هواجسُ الرّحيل

لويس بونويل.. وأنفاسه المتبقية

د. السهلي بلقاسم

 

استهل المخرج الإسباني العالمي لويس بونويل تحفته الأدبية "أنفاسي الأخيرة" Mi ultimo suspiro، بأحلام مرعبة وهواجس سيريالية مزجت بين الفن والتاريخ، وبين الماضي والحاضر، واستقراء المستقبل الغامض للبشرية: إني أحلم دوماً بكارثة كونية تودي بأربعة آلاف مليون شخص من السكان، ومن بينهم أنا، وستكون هذه الكارثة ناتجة عن قوة الطبيعة. إنني أحترم قوة الطبيعة؛ ولكنني لا أحترم الذين يقومون بحفر قبرنا الجماعي، وهم يقولون بكل نفاق وإجرام: إنه ليس بالإمكان عمل شيء آخر.
 

بل ذهب لويس بانويل إلى أبعد من الوصف السردي التراجيدي لهواجسه المقلقة، بوصفها جحيم القيامة التي تصدح على أبوابنا منذ عدة سنوات، ونحن نصم آذاننا. وهذه القيامة الجديدة من وجهة نظره تعدوا مسرعة بفرسان أربعه: الإرهاب وهو أول الفرسان الذي يحمل الراية السوداء، والتزايد السكاني، والعلم والتكنولوجيا، والإعلام. وكل المساوئ الأخرى هي: نتائج للغزوات المتلاحقة للفرسان الأربعة. بالرغم من أن الإعلام قدم نفسه، وبكل بساطة على أنه فتح مبين، ومصدراً للمنافع، وحقاً من حقوق الإنسان.. غير أنه أصبح الفارس الأكثر أذى من بين الفرسان، كونه يتمركز قريباً من الإرهاب، والعلم والتكنولوجيا، والانفجار السكاني.

ويستطرد المخرج السينمائي في وصف مشهده الأخير: وحيداً وعجوزاً، لا أستطيع أن أتصور غير الكارثة أو العدم، ولا مفر من هذه أو تلك. أعرف جيداً أن الشمس بالنسبة للعجائز كانت أكثر طراوة أيام شبابهم البعيدة. وأعرف أيضاً أنه مع نهاية كل ألف من السنين يعلن عادة عن النهاية القريبة والمحتومة للبشرية. لكن؛ يبدو لي مع ذلك بأن هذا القرن توجه نحو الكارثة منذ بدايته. لقد انتصرت قوة الشر في الصراع القديم الفظيع. انتصرت قوة التدمير والتخريب، لم تحقق روح الإنسان أي تقدم باتجاه الإشراق. بل تقهقرت وأحاط بها الرعب والخوف، والقلق والاعتلال والرعب.. من أين إذاً ستأتي كنوز الطيبة والذكاء، التي يمكن أن تنقذنا ذات يوم من الدمار؟ بالنسبة لي ليس للحياة الإنسانية في تصوري من قيمة أكبر مما لحياة ذبابة، وأنا في الواقع أحترم كل حياة بما في ذلك حياة الذبابة، هذه الحشرة الغريبة الغامضة، التي يمكن أن تقضي على ملايين البشر.

لقد ولدت مع بزوغ فجر هذا القرن الذي يبدو لي وأنا أتأهب للرحيل1. وكأنه مجرد لحظة؛ وكأن ذلك الطفل وذاك الشاب، الذي كان يفعل هذا، أو يفعل ذاك لم يكن أنا أبداً. حتى وأنا في سن الخامسة والسبعين، لم أكره الشيخوخة، كنت أجد فيها شيئاً من الرضا، والهدوء الجديد والإحساس بالتحرر، باختفاء الرغبات والشهوات والملذات، إنه السن المقدس. الذي لا يطمح إلى شيء لا إلى منزل على شاطئ البحر، ولا إلى سيارة فارهة، متراجعاً بذلك عن صرخات شبابي. حتى الخامسة والسبعين كنت ألتقي رجالاً مسنين أقول لهم: هل رأيتم لويس بونويل؟ غير معقول، أي انهيار هذا الذي أصابه؟ كنت أقرأ وأعيد قراءة "الشيخوخة لسيمون دوبوفوار" ذلك الكتاب المدهش.

لم أعد أستطيع الظهور بسروال السباحة في المسابح بسبب حياء السن، ولكنني حققت آخر أفلامي2 في سن السابعة والسبعين. في السنوات الخمس الأخيرة، هاجمتني علل مختلفة، إنها قوة الشيخوخة الزاحفة. أنا عجوز هذا هو مرضي الرئيس، لا أشعر بالراحة، إلا في بيتي ملخصاً لتفاصيل حياتي اليومية الروتينية. أدون في دفتري الصغير أسماء أصدقائي الذين رحلوا قبل الوداع، سميت هذا الدفتر "كتاب الأموات"، أعود إلى تصفحه باستمرار، ويحتوي على مئات الأسماء الذين كانت لي معهم صلة إنسانية حقيقية، ولو لمرة واحدة. أما أعضاء المجموعة السريالية3، فكانت أمام أسمائهم إشارات حمراء.
 

العديد من أصدقائي لا يحبون هذا الدفتر، خوفاً من أن يتضمن أسماءهم يوماً ما لكنني أحبه كثيراً؛ لأنه ذاكرتي التي لن يغلبها النسيان. أصبح التفكير في الموت مألوفاً لدي، ويشكل جزءاً من حياتي منذ أن كانت الهياكل العظمية تتنزه في الشوارع في مواكب الأسبوع المقدس. كنت أود أن أعرف. ولكن ماذا أعرف؟ بعد أن كان كل شيء هنا.. ربما لا شيء هناك؟ سوى التعفن ورائحته الأزلية. ومع ذلك فإني أتساءل عن شكل هذه الميتة التي تنتظرني أحياناً. ولمجرد الاسترسال في التسلية، أجد نفسي طافياً في ظلمة كاملة مع جسدي، وبكامل قواي المستعدة للقيامة النهائية. وفجأة؛ وفي تلك الأجواء الجهنمية يصطدم بي جسد آخر، إنه رجل من سيام، مات قبل ألفي عام، سقط من فوق شجرة جوز الهند.. ثم يبتعد في الظلمات.. وتمر ملايين السنيين، ثم أشعر بضربة أخرى على الظهر؛ إنها إحدى صديقات نابليون... وهكذا أسترسل للحظات متنقلاً وسط الظلام المزعج لهذا الجحيم الجديد، ثم أعود إلى الأرض التي لم أكن قد غادرتها بعد.

وأحياناً أخرى أتساءل عن تلك الصورة التي يمكن أن يتخذها الموت، فأقول إن موتاً مفاجئاً سيكون مدهشاً. لكن خياراتي تتجه إلى موت أكثر تمهلاً، أكثر انتظاراً.. يسمح لي بإلقاء التحية للمرة الأخيرة على الأماكن التي عرفتها جيداً، وشكلت جزءاً من نفسي: باريس ومدريد وطليطلة، والباولار وسان خوسيه بوروا، وأقول وداعاً، أنا راحل ولن أراك بعد الآن، وستستمرين من دوني. أقول وداعاً لكل شيء للجبال، وللينابيع وللأشجار وللضفادع... أقول وداعاً للحياة... أريد أن أموت. فلا يهم أن أموت، ولكن ليس خلال السفر. إن الميتة الشنيعة بالنسبة لي هي تلك التي تكون في غرفة فندق بارد، وسط الحقائب المفتوحة والأوراق المبعثرة للسيناريوهات المحتملة، ومشاريع أفلام مؤجلة، لكنهم حتماً سيغلقون عيني بلمسة أخيرة، ويقولون لي وداعاً بانويل؛ وكأنني أسمعهم، ولكن لا أرى أحداً غير السواد.

ويستعرض لويس بانويل لقطاته السريالية، ووجع ذاكرته الهرمة بوصف قسوة غزوات الفرسان الأربعة، بتصوره بأن الموت الأكثر بشاعة، هو الموت المؤجل، الرحيل الذي يتم تأخيره إلى أجل قريب، أو بعيد عن طريق التقنيات الطبية الحديثة.
ويضيف بأن هذا النوع من الإجرام وصل عنده حد الإشفاق على "فرانكو"، الذي حوفظ عليه حياً بصورة اصطناعية لعدة أشهر، متحملاً آلاماً عديدة، متسائلاً من أجل ماذا؟

إن أطباء القرن مستسلمون للعلم ولرعب التكنولوجيا، بدل أن يدعونا للرحيل عندما تأتي لحظته، ويقدموا لنا دفعة خفيفة؛ كي نستطيع المضي بسرعة أكبر. احترام الحياة الإنسانية لا معنى له، عندما يكون سبباً للعذاب والألم والمعاناة المريرة.

ومع اقتراب لفظ أنفاسه المتبقية في مشهده الأخير، من فلمه الطويل هواجس الرحيل، يستحضر سؤاله الأزلي المؤرق: لم يبق إلا شيء واحد آسف له، هو عدم معرفتي إلى أين الرحيل؟ وما الذي سيجري؟ وأعترف أخيراً بالرغم من كراهيتي للإعلام، أتمنى أن أستطيع النهوض من قبري، من بين الأموات، مرة كل عشر سنوات، وأذهب إلى أحد الأكشاك في مدريد أو باريس أو نيويورك.. لأشتري مجموعة من الصحف فأقرأ عن كوارث العالم، وفق ما ترويه الأخبار الأخيرة.. كخبر افتخار العالم بأننا نمتلك حالياً قنابل نووية تكفي لتدمير كل أثر للحياة فوق سطح الأرض. وأن التكنولوجيات الحديثة تستطيع أن تخرج الأرض عن مدارها، وتجعلها قاحلة وباردة، تسبح في آفاق غير محددة... وأقرأ أيضاً، بأن استطلاعات الرأي الحديثة أظهرت بأن هنالك حوالي سبعمائة ألف عالم من ذوي الكفاءات العالية، يجهدون أنفسهم من أجل تدمير الإنسانية، ومائتي ألف عالم نبيل فقط يعملون على ابتكار وسائل لحمايتنا من الموت، وصناع السينما هم من هؤلاء الرجال الطيبين.. ويؤكد المخرج المبدع، صاحب الخيال السيريالي في لقطة النهاية؛ أنه بعد أن قرأ كل هذه الأخبار المحزنة، يعود إلى مقبرته، بوجهه الشاحب، متكئاً في طريق العودة على الجدران المائلة، ويستغرق في النوم العميق، في ملاذ القبر المريح. ويدعو أصدقاءه القدامى لفرش الموت، بحضور رجل دين من أجل تدوين الاعترافات الأخيرة، وطلب المغفرة لكل ذنوبه، ثم يستدير إلى الجانب الآخر ويموت.


هوامش: 
1 -  ولد لويس بانويل في 22 فبراير-1900، وتوفي بتاريخ 29 يوليو 1983م
2 - آخر أفلامه كان فيلم "هذا الشيء الغامض، الرغبة"، عام 1977م.
3 - السريالية حركة فنية تعني ما وراء الخيال، وقد أسسها مجموعة من المثقفين والفنانين كرد على الشكلانية الروسية، ويعتبر لويس بانويل المخرج الإسباني أحد مؤسسي هذه الحركة، وقد أخرج فيلم كلب أندلسي سنة 1928 بالتعاون مع رائد السيريالية في فن الرسم سلفادور دالي.
 


لويس بونويل، أنفاسي الأخيرة، ترجمة مروان حداد
منشورات وزارة الثقافة – المؤسسة العامة للسينما، دمشق 2012.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها