الْمَوْعِدُ الْآخر!

ماجدة حسن سلام


الطريق تمتد أمامي بلا انتهاء، أعبر الشوارع والحواري، والأزقة على قدمين واهنتين، ترنحني الريح، البيوت أبوابها موصدة بصمت يغلفها، كل شيء ساكن إلا من الضجيج الذي يشق رأسي، وثورة فراق أبدي، تشابهت أحداثها مع ما حدث لي اليوم، فمنذ أربعة أعوام وافاتها المنية ودفنت أمي كهيكل آدمي محمل بثقل من شقاء، ومرض لم تجد معه أية عقاقير أو وصفات لأعشاب طبية، وظل المرض ينهش صدرها حتى أراحها الموت من عذابها المقيم، تمنيت الكثير من الأمنيات ولم تتحقق، فلم يمهلها الأجل لتشهد يوم تخرجي، ولم يكتب لها الشفاء على يدي، وفارقتني وأنا حديثة العهد بحياة لم أحط بها علماً إلا ما أدركته؛ وما أدركت منها إلا قليلاً.

عزاء قاصر على المقابر، وبرفقة أبي وحده عدنا بدونها، لعزلتنا التي فرضها علينا الفقر، داخل بيت استدان أبي ليحصل على قطعة من الأرض تقع في منطقة عشوائية، تسع بالكاد حجرة بمنافعها معرشة بسقيفة من ألواح خشب النخيل، جدرانها باهتة باردة، نستتر خلفها لتقينا شر الريح والعواصف العاتية والمطر، وتحمينا من أشعة شمس الصيف المحرقة. كنت كلما طالعت وجهي في مرآتها رأيت قسمات وجهها المستدير ببشرته الخمرية، وعينيه السوداويتين وأنفه الفرعوني أراها بقصر قامتها، وابتسامة الرضا المشرقة في وجهها قبل أن يطفئها المرض. 

أتوقف متلفتة حولي، ينتابني شعور دائم بأن هناك من يلاحقني ليلحق بي الأذى؛ يقشعر بدني وأنا أمد يدًا مرتجفة لأرفع مزلاج بابنا الخشبي، أزيحه فيصدر صريراً يشبه الأنين، وأنا أغلقه خلفي برفق تتسرب البرودة من بين شقوقه، ظلمة الطرقة تحاصرني، وأنا أتحسس الجدار ملتصقة به، تقع يدي على مفتاح الإضاءة فينثر المصباح ضوءه الشاحب حولي، يرافقني ظلي وأنا أتقدم من حجرته، أزيح بابها بقعة من الضوء تتسلل معي للداخل، يستقبلني طيفه، فأغمض عيني وتنهمر دموعي رائحته تعبق وسادته، وحاشيته القطنية أستنشقها فيشتعل بداخلي الحنين، أستلقي فوق سريرهما الحديدي العتيق الذي صمد معهما عمرهما معاً، وخزانة ملابسهما على ليلة ميلادي، ولحظات السعادة حينما كنت أشاركهما مع دميتي القطنية، كنت آخر العنقود وأوله، وأخذت نصيبي من الأسماء "ملّك". أفقت من غفوتي على أحداث صباح أمس الأربعاء، كان صباحاً صاخباً فاق كل الصباحات في الحزن والألم والقهر، استيقظت مع أول شعاع من ضوء النهار على صوت ارتجاج شرخ النافذة القديم كانت الريح تضربه، وتصفق ملابسه المتدلية من فوق المنشر بعنف انتشلتها مسرعة قبل أن ينهمر المطر، ثم أحكمت غلق الباب وانتظرته حتى استيقظ فناولته ملابسه، وأعددت له فطوره المعتاد، طبق من الفول المدمس مهروساً بالزيت والكمون، وكوباً من الشّاي الساخن، تناول فطوره بشهية في سرعة غير معتادة وهو يبتسم لي مُمْتَنّاً، فتضيق عيناه الغائرتين في وجهه الأسمر النحيل، أفرغ كوب الشاي في جوفه، ونهض بجسده الهزيل الذي أنهكه الشقاء وهده التعب، تعب يليق بعامل غطس في بلدية الصرف الصحي بالحي، يقطع خمسة كيلو مترات على قدمية ذهاباً وإياباً، أكدت على عودته قبل موعد حفل التكريم، الذي سيقام في المساء لأوائل خريجي كلية طب القصر العيني بجامعة القاهرة، ليشهد اليوم الذي ظل قيد انتظاره سنوات، والأمل الذي تحقق بعد صبرنا على العناء والدين. 

ناولته الدعوة فقرأها ووعدني وهو يقبلني، ويضمني إلى صدره بسعادة أدخلته في نوبة بكاء. انتصف النهار فجهزت ملابسه وملابسي، كان المطر ينهمر بغزارة، فينقر السطح، وينزلق على درجات السلم مستقرًا في النتوء والزوايا، هزني طرق متواصل على الباب، أسرعت وفتحته وأنا أزدرد ريقي الذي جف في حلقي من الخوف، فمنذ زمن بعيد لم يزرنا أحد من أقارب ولا جيران.. فتحته أخذتني رجفة عندما رأيته بوجهه العبوس، نظراته تشي بوقوع شَرّ بين، إنه العجوز صديق أبي اللدود الذي تجاوز السن القانوني للإحالة، لكنه ما زال زميلًا له في العمل، بيد مرتعشة أشار لي على صورته المعلقة على الحائط، فتمدد الرعب في شراييني، استفسرت عما يقصده، فلم يجب.

خطواته تسبق خطواتي، لم أستطع اللحاق به إلا عندما توقف عند موقع الحدث. كانت الفوهة منزوعة الغطاء، تفور منها مياه الصرف برائحة تزكم الأنوف، والجميع ملتفون يصوبون أبصارهم تجاهها.. متعلقاته مهملة بجوارها، أنكفئ على سترته الملطخة بأوحال الأرض الزلقة الممتزجة بمياه المطر، والصرف والفضلات الآدمية، كم أحتمي بداخلها من لسعات البرد، وسترت بدنه العليل، حذاءه البالي الذي احتوى قدميه في سنواته العجاف تدهسه الأقدام، أبحث عنه في كل الوجوه حولي فأرى نظرات الشفقة، وتمس أذني كلمات المواساة، وأغيب مع المشهد الذي كان دائماً يثير قلقي وحيرتي كلما وصفه لي؛ ما كنت تعلم يا أبي أن مصيرك الدنيوي سينتهي في جوف بالوعة صرف، وأنك ستغوص إلى الأسفل متغلغلًا في الأعماق، لتزيل ما تراكم في القاع والجوانب من نفايات تعيق طريقهم، وأنت معلقًا بحبل نجاتك الواهن، تجذب الحبل مراراً مستغيثاً بهم لتتفادى الموت مختنقاً دون مبالاة ممن يلهون فوق السطح، وشلالات المياه المنسابة من الفتحات تجرفك في طريقها، فتتهشم عظامك بين جنباتها، ثم يتكوم جثمانك في الزاوية الضيقة، بينما تسبقك روحك لمستقرها الأخير. 

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها