البعد النصي التداولي في رسالة إنشاء الدوائر

ابن عربي نموذجاً

د. رانية أحمد رشيد شاهين

يمثل الدرس اللساني الحديث بأبعاده المختلفة حدثًا لسانيًا يرتقي لمستوى الشمولية في تطبيقه للأدوات اللسانية بمستوياتها المتباينة، فقد عجّ التراث العربي القديم بالكثير من النصوص التي تستحق تسليط الضوء على أبعادها اللسانية، فهي أرض خصبة للدراسة، لذا ارتأيت التركيز على البعد النصي التداولي لدى (ابن عربي المتصوف الملقب بالشيخ الأكبر)؛ بغية الوقوف على الزخم اللساني الذي يتمتع به، فقد خلط بين العلم الديني والفلسفة، فأصبحت كتاباته أشبه بالطلاسم التي تحتاج لفك شفراتها، وللعلم ما بين أيديكم لا يمثل شخصي أو فكري؛ إنما هي محاولة لتتبع النماذج اللسانية النصية التداولية في التراث العربي القديم وتطبيق الآليات الحديثة، فما يمثله من فكر، أو معتقد لا يمتُ إلي بأيّ صلة.

تُعدُّ رسالة (إنشاء الدوائر ) التي قدمها (ابن عربي) نموذجًا حيًّا، يزخر في طياته بالأبعاد اللسانية الحديثة التي تؤرقُ القارئ اللساني الافتراضي، فراودني خاطر حول نصيّة الرسالة، فشرعتُ بتطبيق العناصر النصية على جزء من رسالته؛ لبيان هذا البعد، فظهرَ أنّ العنصر المقامي حاضر، فقد قدم رسالته للمجتمع المعاصِر له، بما يعكس مدى تناسب الطرح لعقول البشر في ذاك الزمان، سواء أكان من مفردات أو مصطلحات، ومن ذلك: (العدم – الوجود – العين- محسوس – معقول- التجلي ...)، كما أو ضحَ النص مدى انعكاس الجانب الثقافي على رسالته، فقد نشأ في بيئة ثقافية اهتمت بالحديث والفقه، ودرس على يد تلاميذ الفقيه ابن حزم الأندلسي، إضافة إلى بروز الجانب الاجتماعي المتعلق بحياته وصلته بالآخرين.

ويظهر في رسالته أيضاً علمه الممتد من ثقافته واطلاعه الغزير على علوم ومعارف شتى، فقد نسب في رسالته العلم والمعرفة له، ومن ذلك قوله: "لمّا عرفني حقائق الأشياء عليه في ذواتها، وأطلعني...."، كما نجده في رسالته يذكر وصف (أرباب الحقائق)، وبيّن في رسالته أنّه قدّم هذه الرسالة لتلميذه عبد الله بدر الحبشي.

وكما ظهر البعد التناصي في النص، فقد تأثر بالفكر الفلسفي الأرسطي والنصراني واليهودي في رسالته، ومنه توظيفه لمصطلح (الهيولي) الذي يعود لليونان، والمقتبس من فكر أرسطو وتأثر بفكره في فكرة الوجود أيضاً، وظهر ذلك أيضاً عند ابن حزم في تقسيم للقرآن، وهي فكرة مشابهة لفكرة الوجود عند ابن عربي، ومرجع ذلك اطلاعه على فكر الحضارات السابقة، مما أكسبه قدرة على الربط والمزج الظاهر في رسالته، ويتضح أيضاً أنّه اقتبس فكرة الجدول الهيولاني من أقسام العقل عند فلاسفة المسلمين واليونانيين.

أسلوبُ السّجع والعناصر الحجاجية؛ لإبراز الحقائق والأسرار الإلهية


لقد حاول (ابن عربي) أن يقرّب في رسالته الحقائق والأسرار الإلهية في قوالب حسية؛ رغبة منه وتسهيلًا على طلبة الحقيقة والطريق إلى الله حتى يعلم الإنسان مرتبته الوجودية، والشرف الذي ناله بخضوع الملائكة له، بتوظيفه لعباراته الصوفية العميقة المعتمدة على الدوائر والجداول وبها برز، ومن ذلك (الحضرة الإلهية – الإنسان ذو نسبتين كاملتين – الحضرة الكونية – الحضرة الكيانية – الكمال المطلق – حضرة الأفعال – حضرة الذات – الأزل- التجلي – الأحدي – الأسمائية- الإمام الإلهي – إمام الأئمة ...)، وهنا برز العنصر الإخباري.

فقد لقيت رسالته استحسانًا ممن عاصروا الشيخ، ونهلوا من علمه ومعتقده، فتناولوا رسالته بالبحث والتمحيص والدراسة، وهذا يمثل المقبولية . أمّا الترابط الرصفي للبنية السطحية لإنشاء الدوائر الممثلة في الاتساق النحوي المبين في إحالته القَبلية والبَعدية، ومنه: (أطلعني كشفًا على حقائق نسبها وإضافاتها... فابحث عن وجودك وأين مرتبتك من معبودك)، وإضافة إلى صلة موصوله، ومنه: (الذي سخرني...)، وإشارته، ومنها: (ذلك بفضل الله..)، وعطفه بأدوات النسق، ومثاله: (... ومنه ما هو روحاني وذلك بعد كشف الحجب العقلية... وميّز بينك وبين عبيدك)، وتابع ابن عربي رصفه الاتساقي ليصل إلى الرصف المعجمي المتعلق بتكرار المفردة أو العبارة، ومنه: (... وجود مطلق ولا يُعقل ماهيته.. والخلائق في الصور المحسوسة والمعقولة والخلائق)، الذي أكسب النص هندسة انسجام عامة لمكوناته، ويستدعي هذا الرصف الانسجامي تمكُّن القارئ من الفلسفة التي تمتع بها ابن عربي الممزوجة بالطابع الصوفي.

كما وتميز أسلوب ابن عربي باعتماده على طريقة الطرح الحجاجية المعتمدة على أسلوب الشرط، فكثر لديه أسلوب الشرط، ومن ذلك :(إذا كان السيد الحق يصلي عليك فكيف بملائكته)، فنجده وظّف المصطلح الصوفي (السيد)، وأراد بأسلوب الشرط إثبات فكرة الرحمة المُنزلة من الله، كما أنّه اعتمد أسلوب القصر؛ لبيان الغرض المراد من العبارات الواردة في رسالته، ومن ذلك: (... وما من ملأ أدنى إلا يتضرع إليك ويبتهل)، فقد قصر فكرة الالتجاء للنبي عليه الصلاة والسلام، وهي أيضاً من سبل الصوفية في التضرع. ونجده يكثر من أسلوب التوكيد (إنما المراد بذلك... فإنّك إن فعلت هذا حشرت في الإستواء الرحماني والإنباء الرباني)، إضافة إلى توظيفه التوكيد المعنوي وبكثرة، ومن ذلك : (فما في الوجود كله حقيقة ولا دقيقة إلا وفقك إليها ...)، بالإضافة إلى استخدامه لنوعي الجمل، ومنه : ( فلولا ما صح لهذا الإنسان أحسن تقويم وفطر على صورة القديم واستخرج من قصيراه الحق ...، فاشكر الله ثانيًا)، ووظف أيضاً الجموع بأنواعها، ومن ذلك: (الأفلاك – أجرام – الأملاك- الحقائق – الرقائق)، إضافة إلى استخدامه ظاهرة الأضداد (الوجود العدم – المجموع والمفروق – السواد والبياض..)، مما يؤكد قدرته على امتلاك ناصية العلم السيميائي الممثل بظاهرة الحقول الدلالية أيضاً.

وقد طَعّمَ ابن عربي رسالته –أيضاً- بلون من ألوان علم البديع، الممثلة في الجناس الناقص والتام الموجب للموسيقى الداخلية والخارجية، ومنه قوله: (... وتنزيل الحقائق عليه في أنابيب الرقائق، فنصب الأشكال وضُربت الأمثال وبينت ما هو في الإنسان، بما هو إنسان)،

بذلك يكون (ابن عربي) حقق برسالته (إنشاء الدوائر) بعداً نصياً بتمثله للمعايير النصية والتداولية، بالإضافة إلى الجانب السيميائي بأبعاده الحديثة التي نادى بها (دي سوسير وديكرو وفاينرس وأفنديك)، ولكن ما يميز رسالة (ابن عربي)، احتواؤها على مزيج من الأفكار الفلسفية والصوفية، مما يستدعي ضرورة اطلاع القارئ على الفكر الصوفي؛ ليتمكن من الغوص في الرموز التي أوغل فيها (ابن عربي) لمعتقده حول الوجود والعدم والألوهية، وغيرها من المحاور التي تبحر فيها.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها