في مدح السفر.. وتعدده بتعدد أغراضه

د. العربي إدناصر

السفر لحظة فريدة على وقع الحركة التي تكسر روتين الأحداث والمعيش اليومي الاجتماعي والمهني، وتأتي تعويضاً عن كدّ ناتج عن تفرغ طويل، والسفر يكون للتجارة والعمل، كما يتم من أجل الدراسة والتكوين، ويكون لغاية الاستطلاع والسياحة، كما يصدر عن حاجة ماسة كالتطبيب والعلاج، فالسفر أسفار بتنوع وتعدد أغراضه.

 

سافِر وجِدّ لتَجِد فتَجود

وفي أصل نشأة الخلق وفلسفة وجودهم وخلقهم، نجد القرآن يلح على أصل التعارف بين الأمم والشعوب والقبائل، والتعارف عبارة تفيد التلاقح والمشاركة في تبادل المعارف والمعلومات والخصوصيات، وهذا لا يتم إلا بالملاقاة والاحتكاك والمقابلة، بحيث تلتقي الأفكار والتجارِب والخبرات، ويتم التلاقح والتبادل والترافد، وفي الغالب الأعم يحصل هذا الطلب بعد بذل مجهود فكري يسبقه إقدام وحركة نحو الجهة التي يحصل معها الحوار.

ولقد استجاب الرّحالة والعلماء المسلمون لنداء القرآن، وهو يدعوهم إلى السير في الأرض والمشي في مناكبها، للنظر في الأنفس والآفاق والاعتبار بتجارب الأمم، وقد عدّ القرآن الكريم رحلة قريش إلى اليمن شتاءً، وإلى الشام صيفاً من نعم الله تعالى عليهم التي تستوجب الشكر؛ إذ مَنَّ عليهم بها لكي يعرفوا فضله وآلاءه، ثم يستجيبوا لأمره والإيمان به.

ولعل ما يفسر كثرة الانتقال والتّرحال في أرجاء العالم الإسلامي، أن الأمة الإسلامية أمة واحدة وبلد واحد، أو كما يعبر فقهاء الشريعة أن دار الإسلام دار واحدة لا يحتاج المسلم فيها إلى جواز سفر ولا إلى إذن دخول من أحد، فالبلدان الإسلامية كلها وطنه ومستقره، ولذلك انتشرت الرحلات بين أبناء الأمة الإسلامية قديماً وحديثاً، تكريساً لهذا المبدأ في وحدة الأرض والجغرافيا الإسلامية، وتأكيداً لمبدأ آخر وهو أن المسلمين والمؤمنين جميعاً إخوة في العقيدة، ولو اختلفت أجناسهم وأوطانهم ولغاتهم وألقابهم وألوانهم.

ويلاحظ أن بعض الأعلام يتم تحليتها بأسماء جغرافية، بحيث إنه يلقب بعضهم بمكان استقراره دون مكان مولده، فيشتهر بالمستقَر بناء على كونه أنتجَ وأبدع هناك أكثر من مكان مولده، ومنهم من تزوج من بلاد أخرى وامتهن العلم والقضاء والإفتاء والحرف اليدوية في بلد لم يشهد فيه ولادته، وصار إرثه الرمزي كله موصول الصلة بموطن إقامته، دونما اعتبار للمنشأ ومسقط الرأس.

ولهذا يفضل النوابغ دوماً الغُربة مع ما فيها من النفي للذات إلى غير موطنها، ولكنها مع تحصيل المنافع والمعارف هي أقرب إلى موطنها النفيس، حيث تغدو كل معرفة يحصلها المغترب وطناً جديداً يستكشفه ويسبر أغواره.

وقد قال الجاحظ يوماً: "قسم الله تعالى المصالح بين المقام والظعن، وبين الغربة وإلف الوطن، وبين ما هو أربح وأرفع، حين جعل مجاري الأرزاق مع الحركة والطلب، وأكثر ذلك ما كان مع طول الاغتراب والبعد في المسافة، ليُفيدك الأمور، فيمكن الاختبار ويحسن الاختيار" [رسائل الجاحظ: بيروت، دار الكتب العلمية، 3/82].

وقال ياقوت الحموي عن الجوهري صاحب معجم الصحاح إنه كان: "يؤْثر السفر على الحضر، ويطوف الآفاق، واستوطن الغربة على ساق" [معجم الأدباء: تحقيق إحسان عباس، بيروت، دار الغرب الاسلامي، ط1/1993، 2/656].

وقياساً على قول ديكارت حسب ترجمة طه عبد الرحمان "للكوجيطو": أنظر تجد، قال الشافعي في أبياته الشعرية:
سَافِرْ تَجدْ عِوضاً عمّنْ تُفارِقُه ** وانصبْ فَإنَّ لَذيذَ العَيْشِ في النَّصَبِ

فالسَّفر إذن سِفر وكتاب منظور؛ لأنه يفتح عين الباحث والمسافر على عالم ليس متوفراً بجانبه، بل يحتاج إلى مجهود بدني ومادي وفكري حين ينشد أغراضه، فهي بطبيعتها ليست متاحة للكسلان والمتعجل وفاقد روح المبادرة والمغامرة.

فالسفر ضرب في الأرض وانتشار في أرجائها، ينتقل من خلاله الناس لتحصيل المنافع وجلب المصالح ودفع المساوئ، وكما يسافر الأشخاص تسافر الأفكار والمنظومات والقيم، فتنقل البرامج والخطط والوظائف، فتطأ أرضاً جديدة تولي وجهتها، فتخضع للتبيئة والتنقيح والتلقيح، أو قد تلقى الجحود والصد والمناعة، فتكبح حركتها في الانتشار وتمنع تجذرها، بحسبانها تهدد ما جاءت لتغييره، وقد تنتهي إلى الموافقة معها ويحصل التفاعل أو التناسخ.

وهكذا أمكن للقيم المنقولة أن تسافر كما يسافر الأشخاص، وأمكن لها أن تشارك في إحداث تحولات ذاتية وجانبية تأثيراً وتأثراً، وبفعل هجرة الأفكار أمكن للحضارات أن تتلاقح وتتفاعل على نحو ما حصل في أعمال الترجمة، وقد كان لبيت الحكمة فضل كبير على الثقافة العربية أيام العباسيين زمن المأمون، حيث نقلت المجتمع العربي إلى العالمية والشهرة، فبفضلها نقلت علوم اليونان إلى الغرب مترجمة باللسان العربي، وصار مترجمون من العرب رواداً للثقافة العالمية حينذاك، وآلت الثقافة العربية في الفلسفة والطب والفلك والصيدلة إلى قطب الرحى في المعرفة الإنسانية وإلى مركز الفعل الحضاري، في وقت ما زالت الحضارة الغربية سجينة الرؤية المسيحية التقليدية في رؤية الكون والإنسان والحياة.

وبفعل الترجمة التي هي نوع من هجرة الأفكار، أكمل ابن رشد مسيرة تذليل صعاب النص اليوناني الفلسفي، بدافع من شكوى حملها ابن طفيل إلى ابن رشد نقلها عن الأمير المراكشي الموحدي أبي يعقوب يوسف، اشتكى فيها قلقاً في عبارة أرسطو وغموضاً في أغراضه، فطلب منه أن يرفع هذا اللبس الذي ألحقته الترجمات بهذا المتن، فكانت شروح وتلخيصات ابن رشد مُنية المتطلع في تحقيق هذا الغرض، وفي إنجاز تداول معرفي ولغوي وحضاري على مشترك إنساني واعد. انظر: [عبد الواحد المراكشي، المعجب في تلخيص أخبار المغرب: تحقيق محمد سعيد العريان، ط القاهرة، سنة 1963، ص: 315].

ولذلك فالسفر يصير مطلوباً وواجباً في مواقف معينة، فالعلم مثلا بما هو سلعة نادرة فقد يقتضي الحال أن يسافر من أجله المرء أميالا كثيرة، لمن يحسن اصطياد الوقائع والمشاهد التي تحصل بين يديه وأمام مرآه، ولهذا حتى من الناحية الإيمانية يصير طلب العلم فريضة على كل مسلم؛ لأنه بالعلم تحصل المعرفة بالله وبمخلوقاته وتتحقق التجربة الإيمانية في أرقى كمالاتها، وتتخلق الحياة في أبهى صورها، ويندمج الإنسان في جدلية مع الغيب والطبيعة، في تفاعل وتناغم تحصل في دورته مقاصد العبادة والخلافة والعمران.

أدب الرحلة وتثوير مقاصد السفر

إن الرَّحالة الكبار لهم تجربة ماتعة ومفيدة مع السفر، فلولا سفريات هؤلاء لما عرفت البشرية قسطاً كبيراً من الجغرافيا، ولما تحقق لبعضهم اكتشاف مواطن مغمورة من الكرة الأرضية كاكتشاف الهند والسند وأمريكا، وقد قدم لنا الرحالة درساً في منافع الحركة في الأرض، وفي الانتشار في مناكبها، وكأنها تقليب في صفحات كتاب الكون الماتع، تُجلي عن شوارده وتُحلي فوائده.

ولهذا نعى المؤرخ المسعودي على القانعين بما يحصل لهم من فوائد زهيدة نظير ميلهم إلى الدّعة والخمول، دون المبادرة إلى ركوب المخاطر والسفر لأجل تحصيل العلوم والفنون، قائلاً لهم: "ليس من لزم جهة وطنه وقنع بما نمى إليه من الأخبار من إقليمه، كمن قسم عمره على قطع الأقطار، ووزع بين أيامه تقاذف الأسفار، واستخراج كل دقيق من معدنه، وإثارة كل نفيس من مكمنه" [مروج الذهب ومعادن الجوهر: بيروت، دار الكتب العلمية، ط3/1433-2012، 1/5].

ومن مقاصد السفر وأغراضه نشأ علم أو أدب يُعنى بتدوين مشاهدات الرحالة والمغامرين، الذين يرحلون إلى بلدان أخرى بعيدة لأجل الاكتشاف والتعلم وصيد الفوائد، ومن هنا ظهر ما يسمى بأدب الرحلة، حيث يرحل المثقفون من الجغرافيين والمهتمين بالتاريخ والحضارة، أو من الفقهاء والإصلاحيين إلى أماكن لم يطأوها من قبل، حيث يسجلون في ما دَوّنوه ما شدَّ انتباههم من نوادر وفلتات، في الاجتماع والثقافة والسياسة وغيرها.

ولما تفوقت الحضارة الغربية على الحضارة الإسلامية، ظهرت في العالم الإسلامي الحاجة إلى الإلمام بأسباب التقدم عند الآخر مقابل التأخر الذاتي، فأرسلت بعض البلدان العربية بَعثاتها إلى أوروبا لأجل التعلم والتكوين في المعارف العصرية وفنونها، والوقوف عن قرب على مظاهر اليقظة الغربية، من هنا ظهرت كتابات تصف هذا العالم الجديد المزدهر بألوان الرقي المادي والفكري، وفي ذلك كتب الشيخ رفاعة الطهطاوي سِفره "تخليص الإبريز في تلخيص باريز"، وكتب الصَّفَّار رحلته أيضاً إلى فرنسا، وأنجز محمد بن الحسن الحجوي الثعالبي كتابه "الرحلة الأوروبية"، وفي هذه المؤلفات يحتفظ هؤلاء بملاحظاتهم ويدونون إعجابهم وفرط تقديرهم لنواحي الازدهار الأوروبي.

وقبْلهم كتب ابن حوقل عن "صورة الأرض"، ودوّن ابن بطوطة وابن جبير وابن خلدون رحلتهم وتجربتهم في طلب المعرفة واستكشاف العالم، حين كان العالم الإسلامي وثيق الصلة بأنواع الإبداع والرقي العلمي، حيث كان العرب يصَدرون المعرفة إلى العالم، ويبصمون وجه التاريخ بطابع الملكية الفكرية والسبق المعرفي.

وهناك نوع مشتهر من السَّفريات، حيث كان المسلمون في أرجاء المعمورة يحجون إلى بيت الله الحرام لأجل أداء مناسك الحج، ويُصاحب هذا السفر الميمون سفر آخر من أجل تحصيل العلم ومقابلة الشيوخ؛ لأجل أخذ الأسانيد وأخذ المشيخة في الرواية والدراية، ولذلك ظهرت طرق في نقل العلوم الغرض منها تقوية طرائقه وضبط قوانينه في الأخذ والتبليغ، ومنها اللُّقيا والمُناولة والمُكاتبة والتحديث والإجازة وغيرها...

وقد عرف هذا النوع من الرحلات بالرحلات الحجازية، وقد كتب فيها كل من: محمد السنوسي ومحمد موسى الفاسي، وجمع المؤرخ عبد الهادي التازي في مصنفه "رحلة الرحلات" نحو 101 رحلة مغربية إلى مكة، وقدم الدكتور يوسف حسن العارف في كتابه "الرحلات الحجية، قراءة في المتن والمضامين" نماذج أخرى من الرحلات إلى الحجاز، وهي لنخبة من الأعلام المسلمين والمستشرقين في العصرين الحديث والمعاصر.

وثمة صنف آخر من الرحلات الذي يقوم به التجار وأصحاب المال، الذين يجوبون الأقطار بحثاً عن الربح وكنوز التجارة في المشرق والمغرب، ومع كون هذا النوع لم ينقل إلينا كتابة فإنه ترك آثاره جلية في المدى البعيد، إذ إن بعض هؤلاء التجار كانوا على دراية بالمعرفة والعلوم والفنون، فنقلوها إلى البقاع التي زاروها، ثم نقلوا عنها تراثها وحضارتها، ومنهم أصحاب الدعوة الحسنة إلى مكارم الأخلاق وسفراء الكلمة الطيبة العابرون للقارات في إفريقيا وآسيا، حيث ساهموا بقسط وافر في تبليغ الدين وأحكامه إلى أمم وشعوب نائية لا تدين بالإسلام، فكانوا أصحاب الحُسنيين: التجارة مع الله والتجارة مع الخلق.

فالسفريات إذن أنواع وأصناف وأحوال، منها السياسية (البعثات الديبلوماسية)، ومنها العسكرية (الغزاة)، ومنها الاقتصادية (التجار)، ومنها الدينية (الدعاة والحجاج)، ومنها العلمية (المصلحون والجغرافيون والمحدثون)، وغيرُها التي دَوّنها أصحابها أو نُقلت عنهم، وبعضها أطبقت شهرتها الآفاق لما فيها من السوابق العلمية والفتوحات المعرفية، كرحلة ابن بطوطة الطَّنجي التي استغرقت حوالي 30 سنة، وقد حوت فنوناً من الحكي والسرد والنقل والوصف، وتعد بمثابة دائرة معارف أو "بانوراما" ثقافية للأماكن والأجناس والثقافات التي احتك بها، فرحلته اقتبست من التاريخ والجغرافيا والأنثروبولوجيا والإثنوغرافيا والأدب والفنون المعمارية والشعبية وغيرها، ولذلك ترجمت إلى أكثر من لغة.

إن السفر أو الرحلة بهذا المعنى لم يعد قطعة من العذاب، لما ظهر منه الفضل الكبير والإحسان الوفير، فقد فتح العالم بعضه على بعض، وحمل الأشخاص والأفكار إلى الآفاق، وحصل منه تواشج الأمم والحضارات، وبلغت فتوحاته سائر الأماكن والأزمنة، فعمّ نفعه الإنسان والعمران، ولذلك امتدحه الكتاب والأدباء والعلماء، فهل يُحسن الناس اليوم توظيفَ هذه الحركة المتقصّدة، أمام يسر وسائل التواصل والمواصلات، لأجل إنجاز تعارف حضاري بين الشعوب وتبادل المنافع بين الدول والأفراد والمؤسسات، لأجل رفع قلق جديد، قد وقع هذه المرة في عبارة دالة لأرسطو حين قوله: "الإنسان مدني بطبعه"، فهل يُسهم السفر في تنمية التمدن بين الناس وفي رفع أسباب القطيعة والتنافر بينهم، لأجل دعم سبل الحوار والجوار بينهم، وطرح دوافع الخصام والصدام؟

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها