرج ضمن النوع الأول –أي المدح- هناك قصيدة "محمد المفضل طه الأمين سيد الزهرة" للشيخ عبد القادر بطبجي، وقصيدة "صلى الله عليك يا شفيع كل خطا" من نظم محمد داود، وقصيدة "اللهم صل على النبي راكب البراق" للشيخ المكي بن القرشي، وقصيدة "اقياس الحرم يا رسول الله" من نظم الشيخ الغالي الدمناتي. أما من النوع الثاني –أي العشاقي- فنذكر قصيدة "لالة الطام" من نظم الفقيه محمد بن الفاطمي الركراكي، وقصيدة "الياقوتة" من نظم الشيخ محمد بن اسليمان، وقصيدة "أنا عشقي عذراوي" من نظم الشيخ عبد العزيز المغراوي. أما قصائد النوع الثالث –أي الدالية- فكثيرة جداً نذكر منها: قصيدة "قصة حمان" من نظم العيساوي الفلوس، وقصيدة "الساقي" للشيخ الجلالي امتيرد، وقصيدة "الكأس" لابن إدريس بن علي.

وتتجزأ قصيدة الملحون إلى خمسة أجزاء؛ أولها "المقدمة" أو "السرابة"، وهي قطعة قصيرة تؤدى على غير ما تؤدى به القصيدة، وثانيها "الدخول" وهو شطر في استهلال القسم بدون عجز، وثالثها "الحربة" وهي اللازمة التي يؤديها جماعة المغنين والعازفين، ورابعها "الأقسام" وهي الأبيات المغناة، وخامسها "الدريدكة" التي تختم القصيدة، وتنشد على إيقاع سريع عن باقي القصيدة. وتكون الموسيقى المصاحبة في فن الملحون منخفضة أثناء أداء "المغني" للشعر، فالبطل الأساسي في هذا الفن هو الكلمة، واللحن مساعد، يتزايد عندما يتوقف الشاعر عن الإلقاء للانتقال ما بين جزء وآخر من أجزاء قصيدة الملحون. ويتميّز منشدو "الملحون" بزيهم التقليدي الذي هو عبارة عن جلباب وطربوش أحمر، وبآلاتهم الموسيقية المختلفة، من آلتي "السويسي" و"الربابة" الوتريتين، إضافة إلى الآلة الإيقاعية التقليدية التي تعرف في المغرب بـ"الطعريجة"، وبإيقاعاتهم الخاصة وحركات رؤوسهم المتمايلة ومواويلهم الأصيلة التي تشدّ أنظار الحضور إليهم.

إن اهتمام أهل المغرب بالشعر الشعبي المسمى "الملحون" ملحوظ قديماً وحديثاً، سواء من حيث الإبداع الشعري ونظم القصائد و"السرابات" على شتى أصنافها، أو فيما يرجع إلى تشكيل المجموعات العازفة والمنشدة أداء وحفظاً في مجال ما يسمى بأجواق "الكريحة"، فالمغاربة ولوعون بشعر الملحون، وهم في ولعهم هذا لا يقلون شأناً عن ولع أهل الخليج العربي بالشعر النبطي، إلا أن معاني الملحون المغربي تزداد تجلياً مع عزفه وإنشاده وترديدات المجموعة والحاضرين لكل لازمة من أدواره.

إن ثروة "فن الملحون" في المغرب ثروة مميزة لولا أن الضياع قد أصاب الكثير من الدواوين والكتب والأوراق التي تضمنت نصوصها، لذلك تسعى السلطات المغربية إلى تسجيله كتراث إنساني ضمن اللائحة التمثيلية للتراث الثقافي غير المادي لدى منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة "اليونسكو"، باعتباره إرثًا حضارياً مغربياً مهماً يعكس هوية وثقافة المغاربة، وفي هذا الإطار أقدمت وزارة الثقافة المغربية مؤخراً على تقديم ملف إلى الجهات المختصة معزّزاً بكثير من البحوث التي أنجزتها الجامعات المغربية، بالإضافة إلى العمل الذي قامت به أكاديمية المملكة للحفاظ على هذا التراث، الذي يعود إلى أكثر من خمسة قرون، حيث قامت الأكاديمية بجمع الدواوين ونشرها حماية لها من الضياع، وفضلاً عن ذلك، تمّ تسجيل المُودّى من هذا الفنّ حتى لا يظلّ معرّضاً للتحريف.

 

الصورة الرئيسية: جمعية ادريس بن المامون للبحث والإبداع في فن الملحون بسلا © Image 

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها