جَرَش.. والسياحة الثقافية

أحمد عبدالرازق


جَرَش هي إحدى مدن الأردن، وهي مدينة الفن والثقافة، وإحدى منارات الوطن العربي، ويعد أساس سكان جَرَش من الروم والعرب. وهي مدينة أثرية بطابعها، وتعد من أكثر الأماكن السياحية المحتفظة بالآثار الرومانية حتى اليوم بعد إيطاليا، وقد توالت عليها العديد من الدول والحضارات التي أضافت لها، وكان آخرهم الحضارة العربية. وعموماً تستطيع هذه المدينة أن تتحلى بثوبها الأثري لتستضيف عشاق الفن والثقافة وسط أجواء تاريخية؛ لتقيم مهرجان جَرَش للفنون المختلفة، والتي تحرص الدول العربية على المشاركة فيه سنوياً.



وتعود كلمة جَرَش إلى أصل آرامي، واشتغل أهلها بزراعة واديها الذي يرويه نهر الذهب Chrysorrhoas، كما عمل أهلها بتجارة القوافل، وترتفع المدينة عن سطح البحر حوالي 585 متراً، وتبتعد عن عمان خمسة وأربعين كيلومتراً، وبلغ سكانها عام 1961م حوالي 3796 نسمة. وجَرَش تقع شمال ممكلة الأردن الهاشمية على سفح جبل عجلون، وقد فتحها المسلمون عام 635هـ/1237م. [لويس مخلوف، الأردن حضارة وتاريخ، عمان، 1983م، ص: 37]، و[لويس مخلوف، المنجد في اللغة، بيروت، ص: 211].

وجَرَش فيها التلال والجبال.. وبعض بناء أبوابها قائم في الهواء نحو خمسين ذراعاً، وتعد مدينة جَرَش من المدن المشهورة بمملكة الأردن، وعند دخول الإسلام إلى بلاد الشام نشر المسلمون الفكر والثقافة الإسلامية في جميع مراكز الشام، وكانت المساجد هي بؤرة الإشعاع للفكر الإسلامي، حيث يجلس فيها الفقهاء والعلماء يعلمون الناس ويفقهونهم في أمور دينهم، ويعلمونهم القرآن الكريم، وكان لمنطقة شرقي الأردن، ومنها جَرَش دور في تطور علم الحديث.
 

ومن الأماكن الدينية الأثرية في مدينة جَرَش مقام النبي هود –عليه السلام– وهو على بعد ثلاثة كيلومترات من وسط المدينة، وتوجد مغارة مجاورة لهذا المقام تحاك حولها عدة قصص وحكايات، كما يوجد مسجد ريمون، وهو من أقدم المساجد الموجودة بالأردن، ويعود للعصر الأيوبي، وطرأت عليه عدة زيادات بالعصر المملوكي، ويقع وسط بلدة ريمون التي تبعد عن جَرَش مسافة 10 كيلومترات، ويوجد قرب المسجد مقام ريمون وهو للشيخ الصالح محمد الريموني [يوسف غوانمة، المساجد الإسلامية القديمة، اليرموك، 1986م، ص: 19-20، صحافة اليرموك، 16/8/1984م].

وكانت مدينة جَرَش محاطة بـ سور يبلغ أربعة كيلومترات ونصف، وعرض السور حوالي ثلاثة أمتار، وما يزال له آثار باقية حتى اليوم، وقد بنيت قلاع وأبراج على أبعاد منتظمة ما بين 17م وحتى 22م، وتم بناء هذا السور في أواخر القرن الأول بعد الميلاد، والهدف منه هو حماية المدينة من الغارات المفاجئة، والمساحة الداخلية داخل السور تعد 147000م، ويبلغ عدد الأبراج 24 برجاً، وقد وجدت خمس عشرة كنيسة مكتشفة في جَرَش، وبعض هذه الكنائس ما تزال جدرانها وأرضيتها بارزة، وهي مكسوة من الداخل بالرخام، ومزوقة بقطع الفسيفساء ومبلطة بأحجار مختلفة الألوان والهندسة. ومن أهم الاكتشافات التي أثارت اهتمام الباحثين كان معبد زيوس، حيث أظهرت الكتابة أن المهندس المعماري الذي أشرف على بناء المعبد هو من أبناء جَرَش؛ بالإضافة إلى أن المدينة قائمة منذ الألفية الثانية ق.م [زاهدة صقر، جَرَش، دائرة المعارف، الأردن، ص: 14-32-42]، و[محمود العابدي، جَرَش، عمان، 1957م، ص: 30 جريدة الرأى 22/2/1986م].

ويعد من أهم الآثار بمدينة جَرَش قوس النصر، وهو أول بناء أثري يقابل المسافر القادم من عمان باتجاه الشمال، وهي بمثابة بوابة شرف موازية للبوابة الجنوبية، وقد أقيمت تمجيداً لزيارة الإمبراطور هدريان للمدينة عام 130م، الذي أحسن معاملة أهل جَرَش، وأقاموا الاحتفالات والأعياد إكراماً له، ويتألف المبنى من قوس مرتفعة في الوسط بمقدار 39 قدماً عن الأرض، وفوق القوس وضع تمثال للإمبراطور ممتطياً عربة تجرها أربعة من الخيول، وفي التخطيط العام يلاحظ أن البناء الأوسط عبارة عن ممر واسع في الوسط، واثنين أصغر حجماً على كل جانب، وقد أتى الدمار على النصف العلوي من هذا البناء الشامخ لكنه رمم حديثاً [محمود العابدي، جَرَش، ص: 30].

أما هيكل أرتميس -آلهة الصيد- فيقع أعلى الهضبة الشمالية الغربية للمدينة، ويقال إن أرتميس هي آلهة الخصب والعطاء، وتكريماً لهذه الآلهة أقيم هذا الهيكل، وتشكل الممر من شارع بلغ طوله 39 متراً، وعرضه 11 متراً، ويفتح على ساحة بشكل شبه منحرف، وفي وسط الهيكل توجد بوابة مزخرفة بأشكال نباتية وهندسية متنوعة، ويلي البوابة سلسلة من الأدراج والمصاطب بلغت سبعة تؤدي للساحة الأمامية ذات الأروقة المعمدة، هذا النظام للهيكل شكل شارعاً مقدساً للاحتفالات، وقد انتهى عمل مدخل هذا الهيكل عام 162م، ويعد هذا الهيكل أجمل بناء منفرد في جَرَش [زاهدة صقر، جَرَش، ص: 23].

ومن الآثار في جَرَش الساحة البيضاوية؛ وهي عند الجهة الجنوبية للمدينة، وهي بيضاوية الشكل بعرض 80 متراً، وطول 90 متراً، محاطة بأروقة من الطراز الأيوني، وكسيت أراضيها بألوان حجرية كبيرة، ويعود إنشاء الساحة إلى القرن الأول الميلادي تقريباً، أما الأعمدة فتقف على قواعد وتحمل تيجان، وتوجد في وسط الساحة بقايا قاعدة مربعة، ربما كانت قاعدة لتمثال أو لمنبر خطابة، وقد ألغي استعمال هذه الساحة كسوق للاجتماعات أثناء العهدين البيزنطي والعربي، وأنشئت فوقها منازل صغيرة للسكان.

أما المدرجات أو المسارح، فقد استخدمت سفوح الجبال لبناء هذه المدرجات، ثم أصبحت مدرجاتهم تقام على عقود وأقبية، بحيث تحمل فوقها المباني التي ترتفع إلى ثلاثة طوابق أو أربعة، وقد يرى هذا في مسرحين من مسارح جَرَش الثلاثة، بالإضافة لنظام تصريف المياه القائم بالساحة، وهذا مع وجود نوافير بقصد تلطيف الجو أثناء العرض بالمسرح لشدة الحر في الأردن صيفاً، وقد كان هناك اهتمام لإعادة بناء المسرح الجنوبي في جَرَش كخطة هدفها تشجيع حركة السياحة في الأردن، وقد أنجز هذا العمل على يد ورشة من النجارين والعمال والحجارين، وفي نهاية الترميم تمت بعض الإصلاحات في علو الأعمدة القائمة خلف خشبة المسرح [محمد ارشيد العقيلي، المسارح في مدينة جرش، عمان، 1973م، ص: 36-38، 42-45]. فقد كان معداً لإقامة احتفال سنوي باسم جَرَش للموسيقى، وهو أشبه بمهرجانات عواصم الثقافة العربية في بلادنا، كالقاهرة ودبي وقرطاج، ومراكش ولبنان وغيرها.

أما ملعب الخيل (Hippodrome) الذي أنشئ في القرن الثاني الميلادي بعد بناء قوس النصر، فيعد ملعباً أثرياً بامتياز، وسبب بنائه هو أن الأباطرة عند زيارة جَرَش كانوا يفضلون مشاهدة بعض الألعاب كسباق الخيل. وكانت نافورة عرائس البحر Nymphaeum)) حوض ضخم من الرخام يبرز عظمة الهندسة وفخامتها، وتعود عمارته إلى عام 191م، وكان البناء مؤلفاً من طابقين بشكل نصف دائرة يبلغ قطرها 20م، والطابق العلوي مزيناً بالجص المدهون والمزخرف بأشكال هندسية رائعة الجمال، أما الطابق السفلي من الرخام، ويحوي بركة ماء ترسل مياهها بواسطة أفواه تماثيل الأسود إلى الطابق الأرضي الذي يحمل نقشاً بصورة سمكة، وتتدفق المياه من أفواه الأسود إلى مصارف تحتها، بعد أن يمتلئ الحوض المقام أمام الأسود [محمد ارشيد، المسارح، ص: 64-65].

وعموماً؛ كانت وما زالت مدينة جَرَش مركز إشعاع ثقافي بارز بفضل آثاره، وإقامة العديد من المهرجانات الثقافية والفنية، فكيفي أي زائر لهذه المدينة أن يستمتع بشمسها الدافئة الساطعة، بل ويرى أشعتها على جدران آثارها الباقية حتى اليوم، ويستنشق من هوائها رائحة التاريخ والحضارة.. إنها جَرَش منارة الفن والثقافة إحدى مدن المملكة الأردنية الهاشمية.



انقر هنا jordanhistory.com   :: بعض الصور القديمة لـ جرش وآثارها ::

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها