من فنون الأدب العربي

أراجيز الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته لنوقهم

د. الخامس مفيد

يسير راكب الإبل في الفيافي وحيداً يصارع ملل الصحراء وجوها الجاف يتطلع إلى ما حوله، لا شيء يتبدل رمال وشعاب ووحوش وطيور كاسرة، وهذه نخلة تهاوت إلى الأرض جراء رياح الصحراء القاحلة، كل هذه المناظر وغيرها تجعل راكب الناقة يحس بالممل والكرب، ويحاول الترويح عن نفسه رفقة ناقته التي يُرجز لنفسه ولها، كي تواصل السير، وبهذا تهون عليه وحشته وعزلته في قفار الصحراء. وتحتل الإبل مكانة عظمى في نفس العربي، تكاد لا يماثلها شيء في ذلك، فهي الرفيقة الأولى في الحرب والسلم، وبها تُقاس الثروة والعِز والجاه، وبها يدفع مهر العروس، فهي الوسيلة التي يقطع بها العربي المسافات الطويلة في الصحراء والقفار. وحظيت الإبل بمكانة هامة في نفس الرسول ﷺ وصحابته رضوان الله عليهم، حتى ساروا ينظموا أراجيز لنوقهم، وهذا بيت قصيدنا في هذا العمل.


 

أراجيز الإبل إرث الرسول صلى الله عليه وسلم عن جده مضر بن نزار

ذكر الأخباريون والرواة العرب، ومنهم أبو الحسن المسعودي في كتابه "مروج الذهب ومعادن الجوهر"، أن العرب عرفت "الحداء" قبل "الغناء" انحدر إليهم وتوارثوه عن جدهم الأكبر مُضر بن نزار، ويروى أنه سقط من بعيره فكسرت يده، فصاح متألماً بصوته الشجي يقول: "يا يداه يا يداه أو وايداه وايداه"، وكان من أحسن الناس صوتاً فتجمعت الإبل وطاب له السير معها، ومن هنا بزغت فكرة استعمال الإنشاد لمخاطبة الإبل، سواء في التجميع أو التفريق والحث على السرعة أو الإبطاء، بعيداً عن الضرب واللكز العنيف في بطونها، باعتبارها ممارسات لا تليق بشاعرية العلاقة العاطفية بين الناقة وصاحبها. يقول المسعودي في كتابه "مروج الذهب": إن الإبل بعدما تجمعت بفضل نداء مضر، أصبحوا يرجزون لإبلهم بكلمات على نفس الوزن مثل: "يا يداه يا هاديا..."، أو أشكال من قبيل "هيد... هيد" أو" دوه...دوه"، وتسمى عند العرب "بالتدوية" أو "الدواهة".

التدوية غناء لتجميع الإبل

هي غناء تجميع الإبل، جاء في معاجم اللغة العربية: التدوية أصل الحداء بكسر الحاء وفتح الدال. والتدوية أصل الحداء كما جاء في المعاجم فهي دعوة الإبل فتقول (داه داه) بالتسكين أو تقول (دهده دهده) بالضم لتجيء إليك أو إلى أولادها. وتذكر كتب الأقدمين أن التدوية والدواهة تعود في أصلها لمضر بن نزار، ويؤيد ذلك عرب البوادي الحاليين، حيث يرى كبارهم أن "التدوية: هي البداية والأصل لكل غناء الإبل. والتدوية تعني المناداة عليها بالدواهة الخاصة بكل راع كي تتبعه إلى المرعى، وقد تكون كلمة أو كلمات لها نبرات وألحان وأنغام متميزة يلعب بها اللسان وتبثها الحنجرة وحالما تسمعها الإبل تعرفها تسرع طرباً، يقول غيلان بن عقبة المضري الملقب بذي الرمة:
إِذا غَرِقَ الرَواتِكُ في الهَوافي  **  أُرنُّ عَلى جَوانِبِها (بِهيدِ)

وتقول العرب: هيد دو هي دو..

فهذه الكلمات التي ذكرتها المعاجم والتي يتغنى بها الراعي وينادي بها على إبله هي من البدايات الأولى للحداء المسمى بـ( دواهة الإبل)؛ أي كلمات قليلة ذات ألحان خاصة مميزة يؤلفها ويلحنها الراعي ويعرف بها بين الرعاة.

حداة الرسول صلى الله عليه وسلم لنُوقه

للرسول صلى الله عليه وسلم مواقف حافلة مع الإبل لا بد من ذكرها، فإذا كان جده السابع عشر وضع البذرة، وعرف عن الرسول أنه كان يحب هذا النوع من الفن، بل اتخذ لنفسه أربعة حدائين وهم: البراء بن مالك، وعامر بن الأكوع، وعبد الله بن رواحة، وعبد حبشي. فهذا عبد الله بن رواحة ينشد قائلاً: والله لولا أنت ما اهتدينا ** ولا تصدقنا ولا صلينا، نتيجة لهذه الكلمات أسرعت الإبل في السير، فطلب النبي من راكبها التمهل قائلا: "رويدك يا أنجشة رفقاً بالقوارير"، وهذا راعي إبل الرسول ﷺ يقول:
- تعرضي مدارجاً وسومي
- تعرض الجوزاء للنجوم
- هذا أبو القاسم فاستقيمي

أراجيز صحابة رسول الله لنوقهم

حفظت لنا كتب التاريخ بعض نماذج كبار الصحابة وهم يناجون إبلهم ويُغنون لها لكي تسرع مشياً في فيافي الصحراء، فهذا أنجَشة صحابي جليل فاز بشرف الحداء والتغني بنوق رسول الله صلى الله عيه وسلم، فكان يحدو بخير خلق الله ومن معه، ومن شدة جمال صوته تقطع الإبل مسافات طوال دون أن تحس بالتعب والإرهاق، فتمشي مشياً حثيثاً يجعها تهتز هزاً شديداً. فقد روي عن البخاري أن الرسول صلى الله عيه وسلم كان في سفر رفقة عائلته وصحابته وكان يحدو بهن، فقال له النبي: "رويدك يا أنجشة سوقك بالقوارير"، أي رفقاً بالنساء الممتطيات الإبل.

علي كرم الله وجهه

لما كان متجهاً من البصرة إلى الكوفة وهو على ناقته، كان يحدوها قائلاً:
- يا حبذا السير بأرض الكوفة
- أرض سواء سهلة معروفة
- تعرفها جمالنا المعروفة

خالد بن الوليد رضي الله عنه

لما كان يقود جيش المسلمين متوجهاً إلى الشام كان يقول:
- لله در رافع أنى اهتدى
- فوز من قراقر إلى سوى
- خمساً إذا سار بها الجبس بكى
- عند الصباح يحمد القوم السرى
- وتنجلي عنهم غيابات الكرى

عبد الله بن عباس

لما كان متوجهاً في طريقه من البصرة إلى الكوفة، كان يرجز لناقته رباب مخاطباً إياها قائلاً:
- أوبي إلى أهلك يا رباب
- أوبي فقد حان لك الإياب

عبد الله ذي النجادين

هو راعي إبل الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد كان يخاطب ناقة المصطفى قائلاً:
- تعرضي مدارجاً وسومي
- تعرض الجوزاء للنجوم
- هذا أبو القاسم فاستقيمي
 

خلاصة

جُماع القول؛ لقد عرفت العرب الحداء منذ جد الرسول صلى الله عليه وسلم، فهو راحة للنفس لتجنب حر وملل الصحراء ورمالها، وهو وسيلة لتسلية الإبل على نفسها حتى لا تحس بالتعب والإرهاق خاصة لما تطول المسافة إلى جانب المتاع، والجدير بالذكر أن هذا الصنف من الفنون العربية كان يحبه الرسول ﷺ وصحابته الذين بدورهم كانوا يرجزون لنقوهم إما في سفر التجارة أو سفر الحروب.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها