الجانب الدرامي من إعجاز القصص القرآني

الإعجاز اللغوي في القرآن الكريم

د. محمود كحيلة

اكتشفت معجزات القرآن الكريم في الطب والهندسة، والفلك والزراعة، والحساب والبيئة، وقد أدركت هذه المعجزات بالخبرة العملية والمعرفة العلمية، التي كشفت حديثاً عن إعجازٍ دراميٍّ للقصص القرآني متمثلاً في دقة التصوير، وعبقرية الحوار الذي تجاوز في صياغته مجمل ما أنجزه البشر من إبداع بهذا المجال على مدى آلاف الأعوام، والدراما في الثقافة غير العربية أكثر تقديراً واهتماماً منها على صعيدنا العربي كما نعلم، إذ توضع عند الغرب المتقدم في مكانة مرموقة ومنزلة رفيعة، بين الممارسات الاقتصادية والقومية؛ لكي تكون مرآة لهم، بينما نحاول عربياً بقدر الطاقة أن نحصي ما فاتنا من معرفة بالدراما، والبحث عن صيغة عربية تمثلنا وتعبر عنا.
 

تفنن الإغريق القدماء في إنشاء قصص تهدف إلى تهذيب الناس، وغرس قيمة الانتماء والوطنية في وجدان الجماهير، التي كانت تعوض بالنقود عن وقتها الضائع في مشاهدة عروض كانت تبدأ مع شروق الشمس، وتنتهي عند الغروب، كانت تستهلك وقت العمل في مجتمع لا يتقن التدبير؛ إذ كان أغلب الناس بلا عمل؛ ولأجل ذلك فكر صنّاعُ الدولة في تعويض الناس عن اليوم الضائع؛ لكي يرتقوا بالضمير العام للمجتمع ليصنعوا بتلك المبادرة الإنسانية أهم حضارة في فلسفة الأخلاق والانتماء في التاريخ، بواسطة توظيف قصص خيالية أسطورية لبث المواعظ ودعم الأخلاق، وإنشاء قيمة الانتماء. ورغم ذلك كل ما تركوه من أدب درامي مسرحي مرموق يبدو بلا وزن أمام دراما القصص القرآني المعجز، التي تجاوزت المعنى البسيط والظاهري والسطحي للدراما، إلى مفهوم فكريّ وفلسفي أدق وأعمق.

تتوالى الأحداث في القصص القرآني بتسلسل متصاعد يسلم بعضه بعضاً، منطلقاً من الخاص إلى العام، ومن الأصغر إلى الأكبر كما تنتظم الحياة؛ إذ ينطوي القصص القرآني على معانٍ ظاهرة وأخرى خفية، وتشتمل القصص القرآنية على تعاليم وقيم مختصرة ومفهومة؛ لكي تصل إلى المتلقي من أقرب الطرق وبأقل عدد من الكلمات بصورة من أروع صور الإيجاز، لمواقفَ يطول شرحها فيما يتعلق بالتفسير وأسباب النزول.

من مظاهر إعجاز القصص القرآني من الجانب القصصي الدرامي، اختيار المتلقي المناسب من قبل التنزيل؛ إذ لم يشأ الخالق سبحانه وتعالى أن يخاطب بتلك الكلمات التي من نور جمهوراً لا يعي ما بها من إعجاز؛ وإنما اختير جمهور متقن للعربية لكي تسحرهم كلمات القرآن، رغم أنها من معجم الألفاظ والكلمات التي اعتادوا عليها، رتبت بطرق لم يألفوها تبهرهم حلاوتها وتسحرهم طلاوتها، ومن المعلوم أنهم حاولوا ما استطاعوا محاكاة القرآن حتى أصابهم اليأس من أن يأتوا بآية من مثله، ويمتاز الأسلوب القرآني بالإيجاز مع الحفاظ على سحر وجمال اللغة العربية، التي كرمها الله عندما جعلها لغة القرآن، وأكرمنا نحن العرب عندما جعلها لغة لنا نتواصل بها وننتسب إليها.

تعتمد الدراما في قالبها العريق والمعاصر على أفكار رئيسة، تصاغ من قصص تجذب الناس بمواقفها المختارة بعناية فائقة من الواقع والتاريخ والخيال، ومعروضة بمهارة، إلا أن كل ما أنتجته الإنسانية عبر تاريخها الطويل مع الدراما في الغرب والشرق، يظل قليلاً باهتاً هزيلاً أمام القصص القرآني لأسباب عدة، منها أنها حكايات حقيقية أجراها الخالق، وحفظها في كتابه الكريم لما بها من حكمة وعبرة وموعظة حسنة تنفع الناس، وتبقى ما بقيت الحياة، والدراما التي ننتجها نحن البشر مهما بلغت من بعد نظر وخيال ومبالغة، تبدو محدودة أمام وقائع الواقع التي تفوق الخيال بالقصص القرآني.

ينصح كتّاب الدراما بالسعي نحو الوصول إلى المعاني المرجوة بأقل عدد ممكن من الكلمات، لضمان تحقيق إيقاع سريع لما يصاغ من حوار، وما يقترح من أفعال درامية فيما يسمى بالسيناريو الدرامي، وهو التعبير الذي يوصل المعاني من دون أن يرافقه كلام، ونموذج ذلك مشهد مواجهة سحرة فرعون لأكثر الأنبياء ذكراً في القرآن الكريم "موسى" عليه السلام، الذي بادر وهو الطرف الأضعف على أرض المشهد الدرامي أمام سحرة يدعمهم الفرعون قائلاً: (ألقوا ما أنتم ملقون) [يونس: 80]، وهذا وضع يكسب الموقف بعض المرح، ويجلب كوميديا تنقل الدراما من قالبها الإنساني والوجداني إلى حيث التأمل والعقل، الذي يستعد لاستقبال القادم في ترقب واهتمام، وما أن يلقي السحرة حبالهم وعصيهم ويستحسن ذلك الجماهير المندفعة لتشجيع سيدهم الذي دعاهم للحفل، صاحب السلطة والملك والجبروت، ولما يطمئن السحرة أنهم سحروا أعين الناس، وعلى وشك الانتصار يرجعوا الفضل إلى الفرعون: "وقالوا بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون" [الشعراء: 44].

وهنا يشتعل المشهد وتنطلق الدراما نحو آفاق لا قبل لبشر بها، ولو لم تجرِ على أرض الواقع لما قدر بشر على محاكاتها؛ إذ ينتصر فرد واحد على حشد عظيم من البشر، وإله بشري زائل متمثل في الفرعون، الذي جعله غروره يقرر أن يتسلى بموسى عليه السلام؛ لكي تتمتع البشرية بالمفاجأة الكبرى في قوله تعالى: (فألقى موسى عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون) [الشعراء: 45].

وهكذا؛ تبدل الحال وتسبب إلقاء عصى موسى عليه السلام في إلقاء السحرة سجداً أمام الجماهير، الفعل الذي زلزل عرش الفرعون أمام شعبه، والأكثر إعجازاً أن السحرة الذين استعان بهم لتحجيم موسى عليه السلام أشهروا هم أنفسهم العصيان: (فألقي السحرة ساجدين) [الشعراء: 46]. سجد السحرة لرب موسى الحاضر رغم الغياب الظاهري، وانقلبوا على الفرعون الغائب بالحضور، والذي أوشك دوره على الانتهاء، حيث سقطة البطل في النهاية التراجيدية التي ترسخ لها الدراما، والتي تجلب التطهير وتحرض على احترام الآخر وتدعم مكارم الأخلاق.

الجملة الحوارية الواحدة في القرآن الكريم يمكن صياغتها بعدة طرق، بينها فروق طفيفة وتنطوي على معانٍ عميقة منها قوله تعالى على لسان إخوة يوسف: (وإن كنا لخاطئين) [يوسف:91]، وتكرر الأمر في آية تالية من نفس السورة، مع زيادة حرف واحد في الكلمة الأولى والكلمة الأخيرة، رغم أن الجملة كلها مكونة من كلمات ثلاث هي: قوله تعالى (إنا كنا خاطئين) [يوسف: 97]، والمعنى واحد تقريباً، حيث اعتذر إخوة يوسف عليه السلام عما ارتكبوا من آثام، واعترفوا بما ارتكبوا من خطأ بحق يوسف، ويوجه الحديث ليوسف في المرة الأولى؛ لذلك جاءت (إن) مخففة، وتؤكد الجملة باللام كونهم أدركوا أن ما فعلوه من ذنب بحق يوسف عليه السلام، تألمت به ضمائرهم؛ وكأنهم رأوا أن فعلهم لكي يتخلصوا منه كان لصالحه على أرض الواقع؛ إذ أعزه الله ورفعه من قاع البئر إلى العزة والمجد والكرامة، وهو في وضعه الآني فهم إرادة الله الحق التي تحكمت بفعلهم، كما تحكمت في عاطفة زليخا الزائدة عن الحد معه، والتي أودت به إلى السجن الذي كان أيضاً خطوة تالية على طريق الوصول؛ كي يصبح يوسف عليه السلام عزيز مصر، وكل ذلك جعله يستغفر لهم الله من دون أن يطلبوا منه ذلك، بينما في الجملة المشابهة التي كانت في حوار لهم مع الأب والوضع مختلف، جاءت بأسلوب توكيد عبر تشديد النون (إنا)، ومجيء (نا) لتثبيت الفعل الخاطئ لهم بحق أبيهم، الذي حرموه بفعلهم من أحب الأبناء إليه، وأقربهم إلى قلبه ولوقت طويل، ولم ينل من ذلك إلا الحزن والبكاء إلى حد فقد البصر. ولذلك أجل الاستغفار لهم رغم أنهم كانوا يستعجلون أن يسامحهم ويغفر لهم.

الإعجاز القرآني ثابت بكل الأنواع الأدبية والأنشطة الإنسانية؛ لأن معجزة القرآن لم تتوقف عن الحضور لحظة في أي مشهد من مشاهد الإنسانية؛ لأنها قادرة على السيطرة على فكر ووجدان الشعوب بما تنطوي عليه من معجزات نلمحها مثلاً في تأثير الآية الكريمة بسورة الروم: (ألم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون) [الروم: 2- 3]، والروم كانوا قوة عظمى تسيطر على الأرض وقت نزول الآية الكريمة، وكان الروم قوم كتاب بعد إعلانهم المسيحية ديانة لهم في القرن الرابع الميلادي، وأهل الكتاب أقرب إلى المسلمين من الوثنيين، ولذلك كان المسلمون يشجعون الروم بعكس الكفار، الذين كانوا يتمنون هزيمة الرومان، وكانت سعادتهم تزيد وتستمر كلما مر الوقت، ولم يتحقق ما نزلت به الآية الكريمة إلا في اللحظات الأخيرة التي أكدت عليها الآية الكريمة بدقة متناهية وهو: (بضع سنين) [الروم: 4]، وكلمة بضع تشمل الأعداد من ثلاثة وحتى تسعة، وفتحت مجالاً أوسع للترقب والانتظار، كما يفعل صناع الدراما يؤجلون النهاية التي يمكن أن تستشفها منذ البداية حتى لحظة الختام والنهاية، وكلما بعدت من دون ملل كان ذلك ممتعاً للمتابع.

 كان النبي محمد صلى الله عليه وسلم على يقين أن الروم سيغلبون، وأن كلام الله جل في علاه إن لم ينسخ فلا بد من أنه سوف يتحقق، ولذلك غلب الروم، وتحقق قول الحق في لحظة دقيقة تجعلها معجزة من معجزات الدراما للقرآن الكريم؛ إذ تأخرت طويلاً ولكنها جاءت ككل الأحداث التي نتعجلها في موعدها، وينسحب ذلك أيضاً على سورة المسد التي هدد فيها أبولهب بقوله تعالي: (سَيصلى ناراً ذات لهب) [المسد: 1]، وكان أبو لهب يعرف أنه لو أعلن إسلامه ولو على سبيل التظاهر والنفاق، كما فعل المنافقون لأوجد مدخلاً للنيل من معجزة القرآن، ولكنه لم يفعل لأن الخالق أدرى به من نفسه، ويعلم علم الغيب، ويعلم ما يخفي على العالمين.

يوصي خبراء الدراما الجيدة بتكوين جمل وأفعال تسرد الماضي، وتقر الحاضر وتستشف المستقبل، وينطبق ذلك على محكم آيات القصص بالقرآن الكريم، الذي يعد أعظم مرجع لتعليم لغة الدراما، وكذلك الحادثة أو الصراع الذي نرى نموذجاً له في قصة يوسف عليه السلام عندما يتصارع الإخوة، ويتطور الأمر إلى العنف والإجرام من غير مبالاة بصلة الدم والرحم، وهذه علاقات إنسانية مستمرة ومتكررة، وما زالت أشرس الصراعات تكون مع أقرب الناس؛ وكأن المرء لا يجد منافساً من غير أقرب الناس، وتتميز قصة يوسف عليه السلام عن بقية القصص بورود أهم وقائعها في سورة واحدة من سور القرآن هي سورة يوسف، بينما جاءت بقية القصص متفرقة بين السور، ومنتشرة بين الآيات بصورة كبيرة، حتى تصل نسبتها إلى ما يقارب ثلث القرآن الكريم.

تكرار الأقوال والأفعال قد يسبب مللاً لدى القارئ والمتلقي إلا في الدراما، عندما توضع بعناية في مواقف مختارة، ويسمي التكرار عند صناع الدراما "لازمة"؛ وكأنها من مستلزمات الموقف أو الشخصية الدرامية، وتتكرر جملة كريمة واحدة إحدى وثلاثين مرة في سورة الرحمن هي قوله تعالي: (فبأي آلاء ربكما تكذبان) [الرحمن: 13]، وكان تكرارها لازم لتنبيه القوم إلى لا نهائية نعم الله، وجعل جل في علاه هذا الفاصل القرآني يفصل الحديث بين كل نعمة وأخرى، بغية الرجوع إلى رأي المخاطب لكي يصدق بنفسه على قول الخالق، وهذا بلغة الدراما سلوك ملحمي يهدف إلى دمج المتلقي في الحالة القرآنية؛ كي يسهم في اكتمال المعنى إلى جانب إحداث تلاحم بين كلام الله، وبين جمهور خلقه؛ لأنهم المستقبلون لرسالته سبحانه وتعالى، ومن أهم أسباب تميز دراما القصص القرآنية خلوها من الأهواء ومن الرياء والنفاق، ومن مفاسد الأخلاق لذلك هي منتج طبيعي خال من التصرف البشري المفسد للأشياء.

ختاماً؛ هذه محاولة لفتح نافذة على الإعجاز الدرامي للقصص القرآني، ابتغاء تأمل تلك المعجزة الربانية في ضوء ما من الله به علينا من علم، وما أكرمنا به من معرفة وعلى سبيل ما أمرنا به من تدبر لأمور الدين، إذ لا دين بغير علم كما قال الإمام الغزالي "إن الدين دواء والعلم غذاء، وليس الدواء بمغنٍ عن الغذاء، وليس الغذاء بمغن عن الدواء"

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها