"مُصَلَّى العيد" في المَوروث الحَضاري الإِسلامي

د. محمد أحمد عبد الرحمن عنب

 

كان لسنة الرسول صلى الله عليه وسلم أثرها الواضح في اشتمال المدينة على ساحة فضاء تقام عليها صلاة العيد، تلك التي عُرفت بمُصَلّى العيد يخرج إليها أهل المدينة لصلاة العيد، ليصبح مُصلَّى العيد جُزءًا أساسيًا ضمن التكوينات المعمارية الدينية بالمدينة الإسلامية، ووضح توزيعه على مخطّط المدينة.

 

تعريف مُصَلَّى العيد

يُطلق على الأماكن التي تقام فيها الصلوات الجامعة الغير راتبة، والتي تقام في مناسبات معينة كصلاة العيدين، وينطبق نفس التعريف على نوعيات مشابهة من مُصلَّيات العيد مثل مُصلَّيات الجنائز، المخصَّصة لصلاة الجنازة، والاستسقاء، أمَّا شكلها المعماري فعبارة عن رحبة من الأرض الخالية، والتي توجد عادةً في الخلاء في خارج المدن1، وجاء تخطيط هذه المُصلَّيات بسيطًا يعبّر عن بساطة الإسلام؛ فهو يشبه في شكله البسيط تخطيط المساجد الأولى في الإسلام، والفرق بينها وبين المسجد؛ أنّ هذه المُصلَّيات عبارة عن مساحة فضاء غير مسقوفة، فيتمكن من رؤيته كل مَنْ حضر بخلاف المسجد؛ فإنه يكون في مكان محدد بحدودٍ معمارية2.

وَقد انعكس أثر البُعد الفقهي جليًا في موقع هذه المُصلَّيات في الخلاء؛ حيث المساحات كبيرة مكشوفة؛ حتى تتسع للأعداد الكبيرة والمتزايدة من المسلمين ليشهدوا الصلوات الخاصة الغير راتبة التي تقام بهذه المُصلَّيات مثل صلاة العيدين، أو صلاة الاستسقاء، أو الشكر أو الصلاة على الأموات، والأحاديث النبوية كثيرة عن فضل وثواب شهود هذه الصلوات، والمشاركة فيها لما فيها من الخير الكثير والبركة.
 

موقع مُصلّى العيد وعلاقته بعمران المدينة

تقع مُصلَّيات العيد في أغلب المدن الإسلامية خارج أسوار المدن في الخلاء أو الصحراء؛ حيث تخصّص لها أماكن فسيحة على الأطراف، وبالقرب من مداخل المدن، وبالقرب من المقابر، وربما كان السبب في هذا وجودها خارج أسوار المدن؛ حتى لا يشغل مُصلَّى العيد مساحة كبيرة من المدينة التي كانت غالبًا ما تحيط بها الأسوار، وخاصة أنّ مُصلَّى العيد لا يُستغل إلا مرتين في العام، وأيضًا جاء موقعه في الخلاء لمواجهة الزحف العمراني، وحتى يمكن توسعته باستمرار ليفي بالأعداد المتزايدة من المصلين3، وذلك على عكس موقع المسجد الجامع والذي يقع دائمًا في وسط المدينة أو قريبًا منها؛ حيث يمثل المسجد الجامع المحور الأساسي الذي يتحكم في تخطيط المدينة، ومواقع المنشآت الأخرى سواء بالقرب منه أو البعد عنه4.

ومن حوله تنشأ الأحياء التي تتسع بمرور الوقت، وكانت تشيّد بها المساجد الصغيرة لتخدم سكانها في أداء الصلوات الخمس المفروضة، ومن ثم عرفت بمساجد الفروض، ويتضح تحقيق فكرة التوازن والتماثل في التشكيل والتكوين المعماري للمدينة الإسلامية، وتوزيع الوحدات المعمارية بها بشكلٍ متوازن طبقًا للبعد الوظيفي.

الحكمة من تخصيص مُصلَّى للعيد وضرورة أن يكون في الخلاء

استنّ الرسول صلى الله عليه وسلم أن تكون صلاة العيدين في مُصلَّى العيد مع شرف المسجد النبوي، وفي هذا دليل واضح على مكانة مُصلَّى العيد وقدسيته؛ فقد كان موقعه في الخلاء في صحراء قريبة من المدينة، ولا تصلى صلاة العيد في المساجد إلا لعذرٍ من مطر، أو برد ونحوهما، إلا في مكة فتصلى في المسجد الحرام لشرف الكعبة وعظمها، وكذلك لسعة المسجد الحرام وضيق أطراف مكة من جهةٍ أخرى5. وقد وردت العديد من الأحاديث النبوية الصحيحة عن الرسـول صلى الله عليه وسلم تؤكد حرصه صلى الله عليه وسلم على صلاة العيدين في المُصلَّى، ولعل سبب اختياره صلى الله عليه وسلم على أن يكون المُصلَّى في الخلاء لسببين: الأول ضيق المسجد6؛ فوقع اختياره صلى الله عليه وسلم على الخلاء حتى يتسع لأكبر عدد من المسلمين؛ لأن المطلوب حصول عموم الاجتماع؛ كما أنه صلى الله عليه وسلم حرص على دعوة النساء أيضًا لشهود صلاة العيد لما فيها من الخير الكثير7؛ حتى الحُيَّض منهن، وحيث إن الحيَّض لا يجوز لهن دخول المسجد ولكن يجوز لهن دخول مُصلَّى العيد، ويخصّص لهن أماكن فيه ويشهدنْ الصلاة خلف المسلمين؛ ويُكبرنْ مع الناس وتستمعنْ للخطبة دون الصلاة8، ففي هذا التجمُّع إظهار لشعيرة من شعائر الإسلام، ويعبّر عن عظمة الإسلام وقوة المسلمين وترابطهم، كما أن هذا المُصلَّى بمثابة الاجتماع الواسع يجمع كل النّاس، والتوجيهات التي تُلقى على الحاضرين تعمّ أكبر عدد من المسلمين...9
 

نشأة مُصلَّى العيد

يعتبر مُصلَّى الرسول بالمدينة هو المثال الأول لمصليات العيد الذي استنّ به الحكام والولاة من بعده؛ وقد اتخذه الرسول صلى الله عليه وسلم بعد تخطيطه المدينة الإسلامية، وإقامة المسجد الجامع والمساكن وتخطيط الأحياء10، والحقيقة أنه لم يكن هناك موضع ثابت لصلاة العيد، فلم يثبت عنه صلى الله عليه وسلم تخصيص بقعة معينة لذلك11؛ فقد تعدَّدت المواضع التي صلَّى فيها الرسول صلى الله عليه وسلم العيد في المدينة المُنوّرة؛ وهذه المواضع مختلفٌ عليها، غير أنه متفق أنّ معظمها كان يقع بالجهة الغربية من المدينة المُنوّرة؛ فقد روى الزبير ابن بكّار عن شيخ من أهل المدينة أنّ أول صلاة عيد لرسول الله صلى الله عليه وسلم، كانت في حارة الدوس عند بيت ابن أبي الجنوب، فيما يروي ابن زبالة وابن شبه عن أبي هريرة والسمهودي أنّ أول فطر وأضحى صلَّاه الرسول صلى الله عليه وسلم للناس بالمدينة، كان بفناء دَار حكيم بن العدَّاء عِند أَصحاب المَحامل12.

وتعددت المواضع التي صلَّى فيها صلى الله عليه وسلم بعد ذلك، وكان آخر موضع لهذه المُصلّيات؛ موضع المُصلّى الموجود به الآن مسجد المُصلّى المعروف بمسجد الغمامة؛ وكان عبارة عن أرض فضاء خارج المنطقة العمرانية المحيطة بالمسجد النبوي، ويذكر السمهودي أنّ أول عيد صلّاه الرســول صلى الله عليه وسلم بهذا المُصلّى في عام 2هـ/8م13. وقد كان لهذا المُصلّى قدسيةً كبيرةً عند الرسول صلى الله عليه وسلم، حيث يُروى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما بين مسجدي إلى المُصلّى روضة من رياض الجنة). وقد ثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم داوم على الصلاة فيه حتى توفّاه الله تعالى، وكان إذا قَدم صلى الله عليه وسلم من سفرٍ ومرّ بالمُصلَّى استقبل جهة القبلة ودعا، ولم يُصلِ صلى الله عليه وسلم العيد في المسجد إلا مرة واحدة لأجل مطرٍ أصابهم.

وقد أخرج ابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنهما قال: (أصاب الناس مطرًا في يوم عيد على عهد رســول الله صلى الله عليه وسلم، فصل بهم صلى الله عليه وسلم في المسجد)14.

كما كان من سنة الرسول صلى الله عليه وسلم أن يكون الذهاب إلى مُصلَّى العيد من طريق والعودة من طريق آخر؛ وهو مما تَرك أثره على تخطيط شبكة الطُرق المُؤدية إلى المُصلَّى والعودة منه في المدن الإسلامية منذ فترة مبكرة، فقد كان صلى الله عليه وسلم يذهب إلى المُصلّى من الطريق العُظْمَى، ويرجع من طريق آخر ليُسلّم على أهل الطريق، ويقضي حاجة من له حاجة، ويشهد البقاع، ويظهر شعائر الإسلام، والطريق العُظْمَى هي المعروفة بدرب السويقة، وكان يمر بدار سعد بن أبي العاص ثم بأصحاب الفساطيط، وهو طريق الناس اليوم من باب المدينة إلى مسجد المُصلَّى15. أمّا الطريق الذي يرجع منه صلى الله عليه وسلم فيقع غرب طريق بني زريق، ثم يمر على دار عمّار بن ياسر ودار أبي هريرة إلى البلاط، وهي ضعف مسافة طريق الذهاب تقريبًا16.

وأخيراً؛ فإنّ مُصلَّى العيد هو أحد أنواع العمارة الدينية المهمة، وقد انتشر في معظم مدن شرق وغرب العالم الإسلامي، وكان جزءًا أساسيًا في تخطيط أي مدينة إسلامية، وكان المثال الأول له هو مُصلَّى الرسول صلى الله عليه وسلم بالمدينة المُنوّرة، والذي أصبح النموذج الذي سار على نهجه، وتأسّى به حكام وولاة المدن الإسلامية.

 


الهوامش:
1. Andrew Petersen, Dictionary of Islamic Architecture, 2002, p.113
2. ابن حجر العسقلاني (أحمد ابن علي) ت 852هـ/1448م، فتح الباري بشرح صحيح الإمام أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، ج2، 2001م، ص: 522.┊3. محمد عبد الستار عثمان، مَوسوعة العِمارة الفاطمية، الكتاب الثاني، ص: 221، حسين مؤنس، المساجد، سلسلة عالم المعرفة، ع37، ص: 81.┊4. محمد عبد الستار عثمان، عمارة المساجد في ضوء الأحكام الفقهية، أبحاث ندوة عمارة المساجد، ص: 136، خالد عزب، الحجر والصولجان، ص: 100.┊5. ابن حجر العسقلاني، فتح الباري، ج2، ص: 522.┊6. مقتضى اتخاذ مُصَلَّى للعيد تدور على الضيق والسعة لا لذات الخروج إلى الصحراء؛ لأن المطلوب حصول عموم الاجتماع، فإذا حصل في المسجد مع أفضليته كان أولى. للمزيد، ابن حجر العسقلاني، فتح الباري، ج2، ص: 522.┊7. روت أمّ عَطِيَّةَ رَضِيَ اللهُ عَنْها قَالَتْ: أمَرَنَا رَسُولُ، أنْ نُخْرِجَهُنَّ فِي الفِطْرِ وَالأضْحَى، العَوَاتِقَ وَالحُيَّضَ وَذَوَاتِ الخُدُورِ، فَأمَّا الحُيَّضُ فَيَعْتَزِلْنَ الصَّلاةَ وَيَشْهَدْنَ الخَيْرَ وَدَعْوَةَ المُسْلِمِينَ، قُلْتُ يَا رَسُولَ الله! إِحْدَانَا لا يَكُون لَهَا جِلْبَاب، قال: "لِتُلْبِسْهَا أخْتُهَا مِنْ جِلْبَابِهَا". للمزيد انظر، محمود محمد خطاب السبكي (ت: 1352هـ/1933م)، الدين الخالص، أو إرشاد الخلق إلى دين الحق، ج4، ص: 320.┊8. النيسابوري (أبي الحسن مسلم بن الحاج القشيري) ت: 261هـ/874م، صحيح مسلم وهو المسند الصحيح، مج3، ص: 49-50.┊9. محمد عبد الستار عثمان، نظرية الوظيفية بالعمائر الدينية المملوكية الباقية بمدينة القاهرة، ص: 42-43.┊10. ابن سيد الناس (أبو الفتح محمد بن محمد بن محمد اليعمري) ت: 734هـ/1333م، عيون الأثر في فنون المغازي والشمائل والسير، ج2، ص: 328.┊11. عبد القدوس الأنصاري، آثار المدينة المنورة، ص: 74.┊12. ابن زَبالة (محمد بن الحسن) ت199هـ/814م، أخبار المدينة المنورة، ص: 136، السمهودي (أبي الحسن علي بن عبد الله بن أحمد الشافعي) ت911هـ/1505م، خلاصة الوفا بأخبار دار المصطفى، ص: 780.┊13. للمزيد عن مَواضع صلاة العيد التي صلّى بها الرسول صلى الله عليه وسلم. انظر، السمهودي، خلاصة الوفا بأخبار دار المصطفى، ص: 309-310.┊14. الزركشي، إعلام الساجد، ص: 385-386.┊15. المطري، التعريف بما أنست الهجرة، ص: 146.┊16. ابن زبالة، أخبار المدينة المنورة، ص: 137.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها