هواجِسُ الذّات وسؤال الغيرية

 في "رحلة خاطفة إلى سويسرا" لأحمد الدحرشي

د. مصطفى العطار



يُعدُّ كتاب أحمد الدحرشي "رحلة خاطفة إلى سويسرا" الإبداع الثاني في صنف أدب الرحلة، وهو محكي يتسم بثراء المعلومات وغزارتها، رغم قصر زمن الرحلة، يقع العمل في 193 صفحة، من القطع المتوسط. يمزج الكتاب بين براعة السرد ودقة الوصف والتصوير، صدر عن منشورات الجمعية المغربية للباحثين في الرحلة، الطبعة الأولى 2021. وللمؤلف عمل آخر كان قدر صدر سنة 2016 في الجنس السردي نفسه، موسوم بـ"مشاهداتي من رحلتي إلى البيرو"، وله عمل آخر قيد الإنجاز يتعلق برحلته إلى الإكوادور والبيرو سنة 2019، كما سبق للمؤلف نفسه أن أصدر مجموعة قصصية سنة 2018 "صرخة في ظلام الصمت".
 

إن ما يُميّز هذا العمل الرحلي للباحث أحمد الدحرشي أنه يتتبّع أدق التفاصيل في غياب تام للزمن الضائع، ويطلعنا على معلومات ثرية عن الآخر المغاير، ويسجل انطباعاته المسكونة بهواجس الذات تجاه صدمة الحداثة؛ حيث مسافة الانزياح بين "نحن" الذي لم يستطع القطع مع رواسب سلوكية متجذرة في اللاّوعي الجمعي، والآخر المتحضر حد الدهشة.

يقول السارد في المقدمة: "سأقطف لك في هذه الرحلة من كل بستان من بساتين جنيف الزاهرة؛ زهرة الانبهار الأخّاذ، وزهرة الصدمة القوية، وزهرة التأمل العميق"، وهي مقدمة لم تخضع لحركية السرد؛ بمعنى أنها لم تكن منصهرة في المتن الحكائي؛ لذلك عدت بمثابة عتبة أو حاشية. وبين هذا وذاك ينتصب الدحرشي رحالة شاهداً على أنساق ثقافية واجتماعية، تلعب على ثنائية الحضور والغياب في عالم يقدس الإنسان فتتقدس معه قيمة الموجودات، وعالم آخر تغيب فيه رمزية الإنسان فتفقد معه الأشياء هويتها؛ ليكون من محصلات هذا الغياب ضياع واغتراب داخلي، وإحساس بالتفجع والرثاء لحال الوطن العربي الجريح، الذي تقطع طرائق قدداً، وعمل على تسييج الجغرافيا وتقييد الإنسان، في الوقت الذي تسقط معه الحواجز النفسية والمادية في بلدان أوروبا؛ إذ يجد رحالتنا أنه جاوز أرض سويسرا ليحط الرحال في آنسي في جنوب شرق فرنسا دون أن يشعر بهذا الانتقال، في مشهد "عجائبي"، يصير معه الفرد أشبه بطائر محلق في الأجواء يفرد جناحيه في الأعالي حيث لا حدود أو فواصل. وأمام هذا الإحساس العميق بفكرة الحرية يعاود سؤال النحن سطوته، ليمتزج الشعور بالانطلاق والتجدد بشعور الأسى والحزن؛ فهو يعلم أنه عائد، بعد بضعة أيام، إلى وطنه ليشهد من جديد أفول موضوعة الإنسان بعد تمثلها واقعاً. يقول: "ما هذا الذي أسمعه يا غابي؟ فرنسا؟ كيف ذلك؟ أيعقل هذا؟ أين شرطة الحدود؟ أين مصلحة ختم الجوازات؟ أين دوريات الحراسة...؟ أين وألف أين" [ص: 169].

مرويات الدحرشي سفر سريع في مجاهيل الآخر، يحاول فيه القبض على لحظات متفلتة وهاربة، يدون من خلالها مشاهداته. وعندما يستبد به تعب التطواف والتجوال في دروب جنيف وضواحيها؛ فإنه يأبى الاستسلام أمام روعة الإنسان والعمران، فيواصل تملي النظر بحواس الفنان المثقف، الذي لا يترك كبيرة ولا صغيرة إلا أحصاها، كما يحاول تبديل الصورة النمطية المركوزة في الذهنية الغربية عن الإنسان العربي عامة، والمغربي خاصة، عبر نحت شخصية أخرى أكثر تحضراً؛ يبدو ذلك في مختلف المحاورات التي جمعته بشخصية غابي وبصديقتها فرانسيسكا، وهو حوار راق وعميق حول مواضيع شتى تتعلق بالدين والسياسة والمرأة والقيم، انبرى له الرجل بعقلية المثقف الهادئ الرصين الذي يؤمن بثقافة الاختلاف والعيش المشترك؛ يقول:

"أليس كنه الأديان والملل كافة واحد، هو تقوية صلة الإنسان بربه، والإخلاص في عبادته، ومناداته بمحبته الحقة التي خلقها فيه"، في منزع فلسفي أشبه بالوجودية المؤمنة التي نادى بها الفيلسوف الدانماركي سورن كيركجارد، وأخلاق المسؤولية عند الفيلسوف ليفيناس. كما يستعين السارد بالمنهج الإثنوغرافي الذي يوثق سلوكات الناس وممارساتهم اليومية، ويرصد الظاهرة الثقافية في تمظهراتها المختلفة وصفاً دقيقاً؛ من أكل، ولباسٍ، ونظافةٍ، وإدراك لمواطن الجمال.

لم يكن الدحرشي مجرد زائر عابر لسويسرا كما يدل على ذلك منطوق العنوان؛ بل كان متوقد الذهن والبصيرة، وصاحب كفاية تواصلية وتأملية أسعفتاه في استدرار معنى الأشياء وماهيتها بتوظيفه لآلية السؤال تارة، وإطلاقه العنان ليسرح بصره في ملكوت الله تارة أخرى؛ فقد كانت رحلته أشبه بعبور صوفي نحو المطلق ومجاوزة لعالم مادي نحو عالم "نوراني". ولم يكن زمن الرحلة، على قصره، زمناً فيزيائياً؛ ولكنه استحال زمناً نفسياً تقوده الرغبة الجامحة في الاستزادة والاسترفاد، ويوجهه فضول الأديب المؤرخ الذي يتفاعل مع ما يعن له من مشاهد، ويطرح أسئلة مرجفة تغوص في كنه الأشياء، ليتوصل إلى الجواب الحاسم؛ أولئك قوم أدركوا معنى الإنسان. يتجدد السؤال البؤري عند الدحرشي: كيف يمكن صناعة الإنسان في بلداننا العربية؟ وكم يلزمنا من الوقت لنعيد للإنسان العربي فردوسه المفقود.

إنها رحلة استطاعت أن تنتصر على عامل الزمن، وما كان ليتحقق هذا الرهان العسير لولا خبرة صاحبنا في السفر والترحال؛ فهذا نصه الرحلي الثاني بعد نصه الأول الموسوم بـ"مشاهداتي من رحلتي إلى البيرو"؛ وهو ما جعله أكثر خبرة في أدب الرحلة.

وأخال أن نصه الثاني بات فيه أكثر نضجاً؛ فلغته بسيطة وأنيقة، تتراص فيها المفردات بشكل متناسق، وأسلوبه في الوصف يتسم بالدقة والقدرة الفائقة على التصوير والتقييد وحسن التنظيم من خلال التعاقب الخطي للأحداث والاشتغال على البداية التي أعلن عن سرديتها وتتابع أحداثها منذ الكلمة الأولى: "كانت ستائر غرفة الفندق الشفافة المسدلة تسمح لضوء الخميس، الحادي والثلاثين من الشهر الخامس عام 2012، أفقت على صوت رنين هاتفي الصداح، غسلت وجهي المرهق، حملت دون عناء حقيقة سفري خفيفة الوزن، ثم أسرعت بالمغادرة..."، وهي بداية يتسيد فيها ضمير المتكلم الذي يفصح عن هوية صاحبه في تناغم مع أدبيات السيرة الذاتية أو اليوميات التي تجعل من السارد والرحالة والكاتب شخصية واحدة. هذا بالإضافة إلى اللعب على عنصر التشويق والجذب الذي يجعل القارئ متعطشاً لمعرفة مسار الرحلة ومفاجآتها؛ ذلك أن من سمات الكتابة السردية الناجحة أنها تشد القارئ إليها شداً، وتمارس عليه قسراً رمزياً، فتجدك تقرأ صفحات الكتاب تباعاً متجولاً في دروب جنيف، وشوارعها، ونافوراتها، وقلاعها، وبحيراتها، وحدائقها، ومتاحفها، ومطاعمها... مما يجعلك تسافر مع السارد في هذا الجمال الآسر الذي يرفده بأحكامه ومواقفه التي تعكس نظرته إلى العالم بسائر موجوداته، علاوة على توظيف عنصر الوصف توظيفاً ذكياً يكسر حركية السرد ويبطئ من إيقاعها، من خلال تأثيث اللغة بالنعوت المناسبة التي تصور المشاهد وتقرب تفاصيلها إلى المتلقي وتستميله لمشاركة السارد متعة ما يشاهد من أحوال وهيئات، فيضطلع الوصف، ها هنا، بمهمة التزيين والتجميل، فضلاً عن مهمة التفسير. ومن ثم؛ كانت رحلة الدحرشي منطوية على وظيفتين اثنتين: وظيفة معرفية تتمثل في نقل الأخبار والمشاهد، وتقاسم المعلومات باعتماد الوصف التصنيفي الذي يصف المشاهد، كما هي دون أن تتلبس بمشاعر المتلقي، ووظيفة أخلاقية تعبر عن انفعالات السارد وموقفه من سلوك الآخر الذي قد يبدو شاذاً عن النسق المتداول، وهو وصف تعبيري انفعالي.

يتخذ الوصف عند الدحرشي أشكالاً وتمظهرات مختلفة؛ فهناك الوصف الذي يطال الأشخاص كوصفه لصديقة غابي: "سيدة في منتصف العقد الخامس من العمر، قصيرة القامة، بوجه ممتلئ، وشعر أسود ناعم مقصوص، وخدين أحمرين، وعينين ضيقتين، حتى ليحسب من يراها أنها من أبوين يابانيين" [ص: 25].

وهناك الوصف الذي يتعلق بالأمكنة: "غرفة صغيرة مريحة ودافئة، توحي بالسكينة، على نوافذها ستائر شفافة تظهر جمال وأناقة البيوت السويسرية، تضم سريراً مرتباً بإتقان، على جانبيه منضدتان صغيرتان مستديرتان، وهناك في أقصى الركن من يسار الغرفة خزانة خشبية صغيرة لحفظ الملابس، ومكتب صغير يشغل إحدى الزوايا" [ص: 31]. وهناك الوصف الذي يرتبط بالزمن: "وما إن بلغت الساعة السادسة إلا ربعاً أو ما يقارب ذلك، حتى قمت من مكاني واقفاً... فأنا هنا لا ينبغي أن أضيع دقيقة واحدة" [ص: 61]، فضلاً عن الوصف الذي يخص عناصر الطبيعة الصامتة؛ كوصفه لبحيرة ليمان: "أيقونة جنيف في التفرد بمياهها الزمردية المتدفقة من جبال كارستية مبهرة للأبصار تماثل صفاء البلور" [ص: 44-45]، ووصفه لعناصر الطبيعة الصائتة: "سرب من الحمام لا عد له، يهدل بصوته العذب، ويتحرك بحركة رشيقة" [ص: 17].

يخط الدحرشي طريقه بخطى ثابتة في عالم السرديات عامة، وأدب الرحلة خاصة، ويتحفنا بقطوف دانية من أسفاره حول أصقاع العالم، حاملاً فوق ظهره حقيبة خفيفة، لا يلوي على شيء سوى اكتشاف الذات عبر الآخر المختلف، وهو في ذلك يظل وفياً لبلده الأم، رغم المرارة التي تتركها في نفسه المقارنة بين عالمين على طرفي نقيض.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها