توني موريسون Toni Morrison

تمزقات الهوية وداء العنصرية

د. رضا عطية


توني موريسون Toni Morrison


للكاتبة الأمريكية المنتمية لأصول أفريقية، "توني موريسون" الحاصلة على جائزة نوبل في الآداب في العام 1993، إسهام بارز في تعرية العنصرية الممارسة ضد السود في الغرب عموماً والولايات المتحدة الأمريكية بشكل خاص. في كتابات موريسون الروائية التي لُقِبَت بـ"ضمير أمريكا" كشف للتشوهات العديدة والآثار النفسية والاجتماعية الضارة التي تلحق بالسود والزنوج أصحاب الأصول الإفريقية جراء التفرقة العنصرية الممارسة عليهم.
على الرغم من الحمولة الأيديولوجية في روايات توني موريسون التي تتبنى قضايا التمييز العنصري والقلق الهوياتي الذي يفاقِم أزمات ذوي البشرة السوداء، فإنَّ ثمة بناءً فنيّاً مُرَكَّباً يستوعب هذا الطرح المؤدلج ويتيح تبريراً لتجليات الأفكار الأيديولوجية في النص السردي، وهو ما يجعل نصوص موريسون تبدو كسبيكة ينصهر فيها الفكري والجمالي بإتقان فني وإجادة تشكيلية في المآلفة بين التخييل الحكائي والطرح الأيديولوجي.

 

في أولى رواياتها "العين الأكثر زرقة The Bluest Eye"، تُقدِّم موريسون من خلال بطلة روايتها، الطفلة السوداء صاحبة العينين البالغة الزرقة، المعاناة التي يكابدها السود منذ طفولتهم وتفتح وعيهم على الحياة، من خلال "المفارقة"، فعلى الرغم من إعجاب الصبية والشبان بالعيون الزرقاء للشقراوات من البيض، فإنّ أحداً لا يعجب بزرقة عيون هذه الطفلة السوداء غير شقيقها، ما يُفاقِم شعورها بالاغتراب ويراكم إحساسها بالمعاناة جراء التفرقة بسبب اللون.
 

وفي روايتها "طفل القطران Tar Baby" الصادرة عام 1981، تتهيب بطلة الرواية، عارضة الأزياء، التي تدرس في السوربون، "جادين"، من علاقة حب مع شاب أسود فقير، خشية أن تقع تحت طائلة النبذ والاستبعاد من مجتمع البيض.

وفي روايتها الشهيرة "ليكن الرب في عون الطفلة God Help The Child" يكشف الخطاب الروائي لتوني موريسون عبر تعدد الأصوات، الرواة الذين يسردون الحكاية، كل من وجهة نظره، في تشكيل درامي لتنوع مناظير الرؤية، وفي تناوب للرواة في بثّ الحكاية المسرودة، على صعيد أفقي- المعاناة التي يتكبدها السود في المجتمع الأمريكي، وعلى صعيد رأسي معاناة بطلة الرواية "لولا آن" التي ستغير اسمها أكثر من مرة حتى تحمل اسم "برايد" وأزمتها نتيجة لون بشرتها السوداء.

يسفر الخطاب السردي في رواية "ليكن الرب في عون الطفلة" مظاهر التمييز الفادح على أساس عرقي ضد السود في الولايات المتحدة الأمريكية عبر صوت الأم في الفصل المعنون باسمها، "سويتنس":
عليك أن ترى جدتي، كانت كأنّها بيضاء ولم تعد تتحدث إلى أبنائها، وتعيد أي رسالة وتركنها وشأنها. كل الخلاسيين والمهجنين فعلوا ذلك في ماضيهم تقريباً، فإن كان لديهم نوع الشعر الصحيح فالأمر منتهٍ. هل يمكنك أن تتخيل كم من البيض تجري في عروقهم الدماء الزنجية وتختبئ بها؟ خمن، عشرون بالمئة كما سمعت. كان يمكن لأمي، لولا ماي، أن تحيا بسلام لكنها اختارت ألا تفعل، وأخبرتني عما دفعته ثمناً لذلك القرار. حين ذهبت وأبي إلى المحكمة لعقد قرانهما، كان هناك إنجيلان، وكان عليهما أن يضعا يديهما على الإنجيل المخصص للزنوج، أما الآخر فقد كان لأيدي البيض. الإنجيل! هل تصدق؟ كانت أمي مدبرة منزل لزوجين من البيض، كانا يتناولان الطعام الذي تعده ويصران على أن تفرك ظهريهما حين يجلسان في حوض الاستحمام، وحده الله يعلم أي أفعال حميمة أخرى جعلاها تقوم بها، لكن لا يُسمح لها بلمس الإنجيل نفسه.

يكشف الخطاب الروائي عن الأزمة المجتمعية المتبدية في تبرء الأمهات من الأبناء حال تلونّهم بالبشرة السوداء اللون، في تفسّخ مجتمعي. كما يسفر السرد عن التمييز الممارس ضد أصحاب البشرة السوداء على صعيد رسمي في منع السود من ملامسة الإنجيل الخاص بالبيض في المحكمة، وكذلك في المعاملات الخاصة المجتمعية في تكريس للنظرة الدونية الملصقة على أساس عرقي بالجنس الزنجي.
في الخطاب السردي لدى توني موريسون، كما في هذا المقطع نجد حضوراً لضميرين سرديين: الضمير السردي الثالث، ضمير الغائب لصوت الذات الساردة، بطلة الحكاية التي تروي عن خبراتها العائلية في مسائل التفرقة العنصرية، والضمير السردي الثاني، ضمير المخاطب، الضمير نادر الاستعمال في السرد الروائي، الذي يتوجّه بالخطاب، هنا، إلى القارئ، المتلقي، ليشركه فيما يداني بالنوع السردي من كتابة الشهادة، في تمثُّل المأساة المسرودة عبر الخطاب الروائي.

يكشف الخطاب الروائي في رواية "ليكن الرب في عون الطفلة"، من خلال صوت "برايد" إخفاقاتها العاطفية وهجران حبيبها لها الذي يثير شكوكها أنّه كان بسبب لون بشرتها السوداء:
لكنّ علاقتنا لم تبلغ حتى مستوى أي أغنية قديمة من الريذم آند بلوز، بعض النغمات بإيقاع منتظم ليخلق الحمى. إنّها لم تكن حتى كلمات حلوة من أغنية بلوز في الثلاثينيات: "حبيبي حبيبي لِمَ تعاملني هكذا؟ أفعل كل ما تقوله، أذهب أينما تريدني أن أذهب". لماذا أظل أقارن علاقاتنا بإعلانات المجلات والموسيقى لست أدري، لكن كان يدغدغني أن أختار "أريد أن أراقص أحدهم".
في بوح "برايد" كشف عما بداخلها من شعور دفين بمرارة الحرمان من مشاعر الحب التي كانت تتمناها، حتى في فترة الاتصال مع آخرها، الرجل الذي كانت تحبه، وكأنّها قد ارتضت بعلاقة عاطفية أقل مما كانت تحلم به لشعور ما بأنّها يجب أن تخفض سقف تطلعاتها إزاء الرجل الذي تحب بسبب لون بشرتها الأسود.
وتقيم الصياغة الروائية عبر صوت الذات الساردة، إحدى شخصيات الرواية، حوارية نصوصية، مع نص أغاني شهيرة تمسي بمثابة الحالة العاطفية المتوخاة والمفتقدة في آن للشخصية، "برايد"، تأكيداً على الإحساس بالإخفاق العاطفي والشعور بوطأة الأحلام المجهضة التي لا تحصلها الذات.

يبرز الخطاب الروائي لدى توني موريسون التوترات التي عانتها الشخصية، بطلة الرواية، بسبب لونها الأسود:
لم أستطع منع نفسي من الابتسام وأنا أحرك أصابع قدمي على المخدة الحريرية لرؤية ابتسامة أحمر الشفاه على كأس النبيذ وأفكر "ما رأيك بذلك يا لولا آن؟ هل فكرت يوماً أنّك ستكبرين وتصبحين مثيرة أو ناجحة هكذا؟ ربما كانت المرأة التي أرادها، لكن لولا آن برايدويل لم تعد هنا ولم تكن امرأة أبداً. كنت لولا آن حين كنت مراهقة في السادسة عشرة وقد تخليت عن هذا الاسم الريفي الغبي عندما أنهيت الثانوية. كنت آن برايد لعامين إلى أن ذهبت لمقابلة عمل من أجل وظيفة في المبيعات في "سيلفيا المتحدة"، واختصرت اسمي دفعة واحدة إلى برايد، دون أن يحتاج أي أحد أن ينطق شيئاً قبل أو بعد هذا الاسم وحيد المقطع السهل التذكّر. أحبه العملاء والمندبون، لكنه تجاهله. كان يدعوني "حبيبتي" معظم الوقت. "هيا يا حبيبتي، تعالي يا حبيبتي" وأحياناً "يا فتاتي" بالتشديد على الياء. اليوم الوحيد الذي قال فيه "امرأة" كان يوم انفصالنا.
يتبدى شعور الذات، "الفتاة السوداء"، باضطراب هوياتي، في توتر علاقاتها مع الآخر، في المجتمع الذي ينظر باستعلاء نحو السود ويعاملهم بطريقة دونية، وهو ما انعكس في تغييرها لاسمها غير ما مرة، كأنّها تريد أن تتخلص من أثقال ماضيها أولاً بأول، في حالة من فقدان الذات الثقة بنفسها، تبدّت في علاقتها باسمها التي تكشف عن تذبذبها النفسي بتغييرها هذا الاسم وتخلصها من اسمها كل فترة. ما جعلها تشعر بالدونية للأثر الريفي في اسمها بما يكشف عن طبقية ما في المجتمع الريفي تجعل البعض يتنصل من علامات الريفية حتى لو كان ذلك عن طريق التخلي عن اسمها.
وفي مراجعة الذات لعلاقتها بالآخر، الرجل الذي أحبته ثم تركها وهجرها، يتبدى تراكم الشعور بانعدام الثقة حتى أنّ "برايد" بطلة الرواية تشكّ في أنّ حبيبها الذي هجرها كان يحب اسمها الجديد المختصر، مثلما كان يحبه الناس في مجال العمل.

في روايتها "جاز" التي تستلهم فيها اسم نوع الموسيقى الذائع، موسيقى الجاز، الذي أطلقه السود في عشرينيات القرن العشرين، تقدم توني موريسون مأساة السود في حي "هارلم"، الجيتو المغلق على السود في مدينة نيويورك الذي يشيع فيه العنف حتى يصير فيه القتل أمراً يكاد يكون عادياً، بأثر قسوة الحياة التي يعيشها السود وتنشئتهم على العنف.
وتكون بؤرة الأحداث الرئيسة في رواية "جاز" في عام 1926، حيث يقتل "جو" بائع أدوات التجميل، صديقته "دوركاس"، ثم تحاول "فيوليت" زوجة "جو" في جنازة "دوركاس" أن تخمش وجهها في التابوت أثناء الجنازة المقامة للصلاة على جثمان القتيلة، في إبراز لمأساوية الأوضاع في حي السود "هارلم"، إذ صار القتل فعلاً اعتيادياً والعنف أمراً مألوفاً. أما بخصوص عنوان الرواية، "جاز"، فهو يشير إلى أنّ ما جعل الأجيال الجديدة التي نشأت في أجواء دموية في حي السود تستطيع مواصلة الحياة هو موسيقى "الجاز".

في "هارلم" تستفحل العشوائية والقطيعة لمؤسسات المجتمع المدني ويستشري العداء وانعدام الثقة بين الناس:
لا أحد يرغب في دخول قسم الاستقبال بمستشفى "هارلم"، ولو كانت المناوبة لطبيب زنجي فإنّ الكبرياء يصرع الألم.


يكشف الخطاب الروائي عن حالة الانقسام التي أفضت إلى تفسخ اجتماعي وتحوّل مجتمع السود إلى مجتمع عدائي، يسوده العنف، ومقاطعة مؤسسات المجتمع المدني الرسمية حتى في عز الحاجة إليها بسبب النظرة الدونية بحقهم.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها