مِن أشهرِ رسّامي القرنِ التاسعِ عشرَ..

أوجين ديلاكروا: مدرسةٌ أبديّة في فنَّ الرسمِ

عبد الرحمن مظهر الهلوش



 

فرديناند فيكتور أوجين ديلاكروا F. V. Eugène Delacroix (1798 -1863م) رسام فرنسي من رواد المدرسة الرومانسية الفرنسية. وُلِدَ في قرية شارنتون سان موريس قرب باريس، له العديد من اللوحات الفنية المحفوظة في متحف اللوفر والمتاحف العالمية الأخرى. ولم يكن ديلاكروا يرسم فقط، بل عَمِلَ بالأدب والسياسة.

 


مدارس ولوحات

بعد تركه المدرسة في سن السابعة عشر، التحق في مدرسة الفنون الجميلة. وبدأ بدراسة الفن على يد الرسام الأكاديمي البارون بيير نارسيس غيرين، وتأثر بمايكل آنجلو، وكذلك تأثر بالفنان الإسباني فرانشيسكو دي جويا، والفنان الفرنسي تيودور جيريكو. وكذلك بيتر بول روبينز كما ظهر في عمله (دانتي وفيرجيل في الجحيم) الذي عرض عام (1882م). كان الرسام الرومنطيقي الفرنسي أوجين ديلاكروا في العشرينيات من عمره عندما تفتقت عبقريته عن مجموعة لوحات تُعَدُّ رائدةً في التيار الرومنطيقي ومُؤَسِسَة له، مثل لوحته العملاقة (موت ساردا نابالوس)، و(مذبحة كيوس)، إضافة إلى تحفتهِ الشهيرة (الحرية تقود الشعب) التي رسمها وهو في الثانية والثلاثين من عمره عام 1830م.


سحر مع المأساة

يُعَدُّ أوجين ديلاكروا من أشهر الفنانين الفرنسيين والعالميين الذين ارتبطت أسماؤهم بالحركة الرومانتيكية، والشخصية الأبرز في ميدان الاستشراق الفني. لقد أعاد ديلاكروا اكتشاف روح (مايكل أنجلو)، و(روبنس)، ولكن الأعمال الكبيرة التي أنجزها بفضل تأثيرهم، هي شيء مختلف تماماً. وقد تم إنشاء غالبية أعمال ديلاكروا من الأدب؛ ولديه أعمال استوحيت من الشعراء اللورد بايرون وشكسبير، على وجه الخصوص. ويوصف ديلاكروا بِأَنَّه شخصيةٌ محورية في العصر الرومانسي للفن الفرنسي. في النظر في أعمالهِ ككل، حيث بدا أنّ لديه سحراً مع المأساة. وتصور أعماله الناجحة ساحات القتال وعمليات الإعدام والشدائد.

وكان ديلاكروا منذ بداية اشتغاله بالرسم مفتوناً بجموح ووحشية الحيوانات. ولطالما أثارت اهتمامه، بشكلٍ خاصّ، الخيول وصراعاتها الدامية فيما بينها. وهو أمر رآه بعينيه أثناء زيارته لشمال أفريقيا. وضمن هذا السياق، تندرج لوحاته (أسد يهاجم حصاناً)، و(صيد الأسود)، و(عرب يتقاتلون في الجبال). وقد ألهمت رسوماته عن الحيوانات، والخيل خاصّة، عدداً من الرسّامين مثل الفنان الإنجليزي جورج ستبس الذي رسم الخيل في عدد من لوحاته. وفي لوحة (أسد يهاجم حصاناً). يصوّر ديلاكروا منظراً لجوادين عربيين يتقاتلان بضراوة داخل إسطبل، بينما يحاول حرّاس الإسطبل التدخّل لوقف عراكهما. وقد شرح ديلاكروا ذات مرّة مغزى افتتانه برسم مشاهد العِراك بين الحيوانات بقوله: (الإنسان نفسه مخلوق همجي، والبشر في واقع الأمر ليسوا أكثر من نمور وذئاب مدفوعة برغبتها الكامنة في تدمير بعضها البعض). وأصبحت تلك اللوحات التي رُسِمَتْ في عقر دارنا تُعَدُّ من نفائس مقتنيات المتاحف الغربية والعالمية.

سيد الألوان

وفي عام (1832م)، سافر البورجوازي الفرنسي ديلاكروا برفقة دبلوماسي يُدعى لوكونت دي مورناي إلى المغرب، حيث تمكّن ديلاكروا من أن يشقّ طريقه إلى مجتمع النساء وعالم الحريم الغامض. وعندما شاهد ديلاكروا عالم الحريم لأوّل مرة أسكره المنظر وأحسّ بالدهشة والافتتان. وقد شكلت لوحاته تصويراً واقعياً لذلك العالم السريَّ. فكان تصويرهن بأشكال عدة وهنّ يرتدين لباساً شفافاً أو سراويل عريضة لمزيد من الاهتمام والاستثارة. وقد زامله الفنان (بيار أوغست رينوار) (1841-1919) أحد أهم رواد المدرسة الانطباعية. حيث أصبح ديلاكروا (سيداً للألوان)، وكان من ضمن تيار الفنانين الذي أسسوا الحركة الرومانسية واستخلصوا من تقنياتها أعمالهم الفنية؛ إذ كان يعتقد دائماً أنّ ثقافة شمال أفريقيا وأسلوب حياة أهلها بما تنطوي عليه من حيوية وغرابة، في منتصف القرن التاسع عشر، كانت صورة مصغّرة عن الحياة زمن الإغريق والرومان.

رحلة إلى بلاد الشرق

وكان من أشهر لوحاته التي رسمها أثناء زيارته لبلاد المغرب العربي: (طنجة) (1838م)، و(مغربي يسرج حصانه) (1855م)، ولوحة (سلطان المغرب) عام (1845م)، و(زفاف يهودي في المغرب) (1839)، ويبدو هنا تأثره واضحاً بسفرته إلى شمال أفريقيا.

وتبقى لوحة (ثلاث جزائريات في مخدعهن) (1830) أجمل ما رسم ديلاكروا، حيث كانت تحفة فنية مزج فيها الألوان بدقة متناهية، وبحرص شديد خط التفاصيل الدقيقة لجلسة نساء في غرفة رفقة خادمتهن، بكل ما يحيط بهن من أثاث شرقي مخملي، وملامح الوجوه. ولعلّ أهمّ ملمح في هذه اللوحة هو حركة الألوان والأشكـال فيها وتلقائية شخوصها وتفاصيلها. حيث اعتبرها كثيرون إيذاناً ببدء الحركة الاستشراقية في الثقافة والفن. يقول ديلاكروا: "إننا لا نرسم بالضرورة ما نراه، ولكن ما رأيناه يوماً ونخاف ألاَّ نراه بعد ذلك أبداً".

كما ساهمت أعماله التي رسمها في بلاد المغرب العربي في اندفاع الفنانين الفرنسيين إلى الشرق للبحث عن مصادر الإلهام في لوحات ديلاكروا، وخاصة بعد مقولته الشهيرة عن بلاد أفريقيا: "عند كل خطوة، هناك لوحات جاهزة للرسم". وتُعَدُّ رحلة ديلاكروا الشهيرة إلى المغرب في عام (1832م) محطة فاصلة في التفاعل بين الشرق والغرب، حيث اعتبرها أندريه مالرو فيما بعد نقطة انعطاف في التصوير الفرنسي، وبداية التحوّل من الرومانسية الاستشرافية إلى بدايات الانطباعية. وعلى العكس من الكثير من معاصريه الذين كانوا مهتمّين بأفكار اليونان وروما القديمة وتصويرها في أعمالهم، فضّل ديلاكروا أن يرحل إلى بلاد الشرق، حيث انجذب إلى شعوبه وصوّر تقاليدهم وأزياءهم في أعماله.

العصور العتيقة

لقد وقع للفنان يوجين ديلاكروا ما وقع للإسكندر الأكبر حينما انتصر على الفرس ودخل إلى بابل. ودهشته حضارة بابل بأبوابها وحدائقها المعلقة وتصميمها الرائع؛ إذ قال لمرافقيه من المقدونيين: "ليت أفلاطون يأتي إلى هنا ليرى بأم عينيه هذه الحضارة". حيث بقي (ديلاكروا) ينهل من كنوز ما ادخره من خلال إقامته في الشرق حتى نهاية حياته، تاركاً أروع اللوحات الشرقية العربية. فقد برع في تصوير العلاقة الحميمة بين العربي وحصانه، حيث كانت النظرة العربية للخيول لها دلالات دينية وروحانية واجتماعية.

هنا خُيّل إلى ديلاكروا أنّه عثر على جوهر كل حقيقة وكل جمال وأعاد اكتشاف العصور العتيقة من جديد. وخلال النصف الأول من القرن التاسع عشر اعتلى عرشاً فنياً لم يزحه عنه سوى مجيء الانطباعيين الذين انطلقوا في فنونهم من مواقف تتناقض كلياً مع مواقفه، ومن هنا قد ندهش كثيراً، مثلاً حين يخبرنا الكاتب/الفنان ديلاكروا أنه يفضل بيتروس روبنز والفنان الإيطالي باولو فيرونيزي على ليوناردو دافنشي والإيطالي رافاييل سانزيو. غير أن تلك الدهشة سرعان ما تزول حين نربط هذه المعلومة بفن ديلاكروا. فهو فن رومانطيقي. وبالتالي هو فن لا يحب الواقعية. ثم، بعد ذلك، لا ينسينا ديلاكروا هنا أنّه يخوضُ في هذا معركة بالغة المعاصرة تستمد عناصرها من تاريخ الفن، أَمَّا الخصوم فيها فهم المعاصرون من الرسام الفرنسي كوستاف كوربيه الذي يكره (ابتذالية مواضيعه الوضيعة)، إلى الرسام والمستشرق الفرنسي جان أوغُسْت آنْغْرْ الذي ينقل المشهد كما هو حتى وإن كان مشهداً تاريخياً.

أَمَّا فن ديلاكروا فيهيمن عليه مبدآن لا تراجع عنهما: رفض تام للواقعية، وتركيز على اللون بوصفه وسيلة التعبير (الوحيدة) في اللوحة.

ما بعد الموت

كان مشوار ديلاكروا الفني حافلاً بالأعمال الناجحة على مدى أربعين عاماً لم يكرسها الفنان الفرنسي لشيء آخر سوى الفن. فقد كتب الشاعر بودلير مقارناً بين أسلوب الرومانسيين فيكتور هوغو في الكتابة وديلاكروا في الرسم "ديلاكروا يتناول موضوعاته بذكاء حميمي، وبينما يكتفي هوغو بانتزاع القشرة يصل ديلاكروا إلى غاية الأحشاء". وهكذا استمر ديلاكروا في الرسم حتى نهاية حياته، إلاّ أنه قرب نهاية حياته كتب عن إرثه متسائلاً: "ماذا سيفكرون بي عندما أكون ميتاً".

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها